كانت بغداد للفترة ما بين الاحتلال العثماني حتى الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917 تقتصر على بعض الصناعات اليدوية الاولية البسيطة التي كان البغداديون يمارسون فيها مهنهم التي تعلموها توارثا عن طريق آبائهم واجدادهم.. وكانت اسواق بغداد معدودة، حيث ان العراقيين كانوا يصارعون الحياة التي كان يعاني منها المجتمع العراقي من الفقر والحرمان من ابسط مستلزمات التقدم التي نعيشها الان، اذ كان سكان بغداد يعتاشون على الطبيعة من دون وجود كهرباء واجهزة التدفئة والتبريد او سيارات نقل فارهة بموديلات حديثة.. ومع كل هذا وذاك، فقد كانوا يصنعون الحياة بطرق متجددة ليواصلوا ويتعلموا، ومع تعلمهم بدأت الحياة تشهد تقدما ملحوظا علميا وتكنولوجيا. «الشرق الأوسط» توقفت في أسواق بغداد لإجراء مقارنة بين حالها اليوم والامس، فوجدت ان بعضها ما زال يحمل نفس الاسماء التي حملها في الماضي مع اختلاف كبير بنوع البضاعة وحجم مساحة الاسواق. ويمكن القول ان الاسواق توزعت قديما كما يلي: سوق البزازين، المعروفة بسوق «الجوخه جية» اليوم، وهي سوق متخصصة ببيع الاقمشة وخاصة نوع «الجوخ» فضلا عن بيع اقمشة اخرى في هذا السوق منها الحريرية والقطنية، اما اليوم فقد بقيت هذه السوق ولكنها تعرف بسوق «القماش»، وتضم كل انواع الاقمشة القطنية وغيرها. وهذه السوق تقع ما بين ساحة الشاعر معروف الرصافي وبين شارع النهر. كما ان هناك محلات تجارية موزعة في مناطق بغداد المختلفة. ففي منطقة الكرادة والمنصور والاعظمية والكاظمية والبياع وغيرها توجد اسواق متخصصة ببيع الاقمشة على اختلاف انواعها والوانها، بعد ان كانت تقتصر على سوق البزازين التي ما زال قسم من البغداديين يطلقون ذات التسمية عليها.
اما السوق الاخرى، وهي سوق القزازين، والتي يذكر المؤرخون بأنها كانت سوقا عامرة، اذ تباع فيها انواع الاقمشة من الحرير والقز المصنوعة في بغداد، اضافة الى انه تباع في هذه السوق الاحزمة من نوع «الهميان» و(الحيص)، جمع حياصة، وهي الاحزمة الخاصة بالشباب آنذاك. اما الصناعات الجلدية فهي اليوم منتشرة في اماكن عدة من بغداد ولم تعد تطلق عليها التسمية القديمة. والسوق الاخرى التي كانت موجودة في الفترة القديمة، هي سوق السراجين، وهي سوق متخصصة بعمل السروج، جمع سرج، وهو يستخدم للخيل التي كانت تنتشر في بغداد كوسيلة نقل، وكانت تسمى «الربل»، كما كانت هذه السوق تتخصص بصناعة صناديق من جلد الغنم، وكانت هذه الصناعة تتم مكان ما يعرف اليوم بسوق الصاغة المتصلة بسوق السراي والمعروفة بسوق الشابندر. وتبرز بعد ذلك سوق الغزل، وتعتبر من امهات الاسواق الموجودة في بغداد، حيث تكدس كميات كبيرة من القطن وانواع الغزل الذي تنسج منه الاقمشة وفي مقدمتها العباءة، كما تزدهر السوق ببيع الاواني النحاسية، فضلا عن بيع انواع الطيور والحمام الزاجل والقمري والقطا والبط والدجاج وغيرها من الحيوانات كالخراف والماعز والغزلان والقرود والارانب، كما تباع في هذه السوق انواع من العطور المتوفرة آنذاك كالقداح وماء الورد.. اما اليوم فقد بقي اسم هذه السوق على ما هو عليه، الا انها تخصصت في بيع الطيور والحيوانات والافاعي وغيرها فقط. وهناك سوق أخرى ما تزال تحتفظ باسمها، ولكنها تحتفظ بذات المهنة التي كانت تمارس في هذه السوق، إنها سوق الصفارين الذين كانت دكاكينهم مكتظة بالأواني النحاسية والقدور والاباريق وغيرها، وقد اقتصرت هذه السوق على الصفارين فقط. ويسمع المرء عند دخوله السوق الطرق على الاواني النحاسية، بيد ان الاسم الذي كان متداولا بالامس تغير لفظا فقط حيث اصبح يعرف بسوق الصفافير. وتم توسيع هذه السوق وبناؤها بناء حديثا، حيث وضعوا فوقها سقفا من الحديد والزجاج لمنع تساقط الامطار، وباتت السوق مضاءة بعد ان كانت مظلمة. سوق أخرى، هي سوق الهرج وهذه السوق كانت تقع سابقا بمحاذاة دائرة الكمرك والمكوس (المدرسة المستنصرية)، واطلقت عليها هذه التسمية لكثرة الازدحام فيها وارتفاع اصوات البائعين، حيث كانت تباع اضافة الى الخردة، الاسلحة النارية والجارحة امام انظار الناس والحكومة. واليوم تقع سوق الهرج في منطقة الميدان بالقرب من وزارة الدفاع، وتقع سوق اخرى للهرج في الباب الشرقي خلف وزارة الاعلام السابقة اضافة الى سوق اخرى عند منطقة كراج النهضة، وفي مناطق شعبية توجد اسواق هرج مصغرة لبيع الأشياء القديمة والمستعملة وحتى المسروقة. اما سوق الصاغة، فقد كان يطلق عليها في السابق «خان جغان»، وتقع محل سوق دانيال الآن، وقد انتشرت فيها محلات الصاغة للذهب والفضة حيث انحصرت هذه الصناعة آنذاك باليهود وعدد قليل من المسلمين والمسيحيين والصابئة، وقد اطلقت عليها تسمية «خان جغان»، حسبما يؤكد المؤرخون انه في اي وقت تدخل الى هذه السوق تجده يغص بالنساء اللواتي يشترين الملاوي والخلاخيل التي كانت موضة ذلك الزمان، وكان الصائغ اليهودي يمتاز ببراعة أسلوبه في إقناع النسوة بالشراء.
وكان اليهود يسيطرون على صناعة المجوهرات منذ القدم، إلا ان الصابئة توارثوا هذه المهنة وسيطروا على هذه السوق التي لم تقتصر على مكان واحد، فالآن تنتشر اسواق الصاغة في شارع النهر والكاظمية والاعظمية والمنصور والكرادة، اضافة الى انتشارها في مناطق اخرى، مثل منطقة بغداد الجديدة والمشتل وشارع فلسطين والبياع والشعب وكافة مناطق بغداد. وتشكل نسبة الصابئة في هذه الصناعة النسبة الاكبر. سوق اخرى ما زال اسمها وتخصصها باقيين لحد الآن، هي سوق الشورجة حيث كانت قبل عام 1910، ضيقة تضم محلات للعطارين، وفي ايام الوالي ناظم باشا جرى توسيع هذه السوق لتباع فيها العطاريات كالشاي والسكر والصابون والحبوب كالرز والحنطة.. وقد توسعت هذه السوق الآن لتأخذ الجانب الواقع بين شارع الرشيد وشارع الجمهورية ولتشمل ايضا السوق الواقعة بين شارع الجمهورية وشارع الكفاح، وقد بقيت على تخصصها في بيع المواد الغذائية بأنواعها المعلبة والحبوب والبهارات والصابون والمنظفات الاخرى وكل ما يحتاجه البيت العراقي. أما سوق حنون، فتقع في منطقة قنبر علي، وكانت هذه السوق مليئة بالأوساخ والقاذورات، وكان اليهود يقطنونها قبل ان يرحلوا من العراق وكانوا يبيعون فيها اللحوم والاسماك والدجاج والبيض والفواكه والخضروات، اما الآن فتتسم سوق حنون بنفس الصفات التي كانت عليها في السابق ولم تتطور مع تطور الزمن.
أما سوق السراي، فقد كانت متصلة بدوائر الحكومة وقد احتفظت باسمها لحد الآن حيث تباع فيها الكتب الادبية والمدرسية، وأقدم بائع في هذه السوق هو الملا خضير يليه الملا نعمان الاعظمي، صاحب المكتبة العربية المؤسسة سنة 1905، ومحمود حلمي صاحب المكتبة العصرية المؤسسة عام 1914. وتمتاز هذه السوق الآن ببيع القرطاسية واللوازم المدرسية لكل المراحل الدراسية بدءا من الابتدائية وانتهاء بالمراحل الجامعية.