«الشرق الأوسط» تزور معسكرات النازحين في دارفور: النازحون يرفضون العودة إلى قراهم المحروقة وجماعات السلب تبدأ نشاطها بعد التاسعة مساء

البشير احتفل مع جمهور الفاشر بانتهاء المعارك ونائب والي جنوب دارفور يؤكد أن الجفاف والتصحر عمق المشكلة

TT

زارت «الشرق الأوسط» ضمن جولاتها في ولايات دارفور الثلاث مدينتي الفاشر (عاصمة ولاية شمال دارفور) ونيالا (عاصمة جنوب دارفور). وكانت الجولة تبدأ في السابعة صباحا وتنتهي مع حظر التجول في التاسعة مساء. ورصدت «الشرق الأوسط» مشاهد كثيرة في معسكرات النازحين واجرت لقاءات مع رجالات الادارة الاهلية ولجان السلام والتنمية.

وشهدت «الشرق الأوسط» لقاء جماهيريا للرئيس السوداني عمر حسن البشير بمدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور خلال زيارته الأخيرة لها قبل حوالي اسبوعين، دار حوار فيه حول اهمية انهاء الصراعات والحروب، بدأه الرئيس بالعرضة (رقصة سودانية) مع الجمهور على موسيقى شعبية استمرت خمس دقائق ألهبت حماس المواطنين.

وفي لقاء مع نائب والي ولاية جنوب دارفور آدم ادريس السليك غلبت على حديثه تأكيدات ان قضية دارفور محلية، نظرا للاحتكاك بين القبائل وان أية خلافات في السابق كان يتم حسمها من خلال الادارة الاهلية، لكن الجفاف والتصحر اللذين ضربا شمال افريقيا ساهما وبنسبة كبيرة في تعميق المشكلة على اكثر من صعيد، وبالتالي الامر يحتاج الى اتفاق سلام حتى تتمكن الحكومة السودانية من اقامة مشاريع المياه والصحة والتعليم، لان التنمية عامل اساسي لفض الاشتباكات بين القبائل.

وتبلغ مساحة ولاية جنوب دارفور نحو 149 الف كيلومتر ويعيش سكانها على الزراعة وتربية الاغنام والابقار والضأن وتشكل اعلى نسبة للثروة الحيوانية في البلاد. وعلى الرغم من التصعيد السريع لمشكلة دارفور الا ان قناعات المسؤولين والمواطنين تقول ان الحل لا يأتي الا عن طريق الحوار، مؤكدين على اهمية فرضه من الداخل بعيدا عن التدويل. وقالوا ان الذين يقومون بالتمرد والذين يشكلون نسبة 10% من سكان دارفور لهم مصالح خاصة ورأوا ان التفاوض مع الحكومة في الجنوب ادى الى مكاسب لاهل الجنوب.

وقد لفت نظري ما اكده والي ولاية جنوب دارفور من ان السودان سيكون افضل حالا اذا رفعت عنه الايادي الخارجية، لكن ما زال «جبل مرة» الذي يحتضن قوات التمرد الاقوى في المعادلة الصعبة لانه يقع في الولايات الثلاث «شمال وجنوب وغرب دارفور» وبين كل ولاية واخرى مسافة ساعة بالطائرة، ولذلك فامتداد هذا الجبل وضخامته يشكلان قضية امنية معقدة باحتضانه لاعداد هائلة من المتمردين.

* معسكرات النازحين

* مع توقيع وقف اطلاق النار في انجامينا يوم 8 أبريل (نيسان) 2004، تنفس مواطنو الولايات الثلاث بارتياح وبدأ الهدوء يسود. وزرت معسكرا للنازحين في مدينة نيالا يطلق عليه «كلما» ويقع على بعد 14 كيلومترا من نيالا وقد تم اعداده لاستيعاب 16 الف نازح. وحرص والي الولاية على ان يشكل هذا المعسكر حياة متكاملة للنازحين فجاء تخطيطه وكأنه حي شعبي وضعت فيه مراكز شرطة ومدارس واسواق ومواقع ايواء، لكن كل هذه المؤسسات اعتمدت في البناء على الطبيعة والمناخ الخاص بالمناطق الجبلية، فالاكواخ من الحصير وسعف الجريد، والملاحظ ان المعسكر يضم 12 فصلا دراسيا للتعليم الاساسي ويستوعب 1500 تلميذ وتلميذة.

وحديث النازحين يشير الى تعقيد الموقف وصعوبته، فهم يؤكدون رفضهم العودة لقراهم لانها حرقت بالكامل ومعها منازلهم وممتلكاتهم في حين ان مواقعهم الجديدة في المعسكرات تحولت لحياة جديدة فهناك نساء يعملن في مجال الصناعات اليدوية ذات الطابع الافريقي والرجال كل منهم في حرفته يعمل داخل المعسكر وبجوارهم تم تخصيص سوق لتسويق منتجاتهم، ولكن الشكوى مستمرة من الوضع الامني ومطاردة ما يسمى بالجنجويد لهم ميليشيات مسلحة تدعمها الحكومة حتى في المعسكرات.

شاهدت اسراً مكونة من سبعة اطفال وعشرة اطفال وشاهدت ما لم أره في أي مكان في العالم، امرأة تجلس وفي احضانها طفلان ترضعهما ويداها تمسكان بالابرة لتغزل حصيرا كي تبيعه في سوق المعسكر. وشاهدت سيدة اخرى تذهب الى شجر الدوم تأخذ منه اوراقه الخضراء لتصنع منها كوخا تحمي فيه اطفالها! اما مساعدات الدولة لهؤلاء فقد تصل وقد لا تصل بسبب المطاردات الامنية للمتمردين. واذا وصلت هذه المساعدات ينهبها ويسلبها المتمردون.

نعود لحياة النازحين في المعسكرات فعلى الرغم من الحياة القاسية داخل المعسكرات وارتفاع درجات الحرارة وقلة المساعدات ومواد الاغاثة إلا أني شاهدت مولد اطفال.

* الوضع الأمني

* وفي ولاية غرب دارفور كان مقر اقامتنا في منزل الوالي بمدينة الجنينة الذي فضل ان نكون في ضيافته وكنا ثلاث سيدات وقيل ان هذا حرص من الوالي حتى لا نتعرض للخطر وقيل ان خطر التجول يبدأ في التاسعة مساء ولان المتمردين يخرجون في الظلام لممارسة اعمال السلب والنهب وخطف الصبايا لم أنم طيلة هذه الليلة وسمعت طلقات نارية في اتجاه الجبل، لكن الليلة انتهت بسلام ولم يعترض طريقنا المتمردون، فالسيطرة الامنية للجيش السوداني والشرطة اعادت الحياة لطبيعتها، لكن خلفيات ما حدث تشكل عامل رعب قوي لهذه المناطق بعودة التمرد وجماعات السلب والنهب في أي وقت.

* المحطة الأخيرة

* وكانت المحطة الثالثة والاخيرة في مدينة الفاشر التي تقع في ولاية شمال دارفور وهي المحطة التي قام بزيارتها الرئيس السوداني عمر حسن البشير وشارك في الجلسة الختامية لمؤتمر عقدته القبائل والقوى السياسية والحزبية حول السلام والتنمية في ولاية شمال دارفور، وقد حدد هذا المؤتمر القضايا والمشاكل في دارفور التي ادت الى الاقتتال بين القبائل في 12 نقطة هي «الجفاف والتصحر وضعف البنيات التحتية الاقتصادية وضعف خدمات التعليم وتفشي الفقر والامية وضعف هيبة الدولة والنهب المسلح وضعف الادارات الاهلية ونظام الحواكير وديار القبائل، أي أرث الارض، والتعصب القبلي والصراع على السلطة وضعف الاعلام والدور السلبي لبعض المثقفين من ابناء الولاية والتمرد وحمل السلاح.

وقد وضع المؤتمر حلولا عملية لهذه المشاكل وكذلك معالجة الاثار التي اسفرت عن الحرب في مجالات الخدمات التعليمية والصحية ومرافق المياه والبنية الادارية والمجالين الاقتصادي والاجتماعي. كما صدرت عن المؤتمر توصيات لاربعة محاور: السياسي، الامني، الاجتماعي الثقافي، الاقتصادي الخدمي. وفي المجال السياسي أوصى المؤتمر بان تحل قضية دارفور بالحوار والتفاوض ورفض التمرد، ورفض تدويل قضية دارفور، وعقد المؤتمر الجامع للتنمية والسلام في دارفور بعد منتصف الشهر المقبل، والتوزيع العادل للسلطة والثروة والتعايش السلمي. واهتمت التوصيات بأن تتم اتفاقيات توأمة بين ولايات دارفور وولايات دول الجوار لدارفور وهي افريقيا الوسطى ـ تشاد ـ ليبيا ومعروف ان معظم القبائل مشتركة بين دارفور وتشاد لدرجة ان المواطن يقيم في دارفور ولديه «سوبرماركت» في تشاد.

وفي المحور الامني اوصى المؤتمر بدعم وتمكين القوات المسلحة والقوات النظامية الاخرى من الدفاع حفاظا على وحدة وسلامة الوطن، ووضع خطة محكمة لجمع السلاح من كل القطاعات واعادة فتح اقسام الشرطة ومكاتب الاجهزة العدلية التي اغلقت بسبب الاحداث ومحاربة جميع عمليات النهب المسلح، وضبط وتنظيم الانتقال بين ولايات دارفور ودول الجوار. وفي المحور الاجتماعي الثقافي اوصى المؤتمر بوضع خطة لتجميع القرى واقامة قرى نموذجية بهدف خلق النموذج الاجتماعي وتقديم خدمات وامن افضل والعمل على عودة النازحين واللاجئين واعادة بناء المنازل المحروقة والتعويض عن الممتلكات. وتضمن المحور الاقتصادي الخدمي «52» توصية باعتبارها اساسية لمعالجة مشاكل دارفور واهمها استمرار الدعم الكامل للمرتبات والخدمات من المركز حتى نهاية عام 2004، مع تسديد حقوق العاملين واعادة تأهيل ما دمرته الحرب من مرافق خدمية، وتشييد طرق تربط عاصمة الولاية برئاسة المحليات وانشاء مطار تتوفر فيه المعايير الدولية واعادة تأهيل مصادر المياه الجوفية والتنفيذ العاجل لمشروع الكهرباء والتركيز على الاستثمارات والاهتمام بمشروعات الصناعة وانشاء صندوق لاعمار وتنمية دارفور. وقد سلم عموم قبائل ولاية شمال دارفور الفاشر وثيقة عهد وميثاق بين القبائل اولا ثم بين اهل السودان كافة ثم وثيقة عهد مع الحكومة، وابرز نقاط وثيقة العهد والميثاق نبذ دعاوى العنصرية، والدعوة للتعايش واحترام حقوق الاخرين في الحياة والمحافظة على قومية القوات المسلحة والقوات النظامية كرموز للسيادة الوطنية، وتجاوز الآثار السلبية للصراعات القبلية والاختلالات الامنية.

بعده غادرت ولاية الفاشر الى الخرطوم لتنتهي بذلك رحلة الـ 90 ساعة الى ولايات دارفور.