«قلت في صدام حسين شعراً لم يقله المتنبي في سيف الدولة»

عبد الرزاق عبد الواحد صاحب «خيمة على مشارف الاربعين» يتحدث عن صياغته الأدبية لكتاب الصابئة الديني «الكنزاربا»، ويرد على التهم الموجهة ضده

TT

* كل ما كتبته في حياتي من شعر في كفة وصياغة كتاب «الكنزاربا» في كفة

* اعيش من مرتبي الذي يساوي مائة دولار والمكرمات مقطوعة عني

* قصيدتي في رثاء الجواهري اثارت عليَّ غضباً وقصيدتي في ذكرى استشهاد الحسين كادت تصبح نشيداً وطنياً زار وفد من طائفة الصابئة المندائيين في بغداد الرئيس العراقي صدام حسين، قبل ايام، وقدم اليه النسخة الأولى من الترجمة العربية لـ «الكنزاربا» ـ الكنز العظيم ـ وهو الكتاب الديني للطائفة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، ويقيم من بقي من ابنائها اليوم في العراق. وهاجر قسم كبير منهم الى الخارج في السنوات الأخيرة. وصاغ هذه الترجمة في سبيكة ادبية الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي حاورناه اثناء زيارته الاخيرة لباريس، حيث تحدث عن هذه الترجمة التي اثارت ضجة في العراق، وعن موقعه كشاعر برع في مديح صدام حسين.

* بأي لغة كتب «الكنزارّبا» وكيف جاءت فكرة نقله الى العربية؟

ـ اود ان اشير اولاً الى ان الديانة الصابئية هي اقدم ديانة موحدة في العالم. لكنها ظلت اشبه بالطلاسم، لا احد يعرف عنها شيئاً، لأنها مورست باللغة المندائية، احدى البنات الأربع للغة الارامية الى جانب العبرية والسريانية والعربية. ولهذا فإن هناك تقارباً بين المندائية والعربية. فنحن عندما نسمي على الطعام، مثلاً، بالمندائية نقول: «بشمد هيي» أي باسم الحي.

وفي العصور السابقة، كان الصابئة يمارسون طقوس دينهم بلغتهم التي يعرفونها جميعاً. لكننا وصلنا الى زمن ما عاد ابناء الطائفة فيه يعرفون المندائية، الا القلة منهم ورجال الدين. وحتى هؤلاء لا يحسنونها كما يجب ولا يدركون بلاغتها. أما طقوس الصلاة والزواج والتعميد وغيرها، فتتم احياناً بترجمة مشوهة إلى العربية.

أما لماذا تأخرت ترجمة الكتاب، فلأن بعض رجال الدين في الطائفة ظلوا يعارضون هذه الفكرة، خشية الا تكون الترجمة بمستوى النص فتفقده هيبته وقدسيته، ثم ان هؤلاء مثل غيرهم في عصور اخرى وعقائد اخرى، يعتاشون من انفرادهم بمعرفة اسرار الكتاب، وقد جمع بعضهم ثروة من وراء ذلك.

وفي السنوات الاخيرة حصل الصابئة على حرية اوسع من السابق في ممارسة شعائرهم في العراق، وصارت لهم مجلتهم الخاصة «آفاق مندائية»، وصاروا يدرسون لغتهم داخل معابدهم. وقد شجعت هذه الفسحة من الحرية مجلس الطائفة في بغداد على الشروع بترجمة «الكنزاربا» أي الكنز العظيم الى العربية.

* من الذي تولى الترجمة؟

ـ وقع المجلس في حيرة، اذ لا يوجد في الطائفة من هو ضليع بشكل عميق باللغة المندائية. لهذا استقر الرأي على ان يتولى الترجمة اساتذة كبار في الاراميات من جامعة بغداد، على رأسهم البروفيسور يوسف قوزي.

وقد كان هذا المترجم المسيحي نموذجاً اعلى في الاخلاص والدقة، وبذل في عمله جهداً كبيراً. واكد قوزي رأي المترجم الالماني الذي كان قد نقل «الكنزاربا» الى الألمانية عندما قال: «اي شعراء عظام كانوا وراء هذا الكتاب!». وجرى تشكيل لجنة عليا لمتابعة الترجمة، واختارتني اللجنة لوضع الصياغة النهائية للترجمة العربية.

* هل ساعدك انك صابئي، التوغل الى اعماق النص؟

ـ بالتأكيد، فقد كنت اهجس بالميثولوجيا الصابئية بشكل عميق وافهم العبارات رغم تعقيداتها. ثم انني وجدت نفسي ازاء ترجمة حرفية تقود احياناً الى عبارات غير مفهومة. واكتشفت ان المسألة الاساسية في نص لاهوتي مثل هذا، ليست في الكلمات وانما في ظلال الكلمات، وان عليَّ ان ابحث في ظلال الكلمات ومساقطها. وبما ان فصول الكتاب مكتوبة اساساً شعراً، فقد حرصت على ان اجعل لغتها اقرب الى الشعر، واحسست ان اقرب انواع اللغة لصياغتها واعدادها بشكل ذي رهبة، لغة سجع الكهان.

الشعر والنص الأصلي

* هل هذا هو سبب الضجة التي ثارت عليك؟

ـ طبعاً، فهناك من المتقولين من اشاع ان عبد الرزاق عبد الواحد يريد ان يؤلف ما يشبه القرآن الكريم، وهذا غير صحيح. نعم، لقد اجتهدت ان انجز صياغتي سجعاً بأعلى مستويات اللغة العربية، وكانت هناك معان كثيرة تتشابه مع ما جاء في كتب التوحيد من تقديس للخالق ودعوة الى عبادته وتسميته بالاسماء الحسنى.

* قال المترجمون انك تجاوزت ترجمتهم الحرفية وشرعت تنشئ شعراً لا علاقة له بالنص الاصلي.

* بقدر ما كان البروفيسور قوزي اميناً على الترجمة، كنت اميناً على الا اغير حرفاً من الكتاب الا لضرورات الصياغة العربية. ويحدث ان اتصرف بلاغياً دون ان امس بالمعنى. وقد تشكلت، بشكل متعاقب، لجان للسلامة الفكرية من العارفين باللغة المندائية، للتأكد من امانة الصياغة العربية ومنع اي شطط، وكنا نعيد القراءة معاً، واذا ظهر اي احتمال لاختلاف في تطابق المعاني، أو خشية من تفسيرها بشكل مغاير، فإنني كنت أعيد صياغتي حسب النص الاصلي.

* كم استغرقت هذه العملية من وقت؟

ـ انقطعت لهذه المهمة لسنة واربعة أشهر، لم اتقاض عنها أجراً، وقطعت علاقاتي بمجلات وجرائد في الخليج والأردن كنت اراسلها لاستعين على معيشة اسرتي. كان لا بد من ان ادخل بكليتي في الجو اللاهوتي للصياغة، وامنحها كل طاقتي. وهناك صفحات من النص غسلتها بدموعي فقد كنت منفعلاً لما فيها من قصائد عذبة ومن جماليات لا يتصورها العقل، وارجو الا تصفي كلامي هذا بأنه تخيلات شاعر. اما الآن، وبعد انجاز هذه الصياغة التي فاقت صفحاتها المطبوعة الخمسمائة، فإنني مقتنع انني سأواجه الموت، حين تحين ساعتي، بابتسامة مطمئنة. فكل ما انجزته في حياتي في كفة، وصياغة هذا الكتاب في كفة.

* ذكرت ان العمل في الكتاب جعلك تنقطع عن مراسلة صحف عربية كنت تقيم بها امور بيتك. هل يعقل ان شاعر الرئيس صدام يضطر ـ وهو في السبعين ـ الى الكتابة الصحافية ليعيش؟

ـ انا عراقي. وعندما اكتب اكتب للعراق. وقصائدي التي افتتح بها مهرجان المربد كل عام مكتوبة للعراق، وفيها اوجاع العراق بأعمق ما يتصوره انسان.

ان الذين يكتبون عن بلدنا وهم خارجه لا يمكن لهم ان يتصوروا كيف نعيش.

فالذي يقف خارج المجمر ليس كالذي يقبض على النار بيديه. انا موظف مثل سائر الموظفين في الدولة، وليس لي أي مورد آخر. وقبل أشهر قلائل جرى تخصيص رواتب مضافة للشعراء جميعاً، وليس لي فقط، لتسد بعض نفقات حياتهم.

شاعر وطن

* عفواً للسؤال ولكن كم كنت تتقاضى وكم اصبح مرتبك بعد الزيادة؟

ـ المرتب السابق كان يعادل بضعة دولارات، والمرتب الجديد يساوي حوالي المائة دولار في الشهر، وهذا هو راتب الدرجة الأولى. وانا عندي عائلة كبيرة، وليس لي من مصدر للعيش غير مرتبي، وليفهم الناس انني شاعر وطن ولست شاعر أي شيء آخر، وليتوقفوا عن اطلاق التسميات عني «على كيفهم».

* من الناحية الابداعية، كيف يمكن لشاعر ان يوقف قصائده على مديح الحاكم؟

ـ ان هذا من صميم تراث الشعر العربي. لقد كان المتنبي شاعر سيف الدولة واسقط عليه كل احلامه في البطولة. واجمل ما في شعر المتنبي هي عناصر البطولة التي اسقطها على سيف الدولة. واقسم لك ان اجمل ما في شعري هو عنصر البطولة الذي اسقطته على صدام حسين، لأنني اتخذته رمزاً للقائد العظيم وكتبت فيه ما اتمنى ان يكون عليه الانسان العربي العظيم. واذا كان هناك ما سيخلدني في المستقبل فهو هذه القصائد. لقد قلت في صدام شعراً لم يقله المتنبي في سيف الدولة. اما ما يقوله الآخرون فلا يعنيني. واقول من المنبر الذي سينشر هذا الكلام انني لا اتقاضى من احد شيئاً والمكرمات مقطوعة عني واعيش بمرتبي وبما انشره في الصحافة، والعراق امامي لا اقايض عليه ولا اساوم.

رثاء الجواهري

* لكن العراق مر ويمر في ظروف عصيبة جداً، فهل يستطيع الشاعر ان يصارح الحاكم بحقيقة ما يعانيه الشعب؟

ـ عندي قصيدة معروفة كتبتها في عيد ميلاده عام 1993 اقول فيها:

«أدرك حدود الصبر لا تتزعزعُ وأقمْ ظهور الناس لا تتقطع فالسيل قد بلغ الزبى يا سيدي وبيوت اهلك بالتقى تتدرع ولقد تحامينا بحيث فطيمنا لا يغتذي ورضيعنا لا يرضع» وفيها اقول:

«يا سيدي بعض الحصار حصارهم وحصارنا بحصارهم يتقنع بعض الخراب خرابهم وخرابنا عن ضعف ما فعلوه لا يتورع ولقد حميت الدار فاحرس بابها من بعض ايدي أهلنا لا تقرع».

* هل تكتب بحرية كل ما تود قوله؟

ـ في كثير من قصائدي اتوخى الحذر لأنني اتجاوز.

* ممن تتوخى الحذر؟

ـ من اصدقائي. لكني ادري ان من اوجه اليه خطابي يعرف صدقي واخلاصي للعراق.

* هل حدث ان اثارت قصيدة غضباً عليك؟

ـ نعم. وقد اثارت عليَّ قصيدتي في رثاء الجواهري بعض الغضب، وهي قصيدة كتبتها مباشرة بعد وفاته ونشرت في «العرب» اللندنية و«الرأي» الاردنية، وقد تقصدت ان اعارض بها قصيدته الرهيبة.. جوهرة الجواهري في المعري:

(قف بالمعرة وامسح خدها التربا) وبدأتها هكذا:

«لا الشعر ابكيه لا الابداع لا الادبا ابكي العراق وابكي امتي العربا ابكي على شمس اهدروا دمها وبعدما فقدوها اسرجوا الحطبا ابكي على وطن يبقى الاديب به ليس الغريب ولكن اهله غُربا ابكي على النخل يا من انت صاحبه وانت ساقيه قرناً ماءك العذبا وراح حتى العدا يجنونه رطباً وانت تعلك منه السعف والكربا».

هجوم من الداخل

* ما رأيك بالقوائم التي نشرت في بغداد باسماء المثقفين العراقيين الموجودين في الخارج ووصفت عدداً منهم بالمرتدين والمتذبذبين؟

ـ تحصل مثل هذه الامور احياناً، وقد تعرضت شخصياً للشتم شتائم مقذعة على صفحات الجرائد العراقية بتهمة انني مدحت فلاناً من الحكام العرب وانني هربت من البلد. ولما عدت وجدت ان الرئيس تصدى بنفسه لتلك الموجة واوقفها. وانا على يقين ان هناك في الخارج من المثقفين من هو اكثر حنواً على وطنه حتى من الموجودين في الداخل، وشاهدت من تنهال دموعه عندما يذكر العراق. وليس من حق احد ان يشتم هؤلاء كلهم، والاختلاف في الرأي ليس ضد العراق. مع هذا اقول انني رأيت بعض العراقيين في الخارج اعداء لوطنهم، وهناك من بلغت به مرارة الغربة حد الانقلاب حتى على اهله وشعبه.

* ألا يؤخذ رأيك، وأنت المستشار الثقافي في وزارة الاعلام، قبل اصدار مثل هذه القوائم؟

ـ انا مستشار لا يستشار الا في بعض الدعوات لمهرجان «المربد» باعتباري عضواً في اللجنة المنظمة له.

وقد استقلت من اتحاد ادباء العراق قبل سنوات وقلت في استقالتي التي نشرتها الصحف ان هوية هذه المؤسسة ما عادت تشرف صاحبها. هذا رغم انني كنت احد مؤسسي هذا الاتحاد الذي تألق حتى ملأ الدنيا ثم انطفأ بشكل قاس.

* لقد نصبت في السبعينات من القرن الماضي «خيمة على مشارف الأربعين». فما اجود شعرك وانت على مشارف السبعين؟.

ـ قصيدتي التي كتبتها عن الامام الحسين والقيتها في كربلاء يوم عاشوراء وكادت تصبح نشيداً وطنياً ويعلقها العراقيون في بيوتهم. ونقشت هذه القصيدة على قبة مغلفة بالحجر الازرق في ديوان آل الخاقاني في كربلاء، وفي كل عاشوراء يذيعها التلفزيون العراقي ثلاث مرات، مرة بصوتي، ومرة باداء مسرحي بصوت الممثل جواد الشكرجي، وثالثة بصوتي مع اخراج سينمائي. واقول في القصيدة:

«قدمتُ وعفوك عن مقدمي حسيراً اسيراً كسيراً ضمي قدمتُ لأحرم في رحبتيك سلام لمثواك من محرم ومذ كنتُ طفلاً رأيتُ الحسين مناراً الى ضوئه انتمي ومذ كنتُ طفلاً عرفت الحسين ملاذاً بأسواره احتمي ومذ كنتُ طفلاً وجدت الحسين رضاعاً وللآن لم افطم سلام عليك فأنت السلام وان كنت مختضباً بالدم وانك معتصمُ الخائفين يا من من الذبح لم يُعصم لقد قلت للنفس هذا طريقك لاقي به الموت كي تسلمي وخضت وقد ضُفر الموت ضفراً فما فيه للروح من مخرم ويا ابن النبي سيفه ما يزال اذا قيل يا ذا الفقار احسم ملكتَ الحياتين دنيا واخرى وليس ببيتك من درهم...» عبد الرزاق عبد الواحد:

مديح الحاكم من صميم التراث العربي