لماذا أطلق هيثم البكر رصاصة لتصيب يد عدنان خير الله؟ (الحلقة الأخيرة)

أسرار اجتماع صدام والبكر في منزل طلفاح وتفاصيل اغتصاب السلطة و«مؤامرة» الرفاق عام 1979 ولماذا بكى الجزراوي وعزيز؟

TT

نصل هنا الى الحلقة الاخيرة من «مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام»، حيث ادلى من خلالها جواد هاشــم وزير التخطيط العراقي الاسبق، باسرار العمل السياسي طوال فترة حكم حزب البعث العراقي وصولا الى خطط صدام حسين للسيطرة على مقاليد الحكم في العراق ومن خلال أحداث عاشها بنفسه سواء في فترة عمله مع الرئيــس العراقي الاسبق احمد حسن البكر اذ تولى حقيبة التخطيط مرتين، او عمله مباشرة مع صدام كمستشار له في مجلس قيادة الثورة.

في هذه الحلقة يكشف الدكتور جواد هاشم تفاصيل الاجتماع الذي جمع البكر وصدام وهيثم النجل الاكبر للبكر وعدنان خير الله وخير الله طلفاح خال صدام ووالد زوجته، والذي تم في بيت الاخير. ماذا جرى في هذا الاجتماع؟ ولماذا اطلق هيثم رصاصة من مسدسه أصابت يد عدنان؟

ثم اسرار ؟مؤامرة؟ عام 1979 وصعود صدام على جثث الرفاق.

في الوقت الذي كان يحاول فيه صدام توسيع قاعدته الشعبية وإظهار نفسه كزعيم شعبي تلتف حوله الجماهير، كانت أجهزة المخابرات وبعض تنظيماته السرية الخاصة، تعتقل سراً، ومن خلف الستار، كل من تشك بولائه للسلطة، حيث يغيب المعتقل عن الوجود.

وبرغم تفاقم حالات الاختفاء والتغييب القسري والقتل المجاني، كان صمت العالم يثير الدهشة، ولم يهتز ضمير الدول التي كانت تمد العراق بالسلاح والعتاد والمعلومات الفضائية. وليس لديَّ شك في أن الإدارة الأميركية في مساعدتها للعراق وتعاملها معه كانت تتعمد إهمال هذا التجاوز الصارخ على حقوق الإنسان العراقي حتى لا تثير حفيظة صدام. وما يعزز هذا الاعتقاد ما ورد في تقارير للإدارة الأميركية، ومنها التقرير الذي بعثت به مسؤولة شعبة رعاية المصالح الأمريكية في بغداد إليزابيث جونز Elizabith A Jones إلى وزير الخارجية الأميركي في (آب) أغسطس 1980، حيث تعلم وزير الخارجية بأن سياسة صدام في التقرب من الجماهير لها فاعلية إيجابية لدى طبقة الفلاحين والمسحوقين. أما شيعة العراق والأكراد والمثقفون وطبقة المهنيين والفنيين، فلا يُعتقد بولائهم، وبالتالي فإن أجهزة المخابرات تتحرك بهدوء وسرية وفاعلية لتجتث جذورهم والتخلص منهم ومن احتمال قيامهم بما قد يزعزع كيان صدام وسلطته.

وذهب التقرير إلى أبعد من ذلك، ليحذر من احتمالات الخطر القادم من طبقة العسكريين، وينصح بضرورة اهتمام صدام بتلك الطبقة مع مراقبة نشاطها، إضافة إلى التحذير من خطر حقيقي آخر هو الاغتيال برصاصة غادرة أو بانقلاب تحاك خيوطه في ردهات القصر الجمهوري ودهاليزه.

بعد هذا التحذير، يعود التقرير إلى تطمين الإدارة الأميركية إلى أن كفاءة المخابرات العراقية من جهة، ومقدرة صدام وشجاعته من جهة أخرى، كفيلة بالقضاء على أية ثورة شعبية، خاصة أن سياسة صدام في القضاء على خصومه قد برهنت على قدرة فائقة في إزاحة كل من يُحتمل أن يكون مصدر خطر عليه، حتى وإن كان ذلك الخطر بعيد الاحتمال. إن الخطر الحقيقي، كما يقول التقرير، هو الاغتيال الذي حتى وإن وقع، فسوف لا يؤدي إلى تبدل جوهري في سياسة السلطة العراقية الحاكمة واتجاهاتها.

* صدام رئيساً للجمهورية

* الزمان: الاثنين 16 تموز (يوليو) 1979، الساعة تقارب العاشرة صباحاً.

المكان: مسكن خير اللَّه طلفاح.

المجتمعون: أحمد حسن البكر، صدام حسين، عدنان خير الله، هيثم الابن الأكبر للبكر، وخير الله طلفاح.

حضر البكر وهيثم بدعوة من طلفاح لبحث أمر هام: استقالة البكر وتنحّيه عن جميع مناصبه، وإحلال صدام حسين محله في تلك المناصب.

اعترض البكر على هذه الطريقة في التعامل، ولم يوافق على ما اقترحه صدام وعدنان خير الله ابن خال صدام وشقيق زوجته وزوج ابنة البكر.

تأزم الموقف، وسحب هيثم مسدسه وأطلق رصاصة واحدة أصابت عدنان خير الله بخدش بسيط في يده.

تدخل طلفاح لتهدئة الحالة، وبقي البكر رافضاً الاستقالة، لكنه رضخ أخيراً بعدما أفهمه صدام أنه لم يعد يمتلك أي سند أو شفيع لا في الجيش، ولا في أجهزة المخابرات، ولا حتى في الحرس الجمهوري.

كانت كل تلك الأجهزة والتشكيلات قد أُفرغت من مؤيدي البكر وأعوانه.

قبل البكر ووقّع على خطاب كان قد أُعد له ليذيعه شخصياً عند الساعة الثامنة مساء اليوم نفسه من إذاعة بغداد وتلفزيونها.

عقدت القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة عصر ذلك اليوم، اجتماعاً لمناقشة «رغبة» البكر في التنازل عن مناصبه لصدام. لم يكن أعضاء القيادة على علم مسبق بما جرى صبيحة ذلك اليوم في مسكن طلفاح، لذلك انبرى بعضهم يدافع عن البكر، «الأب القائد»، محبذاً استمراره في تحمل المسؤولية ولو إلى حين الانتهاء من مراسم إعلان الوحدة الاتحادية بين سورية والعراق وخطواتها، كل ذلك والبكر يستمع وصدام منهمك في تدوين ملاحظاته عن الرفاق المتحمسين لبقاء البكر.

لم تشفع توسلات أعضاء القيادة للبكر الذي بقي مصرّاً على رغبته الأكيدة في ضرورة اعتلاء صدام، «الابن البار»، منصب رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، وأمين السر للقيادة القطرية ونائب أمين السر للقيادة القومية لحزب البعث.

وهكذا كان: تنازل البكر، وقبل صدام تسلم دفة الحكم وتحمل كامل المسؤولية في الدفاع عن العراق وشعبه وثرواته ومستقبله. وانتهى الاجتماع.

تعانق البكر وصدام، وغادرا قاعة الاجتماع في الطابق الثاني من مبنى القصر الجمهوري. توجه صدام إلى مكتبه في مبنى المجلس الوطني يحمل الأوراق التي دوّن فيها ملاحظاته عن كل عضو في القيادة تحمس لبقاء البكر في مناصبه.

كان عدنان الحمداني أكثر المتحمسين للبكر والمدافعين عنه بالرغم من الصداقة المتينة التي تربطه بصدام. ولم يقلّ غانم عبد الجليل حماسة ودفاعاً عن الحمداني، بينما بكى محمد محجوب ومحمد عايش بكاءً مريراً لإصرار «الأب القائد» على تنازله. أما بقية أعضاء القيادة فقد اكتفوا بكيل المديح للبكر متمنين له موفور الصحة والسعادة في حياته المقبلة.

أذاع البكر عند الثامنة من مساء ذلك اليوم، خطابه الأخير من كل من إذاعة بغداد وتلفزيونها، وأعلن استقالته لأسباب صحية، مؤكداً أنه طوال حياته كان مستعداً لتحمل المسؤوليات التي كلفته القيادة بها. غير أن الفترة الأخيرة من حكمه قد رافقتها أزمات مَرَضية متلاحقة جعلته غير قادر على مزاولة العمل اليومي للمناصب التي كان يحتلها، مما حدا به إلى تكليف صدام حسين بها. واستمر البكر مخاطباً الجمهور العراقي بأنه أصر على القيادة وعلى «الرفيق» صدام لقبول استقالته.

وصدرت سلسلة من القرارات عن مجلس قيادة الثورة، أهمها قبول استقالة البكر وتعيين صدام حسين بدلاً منه طبقاً للمادة التاسعة من الدستور المؤقت، وتعيين عزت إبراهيم الدوري نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة وإعفاؤه من منصب وزير الداخلية، وتعيين سعدون شاكر وزيراً للداخلية وإعفاؤه من منصب رئيس جهاز المخابرات العامة. كما تمّ استحداث وزارة جديدة باسم وزارة الحكم المحلي، واستحداث خمسة مناصب تحت عنوان نائب رئيس الوزراء، ومنصب آخر هو نائب القائد العام للقوات المسلحة.

ووجَّه صدام حسين في اليوم التالي، 17 يوليو (تموز)، خطاباً إلى الشعب العراقي يؤكد على التزامه بمبدأ القيادة الجماعية ضمن إطار حزب البعث والدولة، وأنه لن يطلب من أعضاء القيادة أو من أي مواطن عراقي أن يقوم بأي عمل لا يستطيع القيام به، وسيكون واحداً من مناضلي الحزب وليس المناضل الوحيد، وسوف يحارب الظلم والقهر، ولن يسمح أبداً بالظلم أو محاولات سحق العدالة أو إهدار حقوق المواطنين، أو إهانتهم.

خطاب جميل وكلمات أجمل، تناثرت في سماء العراق مساء السابع عشر من تموز (يوليو).1979 استمع إليها المواطن العراقي، واستمعنا إليها نحن الذين عملنا مع صدام حسين، والأمل والفرحة يعلوان وجوهنا، مستبشرين بعهد جديد، وشاب متجدد، ومستقبل عراقي باهر مكلل بالعلم والتكنولوجيا المتقدمة، والحريات التي وعدنا بها صدام.

* «مؤامرة» القيادة

* حتى ليلة الحادي عشر من تموز (يوليو) 1979، كان محيي عبد الحسين المشهدي (الشمري) عضواً في مجلس قيادة الثورة، وأمين السر للمجلس إلى جانب عضويته في القيادة القطرية لحزب البعث.

وقبل أيام معدودة من استقالة البكر، صدرت القرارات بفصل المشهدي من الحزب، ومن مجلس قيادة الثورة وأمانة سر المجلس، من دون ذكر الأسباب.

استلم صدام السلطة بأكملها في السابع عشر من تموز (يوليو) .1979 وفي اليوم الثاني والعشرين منه، دعا كوادر الحزب المتقدمة إلى اجتماع عاجل في مبنى المجلس الوطني.

سارعت الكوادر إلى قاعة الاجتماعات، من دون أن يكون لديها أي علم مسبق عن سبب تلك الدعوة المفاجئة.

اعتلى صدام المنصة الرئيسية، بينما خيم على القاعة وجوم عميق، وساد وجوه «الرفاق» الحاضرين خوف حاول المتقدمون منهم إخفاءه من دون جدوى.

أعلن صدام بعد برهة قصيرة عن اكتشاف «مؤامرة» ضد النظام، مؤامرة سيتحدث عن تفاصيلها أحد المتآمرين: محيي عبد الحسين المشهدي، وسوف يقرأ بعد ذلك صدام أسماء المتآمرين من أعضاء القيادة القطرية وكوادر الحزب المتقدمة. فإن كان أحدهم حاضراً الاجتماع فما عليه سوى الوقوف، ثم ترديد شعار الحزب: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، ويغادر بعدها قاعة الاجتماعات.

ولقد أخبرني قيادي كان حاضراً ذلك الاجتماع الغريب، بأنه ما إن انتهى صدام من قراءة «جدول الأعمال» حتى أصبح الجميع في قلق شديد وترقب محفوف بالخوف من المجهول القادم.

وقف المشهدي وراء الميكرفون على الجانب الأيمن من منصة صدام حسين، وبدأ بسرد تفاصيل «المؤامرة» الرفاقية من أوراق مطبوعة يحملها في يده. فقال إنه وأربعة من أعضاء القيادة كانوا يخططون لانقلاب يستهدف الإطاحة بالنظام. المتآمرون بالإضافة إليه: هم عدنان حسن الحمداني (شيعي) غانم عبد الجليل (شيعي) محمد عايش (سني) ومحمد محجوب (سني).

وقال المشهدي (شيعي) إنهم اتصلوا بدولة عربية (يقصد سورية) وتسلموا منها المال والتوجيه والوعد بإرسال فرقة عسكرية يرتدي أفرادها البزات العسكرية العراقية للقضاء على صدام وتسليم العراق لقمة سائغة إلى «أبي سليمان»، أي الرئيس السوري حافظ الأسد.

كانت تلك هي المؤامرة المزعومة. وبعد أن انتهى المشهدي من قراءة «اعترافاته» المُعَدة سلفاً، بدأ صدام بالكشف عن أسماء المتآمرين، وراح الحاضرون منهم في القاعة يغادرونها الواحد تلو الآخر، لتتلقفهم عناصر المخابرات المنتظرة في مدخل القاعة.

أشعل صدام حسين سيجاره الكوبي، وتناول منديلاً ليمسح دموعه التي انهالت على وجنتيه، وبكى معه طه الجزراوي وطارق عزيز، ثم قرر الحاضرون منح صدام كافة الصلاحيات اللازمة لمعالجة الموقف واجتثاث جذور المؤامرة والمتآمرين، بما في ذلك تشكيل محكمة خاصة لمحاكمة «الرفاق» المتآمرين وتنفيذ الأحكام بهم فوراً.

أصدر مجلس قيادة الثورة في 29 تموز (يوليو) 1979 قراراً بتشكيل محكمة خاصة لمحاكمة المتآمرين، برئاسة نعيم حداد وعضوية سعدون غيدان، وتايه عبد الكريم، وحسن علي العامري، وسعدون شاكر، وحكمة إبراهيم العزاوي وعبد الله فاضل.

وفي يوم 7 آب (أغسطس) 1979، أذاع راديو بغداد أن المحكمة عقدت جلساتها اعتباراً من يوم الأربعاء الموافق الأول من آب (أغسطس) ولغاية السابع منه، ونظرت «بالتفصيل» في محاكمة ثمانية وستين شخصاً، وأصدرت أحكامها بإعدام اثنين وعشرين وبسجن ثلاثة وثلاثين وببراءة ثلاثة عشر متهماً، وسوف تُنفَّذ أحكام الإعدام يوم 8 آب (أغسطس) من دون أن يكون للمتهمين حق الدفاع أو استئناف الأحكام.

ومن أعضاء القيادة القطرية وأعضاء مجلس قيادة الثورة الذين نُفذ فيهم حكم الإعدام: محمد عايش، عدنان حسين الحمداني، محمد محجوب الدوري، غانم عبد الجليل. ولم تشفع لمحيي عبد الحسين المشهدي اعترافاته فأُعدم هو الآخر.

كما أُعدم قياديون آخرون في الحزب والجيش، منهم اللواء الركن وليد محمود سيرت آمر القوات المسؤولة عن حماية بغداد، وبدن فاضل رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال، وخالد عبد عثمان وزير الحكم المحلي. وأُخرج عبد الخالق السامرائي من سجنه الانفرادي في أقبية المخابرات الذي كان فيه منذ عام 1973، ليُعدم ويتم بذلك التخلص من أحد أبرز الوجوه المهمة في حزب البعث.

* ستالين العراق

* خرجت الصحف العراقية في اليوم التالي تحمل على صفحاتها الأولى صورة كبيرة لصدام واصفة إياه بـ «الفارس الشجاع»، وهي تثني على قدرته العظيمة في تصفية الحزب من بؤر التآمر والخيانة. ولكن هذا الوصف لم يمنع مجلة «الحوادث» اللبنانية من اعتباره «ستالين» الذي حول الحزب الشيوعي إلى آلة بيده يوجهها كيفما يشاء، ويستخدمها في القتل ونشر الرعب متى شاء.

ولم تمنع مقالات المديح والإطراء في الصحف العراقية، انتشارَ الإشاعات والأقاويل في سماء العراق، وداخل صفوف الحزب أو بين المحللين السياسيين والدبلوماسيين، حول الأسباب الحقيقية التي دفعت صداماً إلى «اكتشاف» مؤامرة نسج خيوطها رفاقه في القيادة. لقد أشيع، مثلاً، أن الهدف من اتهام عدنان الحمداني وغانم عبد الجليل بالتآمر، ومن ثم تنفيذ حكم الإعدام بهما، بالرغم من علاقاتهما الوطيدة بصدام، هو إعطاء الإشارة الحمراء لبقية أعضاء القيادة، بأن صدام حسين هو الرجل الأقوى في السلطة، وعلى الجميع طاعته من دون قيد أو شرط.

وقيل أيضاً إن صداماً أراد التخلص من فكرة الوحدة الاتحادية بين العراق وسورية، فضرب القياديين الثلاثة: الحمداني وعبد الجليل وعايش، الذين تصدروا المفاوضات العراقية ـ السورية، وكانوا أكثر المتحمسين للإسراع بإعلان الوحدة.

وحاول عدد من المسؤولين العرب في هذا الجو الملبد بغيوم الإشاعات والأقاويل، التوسط بين صدام حسين وحافظ الأسد لدرء احتمالات تأزم الوضع بين العراق وسورية، في وقت كان يتطلب تعاون البلدين لمقاومة اتفاقيتي كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل. وبعث الأسد من أجل ذلك، برسالة خطية إلى الملك حسين حملها نائبه عبد الحليم خدام يطلب فيها وساطته لدى صدام، وبعث الملك حسين برسالة خطية إلى صدام حملها عبد الحميد شرف.

وعندما لم تثمر وساطة العاهل الأردني، اتصل الأسد بصدام مؤكداً له أن سورية لم يكن لها أي دور في «المؤامرة»، مقترحاً تشكيل لجنة عراقية ـ سورية أو لجنة محايدة للتحقيق في ادعاءات العراق.

رفض صدام قبول المقترح، وبقي مصرّاً على رأيه، موجهاً بدوره رسائل إلى جميع رؤساء الدول العربية باستثناء سورية ومصر واليمن الجنوبي، يؤكد فيها قناعاته حول سورية ودورها المزعوم في «المؤامرة».

وعلى الرغم من كل تلك الإشاعات والأقاويل حول وجود مؤامرات تحاك في الظلام ضد سلطة البعث، فقد كانت الحقيقة المُرة التي لا بد للبعثيين بجميع فصائلهم وأجنحتهم من إدراكها، هي أن مشاكل البعث يميناً ويساراً، وصراعاته المتتالية على مر السنين، إنما تنبع من داخل المنظومة البعثية بعدما تسلمت السلطة. ففي عام 1963، تسلم البعث السلطة في العراق وفي سورية، ولم تمض أشهر قليلة حتى احتدم الصراع بين جناح علي صالح السعدي وجناح طالب الشبيب، ثم سقط الطرفان.

وجاء البعث إلى السلطة مرة ثانية عام 1968، ولم يمر سوى وقت قصير حتى تصارعت الأجنحة بين عماش وحردان. ثم جاء عام 1973 وإذا بناظم كزار مدير الأمن العام ومجموعته من القيادة القطرية، يحاولان انتزاع الحكم بحجة «تصحيح» المسيرة. ثم جاءت بعدها مؤامرة القيادة عام 1979، وسالت الدماء، وأُعدمت مجموعة كبيرة من قياديي الحزب وكوادره المتقدمة.

وكانت في كل مرة تتصارع أجنحة الحزب في ما بينها حول السلطة، تبرز فئة متسلطة لتتسابق في البكاء والعويل وذرف الدموع، حتى أصبح البكاء تقليداً وناموساً ينتقلان من جيل بعثي إلى جيل بعثي آخر كلما حدث صراع على السلطة داخل الحزب.

فصدام حسين بكى عندما تحدث عن مؤامرة .1979 كما بكى طه الجزراوي وطارق عزيز لبكاء صدام، أو فرحاً بعدم ورود اسميهما بين أسماء المتآمرين. وقبل هؤلاء، بكى «القائد المؤسس» ميشيل عفلق في المؤتمر القطري لحزب البعث في دمشق في كانون الأول (ديسمبر) 1965 عندما بدت بوادر الخلاف بين أعضاء المؤتمر. كما بكى عفلق في شباط (فبراير) 1966 مرة أخرى عندما طُرد من الحزب، وسيطر صلاح جديد وزمرته على مقاليد الحكم في سورية.

* صدام حسين: كلمة أخيرة

* تحدثتُ في ما مضى عن صدام حسين كما عرفتُه منذ عام 1968، عندما كان يزاول مهامه من غرفة صغيرة في القصر الجمهوري، من دون أن يكون له موقع رسمي معلن. ثم عرفته عندما أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة. إلا أن معرفتي به توطدت بشكل كبير عندما أصبح رئيساً لمجلس التخطيط. ففي ذلك الوقت لم يكن صدام حسين المسؤول الظالم، كما تكشَّفَ في ما بعد، ولا الزعيم الأوحد و«الفارس الأمجد» كما أراد أن يوصف.

كان صدام تلك الفترة، يخطط بهدوء وتأنّ لمستقبله السياسي، ووضع في خدمته أجهزة المخابرات ومؤسسات الحزب لتصفية مناوئيه من جهة، ولبناء قاعدة حكمه المقبل من جهة أخرى.

لقد حرص صدام، خلال الفترة التي كان فيها أحمد حسن البكر رئيساً لمجلس قيادة الثورة، على إظهار القيادة العراقية على أنها قيادة جماعية. ولكنه بعد تسلمه منصب الرئاسة، لم يسمح إطلاقاً باحتمال وجود خصومات داخل القيادة، أو اختلاف في وجهات النظر حتى وإن كان الاختلاف منطقياً أو صغيراً، كما لم يسمح بأن يكون هنالك شريك له في السلطة، سواءً كان الشريك فرداً أو مجموعة.

وأبعد من ذلك، تحرك صدام نحو تقليص دور مجلس قيادة الثورة كإطار للقيادة الجماعية، فابتدأ أولاً بعقد جلسات دورية لمجلس الوزراء بصفته رئيساً للمجلس، ثم اتجه إلى إعطاء الوزراء صلاحيات أوسع في شؤون وزاراتهم. أما الخطوة الثانية فكانت منح المجلس الوطني الكثير من السلطات التشريعية التي كان يتمتع بها مجلس قيادة الثورة. وكانت الخطوة الثالثة في خطوات تحجيم مجلس قيادة الثورة، التركيز على استخدام سلطات «رئيس الجمهورية» وصلاحياته بدلاً من سلطات «رئيس مجلس قيادة الثورة» وصلاحياته. وعليه، فقد تعمد صدام الإكثار من إصدار «المراسيم الجمهورية»، و«توجيهات السيد الرئيس»، و«إرشادات الرئيس القائد»، و«مكرمة الرئيس»، وغير ذلك من الصفات التي تُلصَق بالفرد، أو تصدر عنه بدلاً من صدورها عن قيادة جماعية، وإن كانت تلك القيادة شكلية في مضمونها كمجلس قيادة الثورة.

إن دراسة خاطفة لتقارير المؤتمرات القطرية لحزب البعث العراقي، وللمنشورات والأدبيات الحزبية التي صدرت خلال الفترة من 1974 حتى 1982، تُرينا بوضوح كيف أن صدام حسين قد حوّل الحزب بكافة كوادره ومكاتبه، والدولة بجميع مؤسساتها وأجهزتها، إلى منظومة واحدة تردد كلمتين فقط: صدام حسين. كان المؤتمر القطري الثامن عام 1974 بداية الطريق في بناء صرح عبادة الفرد.

هناك لم يُذكر اسم «الرفيق» صدام حسين إلا مرة واحدة تحت صورته التي تصدرت الصفحة الثانية من تقرير المؤتمر، بعد صورة «الرفيق» أحمد حسن البكر.

وكان المؤتمر القطري التاسع عام 1982 نهاية الطريق في إكمال بناء صرح عبادة الفرد، حيث ورد اسم صدام حسين في تقرير المؤتمر الذي يقع في 366 صفحة أكثر من ألف مرة.

في هذا المؤتمر قال صدام: «علينا أن نقيس إخلاص الحزبيين وكفاءتهم، على أساس تناقص أعداء الثورة والحزب. إنني مؤمن بأن الإنسان يستطيع أن يفعل كل شيء مما هو ليس من واجبات الإله» وقال المؤتمرون في صدام كل عبارات التمجيد والتعظيم، وأسبغوا عليه الصفات المقترنة بالفروسية والبطولة، وألقاباً لم تمنح لأي شخصية في التاريخ.

ونسي المؤتمرون مبادئ الحزب التي تغنوا بها سنوات طويلة، وحولوها إلى كلمات أناشيد وأغان، بطلها صدام.

ويعكس التقرير السياسي لذلك المؤتمر هزالة العقائديين، وضحالة تفكيرهم، كما يعكس حجم الرعب الذي يعيشه عضو الحزب.

يقول التقرير في صدام، إنه كان القائد الأول في تحقيق الثورة وفي الحفاظ عليها، من خلال عمله، من خلف الستار، في إطار مؤسسة لا يعرف سوى عدد قليل اسمها أو مستواها في الدولة، وهي «مكتب العلاقات العامة»، وذلك لإجراء «التصفية الشاملة» لأوكار التجسس والعمالة للصهيونية، ولأميركا، ولبريطانيا، وإيران، والشبكات الماسونية، وللضباط المغامرين.

ويصف التقرير صداماً بأنه قائد من طراز خاص، لأنه «يستأصل السرطان، لكنه يُبقي على الجسم حيا». لذلك، فإنه استطاع في تموز (يوليو) 1979 القضاء على أعضاء القيادة الذين أرادوا تعطيل تسلمه المسؤولية الأمامية بدعم من سورية وإيران، وجميع القوى الأجنبية والرجعية (حسب زعم التقرير). ويبرر التقرير إعدام صدام لرفاقه في القيادة عام 1979، بأن أولئك لم يكونوا سوى دخلاء على الحزب، ولم يكن لهم حق في القيادة، (وفي هذا ينسى صدام أنه هو الذي أتى بهؤلاء إلى القيادة).

وتبلغ محاولات مسخ التاريخ حدود اللامعقول، عندما ينتقل التقرير إلى وصف صدام بأنه:

واضع السياسة النفطية، المخطِّط الأول لعملية التنمية الشاملة، واضع استراتيجية البحوث النووية وخططها الاستراتيجية والتكتيكية، المخطِّط العسكري للقضاء على التمرد في الشمال، الموجِّه للفكر والثقافة والإعلام، هو الذي كان ولا يزال يرسم سياسة الحزب في الميدان القومي والدولي، هو الذي صمم كيفية إدارة العلاقات مع الأقطار العربية، هو الذي يضع الخطط للأحداث القومية، هو الذي وضع استراتيجية علاقات العراق الدولية، هو الذي كان المحاور الأول مع الزعماء والقادة الأجانب.

ولا يكتفي التقرير في وصف «إنجازات» صدام على نطاق القيادة القطرية، بل ينتقل ليمسخ أيضاً دور القيادة القومية للحزب، إذا كان لها دور حقيقي، فيقول: «لأول مرة في تاريخ الحزب وضع (صدام) بدقة وبأسلوب خلاق ومتجدد نظرية العمل البعثية في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والتنظيم».

وقد أكد التقرير ترسيخاً للاتجاه الفردي وعبادة الشخصية، أن جميع المنجزات، إن وُجدت، إنما هي من صنع صدام. ولكنه كان في السابق ينسبها إلى «الرفيق» الذي يحتل رسمياً الموقع الأمامي، (ويقصد التقرير بذلك أحمد حسن البكر) أو إلى القيادة الجماعية، ناكراً ذاته.

ويغرق المؤتمرون في الخوف والرعب، فيصفون صداماً بالشخص الذي صار مع الزمن «الضرورة الوطنية»، لأنه القائد الذي انتظره العراقيون مئات السنين، وقد وُلد العراق بولادة هذا «القائد الضرورة» ولادةً جديدة.

هذا هو صدام حسين كما يراه العقائديون!! لكنهم لا يذكرون كيف أن صداماً قد امتهن كرامة العراق من دون أي مبرر أو منطق، وسحق المواطن العراقي فجعله مزدوج الشخصية وغير قادر على التحرر من الخوف، وحارب الفكر بـ«القرباج»، والقلم بالسيف، والرأي بالاعتقال، والعدل بالعضلات، وألغى حلقات التاريخ بحيث أصبح بطلُ الأمس خائناً، ومفكرُ اليوم جاهلاً.

لست أدري كيف سيواجه صدام نفسه، وهو يقف أمام مرآة التاريخ، فيرى ما جرَّه من ويلات على العراق، هذا البلد الغني بأرضه ومائه ونفطه وبشره.

هل سيتذكر صدام الذين سقطوا صرعى رصاص غدره؟؟

هل سيتذكر المليون من شباب العراق ممن لقوا حتفهم بسبب حروبه ومغامراته العسكرية؟؟ هل سيتذكر؟؟ وهل سيندم؟؟

لا أعتقد ذلك. ولكنه سيسمع صوتاً قادماً من بعيد، ليقول له ولزمرته: ألا تبت أياديكم!

* حكومة صدام الأولى

صدام حسين: رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء

طه ياسين رمضان الجزراوي، نائب أول لرئيس الوزراء

نعيم حداد ، نائب رئيس الوزراء

طارق عزيز، نائب رئيس الوزراء

سعدون غيدان، نائب رئيس الوزراء، ووزير المواصلات

عدنان حسين الحمداني، نائب رئيس الوزراء، ورئيس ديوان رئاسة الجمهورية

عدنان خير الله، نائب رئيس الوزراء، ووزير الدفاع

الدكتور سعدون حمادي،وزير الخارجية

محمد محجوب الدوري، وزير التربية

الدكتور منذر إبراهيم الشاوي، وزير العدل

ثامر رزوقي، وزير المالية

محمد فضل الحبوبي، وزير الأشغال والإسكان

الدكتور طه إبراهيم العبد الله، وزير التخطيط

الدكتور رياض إبراهيم حسين، وزير الصحة

طاهر توفيق العاني، وزير الصناعة

عصام عبد علي، وزير التعليم العالي والبحث العلمي

تايه عبد الكريم، وزير النفط

حسن علي العامري، وزير التجارة

كريم محمود حسين، وزير الشباب

عامر مهدي، وزير الزراعة والإصلاح الزراعي

حامد علوان الجبوري، وزير الدولة للشؤون الخارجية

لطيف نصيف جاسم، وزير الثقافة والإعلام

عبد الوهاب محمود عبد الله، وزير الري

بكر محمود رسول، وزير العمل والشؤون الاجتماعية

الدكتور أحمد عبد الستار الجواري، وزير الأوقاف

خالد عبد عثمان، وزير الدولة لشؤون الحكم الذاتي

هاشم حسن، وزير الدولة

عبيد الله مصطفى البارزاني، وزير الدولة

عبد الله إسماعيل أحمد، وزير الدولة

عزيز رشيد، وزير الدولة

عبد الفتاح محمد أمين، وزير الدولة لشؤون الحكم المحلي

سعدون شاكر، وزير الداخلية

* تنشره «الشرق الأوسط» بالاتفاق مع «دار الساقي»