الترك هل كان عليه ان ينتظر أطول مما يجب؟

النحات العراقي الراحل راهن على جيل الشباب من النحاتين ونصب الشهيد كان أحب اعماله

TT

في واحد من معارضه الشخصية الذي اقامه في نهاية الثمانينات على صالة الفنان رافع الناصري في حي المنصور ببغداد، نحت اسماعيل فتاح الترك صبيحة يوم العرض وجه (بورتريت) احدى طالباته في قسم السراميك في اكاديمية الفنون الجميلة. كان التمثال الوجه ما يزال رطبا عندما قامت طالبة اخرى اثارتها فكسرت انف التمثال، متصورة انه لا وقت للترك باعادة نحته وعرضه مساء ذات اليوم. لكن الروح الظريفة والمتمردة التي كان يتمتع بها الترك دفعته لأخذ التمثال الى صائغ ذهب في شارع النهر وطلب منه صياغة الانف من الذهب الخالص ليكون وقع المفاجأة شديدا على الطالبة الغيورة. وهكذا أصبح التمثال ذو الانف الذهبي واحدا من اجمل اعمال ذلك المعرض.

هذه الحادثة تعكس الطريقة التي كان يتصرف بها واحد من اهم فناني جيل ما بعد الرواد في العراق الذي رحل أول أمس، الفنان اسماعيل فتاح الترك، والذي عرف إضافة إلى إنجازاته الكبيرة، بانحيازه الدائم إلى جيل الشباب ومراهنته عليه.

ولد الترك عام 1934 في محلة الخندق في مدينة البصرة قريبا من شط العرب، وهو الولد الوحيد بين اربع او خمس أخوات، وعندما كان والده على فراش الموت ناداه ليملي عليه وصيته، قال الترك «كنت يومها العب مع اقراني في الشارع، دخلت على والدي وهو على فراش الموت، وما كنت أعتقد بأنه سيموت، وجدني حافي القدمين وجيوب ثوبي مزدحمة بالحصى الذي احتفظ به لصيد العصافير، فما كان منه الا ان يهز يده ويقول: هل انت من سيعتمد عليه البيت من بعدي».

بروح متمردة كان الترك يواجه كل شيء، وخاصة في الفن، طوال سنوات من الصحبة ومن المرافقة في بغداد لم تغب الابتسامة عن وجه هذا الفنان المبدع الذي كان مفاجئا في نتاجه الفني وفي تصرفاته الحياتية وفي اسلوبه في تدريس طلابه في قسم السيراميك في اكاديمية الفنون الجميلة.

كان الفنان جواد سليم، استاذه، يشكل خير مثال له في الحياة وفي العمل الفني، فلم يقتصر على انجاز المنحوتات بل اتجه الى الرسم ليوازن بين الانجازين، فقد كان عندما يرسم بروح النحات، وينحت باسلوب الرسام، لهذا كان اول نحات عراقي يجرؤ على تلوين منحوتاته، كما كان اول رسام يجسد خطوطه بشكل بارز كما في أية جدارية منحوتة.

وكان عمله النحتي «العاشقان»، وهو واحد من افضل مشاريعه النحتية، سيبقى حيا في شارع حيفا لولا منع جهات حكومية في نهاية الثمانينات من استيراده لمادة الفايبر غلاس التي تدخل في تنفيذ العمل الذي يجسد امرأة ورجلا متعانقين فوق مسطبة خصص لها مكان وسط الشارع المزدحم بجانب الكرخ. لقد شاهد عدد غير قليل من اصدقائه نموذج «العاشقان» الذي بقي مجرد نموذج تآمرت الظروف على عدم تنفيذه، «كنت اريد لهذا العمل ان يكون حاضراً بين الناس يجلس الى قربه عاشق او عاشقة او طفل وكأنه جزء من حياة الناس.. ولكن؟!»، هكذا عبر عن اسفه لعدم تنفيذ هذا العمل الحداثوي في فن النحت.

لم يتدافع الترك مثلما كان يفعل غيره ممن يدعون انهم في واجهة الفن العراقي من اجل تنفيذ او نحت تمثال للرئيس السابق صدام حسين، بل بقي بمنأى عن هذه الموجات التي جرفت بمغرياتها المادية غالبية الفنانين العراقيين الذين كانوا يطمعون بمكافأة مالية لمجرد مشاركتهم بتخطيط تمثال او نصب يجسد صدام حسين. وعندما سألته ذات مرة عن سر عدم اجباره على نحت تمثال لصدام قال «لقد فعلوا، ضغطوا علي وأرسلوا من الفنانين من يهددني، وما استجبت وقلت لا استطيع، وكدت اترك العراق لذلك حتى كفوا عني».

كان مشغله وسط حي شعبي بغدادي في حي الفحامة بجانب الكرخ مطلا على نهر دجلة قبل ان يصادر صدام حسين المنطقة برمتها ليبني هناك احد قصوره، مما اضطر الترك لاختيار مكان آخر في منطقة العطيفية بعد ان انتقل من مشغله الذي كان في بيته في حي المستنصرية بجانب الرصافة بعد وفاة زوجته الاولى الفنانة الايطالية ليزا الترك، التي كانت تشكل جانباً مهماً من المشهد التشكيلي العراقي لاستغراقها في الثقافة العراقية عامة والحياة البغدادية خاصة وكانت تحسب كفنانة عراقية اكثر منها ايطالية.

يعد نصب «الشهيد» الذي صممه الترك واحداً من اروع الاعمال الفنية ليس في العراق وحسب بل من النصب العالمية المهمة التي عرف الفنان فيها كيف يستفيد من الفراغ، قال الترك «هذا اسلوب عراقي بحت، استخدام الفراغ او الفضاء في الاعمال النحتية او المعمارية، وخير امثلة هناك زقورة بابل وزقورة اور او المئذنة الملوية في سامراء، ويأتي نصب الشهيد وفق ذات الفلسفة النحتية، كل ما قمت به هو انن احدثت شقا في القبة الاسلامية، احتراما لروح الشهيد العطشى للحرية»، لكن هذا النصب يتحرك مع حركة المشاهد له، والوانه الفيروزية المتداخلة بالاخضر تعطي انطباعات لونية اخرى على امتداد النهار وانعكاسات اشعة الشمس. واذا كان هذا النصب قد خلد الترك فان هناك العشرات من اللوحات والمنحوتات التي ستبقى شاهدا على الروح الابداعية لفنان شق طريقه عكس التيار السائد وأعطى قيمة فكرية للنحت العراقي، مواصلا مسيرة استاذه جواد سليم.

مات اسماعيل فتاح الترك بعد صراعه مع مرض سرطان القولون، تاركاً خلفه حياة عاشها بكل خطوط طولها وعرضها، وأكاد اتخيل ابتسامته التي تحمل معاني الفرح والازدراء لكل ما هو سائد، والتمرد ضد الثوابت الحياتية، اتخيلها بقيت مرسومة فوق وجهه وهو يغادرنا. واتساءل بعد كل انجازاته الفنية والحياتية منذ ولادته في البصرة وحتى وفاته ببغداد: هل كان عليه ان ينتظر ليتألم اكثر وهو الشخص الذي طالما تحدى الالم بسخرية مرة عميقة.