مراحل من الحداثة في الشعر السعودي

تجربة الشاعر سعد الحميدين الشعرية كمثال للاشتغال الشعري الحداثي في منطقة الخليج العربي

TT

يصف عبد الله الغذامي أستاذ النقد والنظرية في كلية الآداب بجامعة الملك سعود في الرياض كتاب «الحداثة في الشعر السعودي.. قصيدة سعد الحميدين نموذجاً» بأنه ثري وعميق وشامل. ويقول إن المؤلف ضرب على معنى دال دلالة تاريخية وفنية، باعتبار أن الشاعر سعد الحميدين هو واحد من كوكبة ظهرت في الستينات، أخذت على عاتقها مسؤولية كتابة النص الحديث، ولم يكن ذلك سهلاً أو ميسوراً في بيئة ترى أن الشعر هو الخيمة العربية ذات الأعمدة الصلبة، وأن أي مساس بأعمدة هذه الخيمة سوف يهد البنية الثقافية للأمة وفي مهدها العربي في هذه الجزيرة الخالدة. ولقد تصدى هؤلاء الشعراء لهذه المهمة، وتوالت تجربة الحميدين الشعرية على أربعة عقود من ديوان إلى ديوان، ومن اختراق إلى اختراق، ويظل الهاجس الإبداعي عنده يلاحق ذاته ويتحدى منجزه.

ويقول د. عبدالله أبو هيف، مؤلف هذا الكتاب الذي نشره المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء، إنه من النادر أن نجد دراسة أو مقالة أو بحثاً في الشعر السعودي خالية من إشارة أو تحليل موجز أو مطول لتجربة الحميدين الشعرية، هذه التجربة التي يعتبرها تجسيداً حياً وباهراً للاشتغال الشعري الحداثي في منطقة الخليج العربي، داعماً رأيه بالإشارة إلى أن هذا الشاعر يتقدم جمهرة ليست بقليلة العدد ممن عرفوا بتجريبهم اليقظ للحداثة الشعرية في أكثر من قطر خليجي.

في الفصل الأول من الكتاب يقدم المؤلف إشارات عامة عن الحداثة في الشعر السعودي، مؤكداً أن المراحل التاريخية التي مر بها هذا الشعر تشهد على وحدة تطوره وملامحها المتماثلة من منطقة إلى أخرى، ومشيراً إلى أن عبارة «الشعر الحديث» ظهرت لأول مرة في كتاب عبد الله الحامد «الشعر الحديث في المملكة العربية السعودية خلال نصف قرن» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1990، والذي خص مصطلح «الحديث» بالإنتاج الشعري المكتوب خلال العقود الثمانية الأخيرة، منذ مطالع القرن المنصرم، وينتمي شعراء الجيل الثالث منه إلى أولئك الذين ولدوا خلال الأربعينات والخمسينات.

وفي إطار هذه الإشارات العامة يرى أن نقد الشعر كان بغالبيته يتجه إلى التقليد ولا سيما اللغوي الذي تواتر إلى الظهور في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، متصلاً بالنزعة الإحيائية لتقاليد الشعر العربي في عصوره الزاهية، وهذا النقد في جوهره بحث عن موضوعات الشعر بالدرجة الأولى، غير أن نصف القرن العشرين الأخير شهد تطلعاً إلى الحداثة والتحديث في حركة الأدب العربي الحديث والمعاصر، في منطقة الخليج العربي، كما في غيرها من بقاع الوطن العربي الأخرى. وما أن قارب القرن نهاياته حتى شهدت الساحة الثقافية صراعاً محتدماً بين تقليد وتحديث، وقد بلغت نزوعات الحداثة مداها الأعمق والأوسع خلال عقدي الثمانينات والتسعينات.

وبعد أن يقدم المؤلف عرضاً موجزاً للنقد الخاص بشعر الحميدين وتطوره، يتحدث عن ثقافته التي ساعدت على تكوينه شاعراً حداثياً شديد الاعتزاز بهويته القومية وأصالته الثقافية وصيرورة تقاليدها الأدبية والفنية، ويلاحظ أن الحفاوة بشعر الحداثة السعودي، كما في حالة الحميدين الشعرية، صدرت عن نقاد عرب لا ينتمون إلى منطقة الخليج العربي، ثم تحولت إلى عمل نقدي عربي شامل في هذه الأقطار وسواها لعطاءات الحميدين والشعراء الآخرين في العقدين الأخيرين.

وقد كرس المؤلف الفصل الثاني للحديث عن الدراما والنزوع الدرامي، وبعد تمهيد لمحاولة فهم المصطلح، خلص إلى أن الحميدين ينفر من القصيدة الغنائية إلى تثمير نزوعه الدرامي لرؤية العالم، استجابة مباشرة لوظيفة الشعر عندما ينطبع التاريخ على الذات جذاذات فكرية، أو إلماحات استعارية ما تلبث أن تشمل مدار القصيدة كلها، حين يستخدم الشاعر تقنيات متعددة من شأنها أن تحيط برؤية أعمق للوجود العربي المكلوم. ويتوقف بعد ذلك عند تعدد الأصوات، والتمثيل والسرد الروائي، والنجوى وحوار الآخر، وتقنية القناع، والترميز والأسطرة.

ولدى حديثه عن التناص في الفصل الثالث، يذهب إلى أن شعر الحميدين يتيح المجال واسعاً لتأمل مجالات التناص وتقنياته، إذ تحفل قصائده في مجموعاته الشعرية كلها، باستدعاء الشخصيات على سبيل التناص اسماً وقولاً، وهو يلح على الوظيفة في المستويين، وظيفة الشخصية بذاتها، ووظيفتها في التكوين الشعري، بذكرها باسمها، أو بقول لها. كما يتطرق إلى استخدام الحميدين الإحالات الثقافية، مما لا ينسب إلى شخصية بعينها، مثل الألفاظ الشعبية والألفاظ والترانيم والمسميات الشعبية وسواها من أعراف وطقوس، والعلامات والرموز المعبرة عن وظيفة محددة.

وفي هذا الإطار يكشف عن تنوع صلات التناص في شعر الحميدين، عبر استدعائه للشخصيات، أو في استخدامه للإحالات الثقافية، فيما سماه نقاد آخرون بتناص التآلف أو تناص من التخالف، وفي طرائق استدعاء الشخصيات جزءاً من نص، أو صورة جزئية، أو محوراً للنص، وفي حدود استعمال الإحالة الثقافية: إثارة لقضية، أو إيحاء بدلالة، أو استحضاراً لمناخ.

وإذ يكرس المؤلف الفصل الرابع للغة، فهو يستهله بالحديث عن حدود اللغة وحدود الشعر، مؤكداً أن الاشتغال على لغة الشعر كان التجلي الأبرز للحداثة الشعرية، فصارت القصيدة بنية لغوية واحدة مجددة في اللفظ والعبارة وفي تراكيبهما وفي علائقهما مع عناصر الشعر والشعرية الأخرى، وفيض الدلالات الناجمة مما أدخل في مجموع العلامات والرموز والطقوس والشعائر. ويتحدث في هذا المجال عن تقنيات الحميدين في تكرار المبنى والمعنى، وتكرار الشكل، والحشد، والتلاشي، والانزياح، والإيقاع.

أما الفصل الخامس والأخير فيخصصه المؤلف للصورة وأنماطها وصور المفارقة، وبنى الصورة وأنساق تنضيدها، وقدر ما يتعلق الأمر بالحميدين، على إيغاله في مغامرة التحديث، يقول إنه واءم بين سيرورة التقليد والتحديث، وطور تقنيات التصوير داخل منجز التحديث إياه - ويعني هنا اعتمال المخيلة بقابليات الرؤية - فكان التلاشي عنده سمة لغوية وإيقاعية وتصويرية شديدة الجاذبية.

وبعد أن يعبر عن قناعته بأن الاشتغال الحداثي للصورة شابه شيءٌ من قلق التشكيل أو وهم أنساق التنضيد أو هلهلة البناء بتأثير مغامرات التحديث المغالية، مما سمي بالتوظيف السلبي للصورة، يرى أن مجانبة غلو التحديث لدى الحميدين قد وفرت للصورة توظيفاً إيجابياً.