المرجعية الشيعية منذ «الغيبة الكبرى» حتى النجف

الطوسي اقدم المراجع في العراق .. والسيستاني أبرز الحاليين

TT

عندما زرت مسكن المرجع الديني الاعلى آية الله علي السيستاني، قبل اقل من ثلاث سنوات برفقة رجل الدين عبد المجيد الخوئي، استغربت ان يكون منزل المرجع الاعلى للشيعة يقع في زقاق ضيق لا يتسع لدخول سيارة صغيرة، وكل اهمية هذا الموقع انه قريب من مرقد الامام علي في شارع الرسول، وان السيد السيستاني يقطن هذا المنزل وعائلته منذ سنوات طويلة.

كنت اتصور اننا سندخل منطقة منعزلة في النجف، بعيدة عن الانظار، محروسة برجال حماية امنية مدججين بالاسلحة، واننا سندخل قصرا منيفا اسواره مؤثثة بالكاميرات السرية، مفروشا بأفخم الاثاث ومزدحما بالخدم، لكن المفاجأة كانت عندما دلفنا في ذلك الزقاق النجفي العتيق، حيث توقفنا عند باب حديدي اعتيادي ذي لون أخضر باهت، طرقنا الباب ودخلنا الى البيت، بيت السيستاني ما غيره. وسأكتشف في ما بعد ان ما يميز بيوت بقية المراجع الدينية الشيعية في النجف هو تنافسها في ما بينها في بساطتها وتقشفها، ولعل اكثرهم تقشفا كان بيت المرجع الاعلى الراحل آية الله ابو القاسم الخوئي. من الداخل لم يكن مسكن السيستاني سوى حوش صغير تحتل غرفة صغيرة شماله، وقد تحولت الى مكتب المرجعية، بينما تتصدر الحوش غرفة كبيرة بعض الشيء خصصت لمجلس المرجع، حيث يستقبل زواره من جميع الفئات والطبقات بلا تمييز. أما سكنه وسكن عائلته فيقع في الطابق الاعلى من البيت، وقد تمت اضافة غرفتين مؤخرا ليستوعب البيت عائلة السيد الذي يأتمر الشيعة بأمره، فما هي قصة المراجع الدينية للشيعة. رجل الدين والباحث الاسلامي حسن السيد عز الدين بحر العلوم، الذي يتحدر من واحدة من ابرز العوائل الدينية والعلمية في الحوزة يقول «يعتقد الشيعة الإمامية الاثنى عشرية بأن رجوع الشيعة في أحكام دينهم وأمور حياتهم العامة لا بد أن يكون للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومن بعده للإمام المعصوم المعين من قبل النبي، وهم الأئمة الاثنى عشر، ابتداءً من الإمام علي (عليه السلام) وانتهاء بالإمام المهدي، وهو ما يطلق عليه بعصر الظهور. وبعد غياب الإمام المهدي (حسبما تعتقد به الشيعة الاثنى عشرية) كان اتصال الشيعة بالإمام عبر وكلائه أو سفرائه الأربعة وهم: عثمان بن سعيد العمري ومحمد بن عثمان بن سعيد العمري الذي توفي 305 هـ وأبو القاسم الحسين بن روح النوبختي وتوفي 326 هـ وأبو الحسن علي بن محمد السمري الذي توفي 329 هـ. وسميت هذه الفترة الزمنية التي تولى فيها السفراء الأربعة السفارة والنيابة عن الإمام المهدي بالغيبة الصغرى، وكانت مدتها 69 سنة.

مع الغيبة الكبرى للامام المهدي في مدينة سامراء عام 329 هجرية، فإن مراجع التقليد هم الوكلاء الذين اختارهم الامام ليكونوا صلة الوصل بينه وبين الطائفة الشيعية، ووفق حديث الإمام المهدي الذي يحدد فيه الشروط التي يجب ان تتوفر في المرجع الديني وهو «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه، فعلى العوام أن يقلدوه». ويعرف بحر العلوم، وهو حفيد المرجع الديني محمد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1212 هجرية، المرجع قائلا «هو الفقيه المجتهد المسؤول عن بيان الحكم الشرعي الذي يحتاج المؤمنون معرفته في عباداتهم ومعاملاتهم. وقد أكد الفقه الإمامي هذه الحقيقة، حيث يبدأ أي كتاب فقهي بتلك العبارات: يجب على كل مكلف غير بالغ مرتبة الاجتهاد في غير الضروريات من عباداته ومعاملاته، ولو في المستحبات والمباحات أن يكون مقلدا أو محتاطا، والتقليد هو العمل مستندا إلى فتوى فقيه معين»، مشيرا الى ان المرجع الذي يتم تقليده، يجب ان يكون عالما مجتهدا عادلا ورعا في دين الله، بل غير مكب على الدنيا ولا حريصا عليها وعلى تحصيلها جاها ومالا».

المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية، كيان فقهي كبير يحتل في الحياة السياسية والدينية مساحة واسعة جداً يرتبط بها الشيعة بأوثق العلاقات وأمتنها، وتكتسب تعليمات المرجعية بالنسبة للفرد الشيعي صفة الأمر والحكم الشرعي الملزم دينياً، الذي لا يجوز التخلف عنه ومخالفته.

لعل اشهر مراجع الشيعة واقدمهم في العراق هو الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، ولد سنة 460 هجرية، الذي اهتم بعد حدوث «الغيبة الكبرى» عام 329 هجرية بجمع احاديث الشيعة الى جانب كل من محمد بن يعقوب الكليني، ولد سنة 329 هجرية، والشيخ محمد بن علي القمي، ولد سنة 381 هجرية. وقد انتقل مقر المرجعية من سامراء، حيث غاب الامام، الى العاصمة بغداد ثم هاجر الطوسي الى النجف خشية من بطش المغول وحفاظا على المرجعية فاستقرت هناك قرب ضريح الامام علي.

ويمكننا ان نسمي أهم ثلاثة مراجع في القرن العشرين وهم: محسن الحكيم وابو القاسم الخوئي وعلي السيستاني، ويشير علماء الشيعة الى ان ابرز هذه الاسماء على الاطلاق هو ابو القاسم الخوئي «الذي توفرت له من امور قيادة المرجعية ما لم تتوفر لمن سبقه ولن تتوفر لمن سيأتي من بعده».

ويتحدر ابو القاسم الخوئي من اصول عربية في مدينة الكوفة، بقي على كرسي التدريس اكثر من 70 عاما حتى لقب باستاذ الاساتذة وزعيم الطائفة، ويعد غالبية المراجع والمجتهدين المعروفين من تلامذته، بمن فيهم السيستاني الذي يعد خير من يمثل مدرسة الخوئي في الاجتهاد والتدريس والاعتدال، كما ان الخوئي بقي مرجعا اعلى لاكثر من 25 عاما، وهو الاطول عمرا بين بقية المراجع، حيث مات وهو في المائة، ولم يستطع أي مرجع منافسة الخوئي في قيادته للامة الشيعية في جميع انحاء العالم، وذلك بسبب علمه وفقهه وخبرته ومؤلفاته وانصرافه للدين وللعلم بروح متقشفة وزاهدة عن امور الدنيا.

لا يتم اختيار المرجع من قبل النظام الحاكم، وان كان قد حدث مرة ومن غير الرجوع الى الطائفة، ذلك عندما اختار نظام صدام حسين التعامل مع محمد محمد صادق الصدر كمرجع للشيعة لكونه عربيا وعراقيا ولا يتحدر من اصول اجنبية. حدث ذلك عام 1992 بعد وفاة المرجع الاعلى آية الله ابو القاسم الخوئي، حيث انتقلت المرجعية العليا الى آية الله الكلبيكاني في قم وبقي الشيعة يتعاملون من الكلبيكاني كمرجع اعلى حتى مات بعد ستة اشهر من تقلده المرجعية، فعادت المرجعية الى مدينة النجف متمثلة في آية الله علي السيستاني.

كما ان المرجعية لا تورث لابن او لأخ او لابن عم، وللشيعة طريقتهم الخاصة في انتخاب المرجع الديني الذي يتصدى لشؤون التقليد، وهذا لا يتم عن طريق ترشيح المرجع لنفسه والفوز عبر صناديق الاقتراع. لانتخاب المرجع لدى الشيعية اسلوب مفتوح للجميع، والعملية تتم عندما يرشح العلماء رجل دين مجتهدا ومرجعا ليتصدى للمرجعية استنادا الى عدد مقلديه. ومن بين اربعة مراجع في العراق وهم: علي السيستاني واسحاق الفياض ومحمد سعيد الحكيم وبشير النجفي، تم ترشيح السيستاني ليكون المرجع الاعلى بسبب اعداد مقلدي هذا المرجع التي تفوق بنسب متفاوتة المراجع الآخرين. إنّ المكانة التي تحتلها المرجعية، جعلها حقيقة كبيرة فرضت نفسها على الواقع السياسي بكلّ قوّة، وراحت الحكومات تتعامل معها بحسابات دقيقة، وقد تحاشت السلطات العراقية أن تصطدم معها قدر الإمكان، خوفاً من تعرضها لثورة جماهيرية، رغم أنّ السلطات كانت تعمل على إضعافها وتقليل مكانتها السياسية. فالحكومات تنظر إلى المرجعية على أنها سلطة ذات نفوذ على الشيعة، بل إنّ سلطة الحكومة قد تتعطل إذا ما تعارضت مع موقف المرجعية. والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة.

اما تمويل المرجعية فيتم عن طريق الزكاة والخمس، أي ان يدفع كل شيعي خمس ارباحه للمرجعية، وللمرجع الحق في التصرف بهذه الاموال حسب احتياجات الطائفة، مثل بناء المساجد والمعاهد الدينية والمكتبات وتعميرها، وكذلك بناء المستشفيات والمراكز الصحية، وصرف الرواتب الشهرية لاساتذة الحوزة العلمية وطلبتها والانفاق على الفقراء وسد احتياجاتهم. ولا نستطيع معرفة الرقم الاكيد لدخل المرجعية، وهذا موضوع صعب للغاية، لكننا نستطيع ان نحدس ان نفقات المرجعية كبيرة جدا، وخاصة في الظروف الحالية في العراق، حيث نفقات المرجعية على الفقراء وطلبة العلم في حوزتي النجف وقم في ايران.

أبناء الطائفة الشيعية لا ينظرون الى قومية المرجع الديني الاعلى، سواء كان عراقيا أم هنديا أم ايرانيا، بل يهتمون بعلمه وفقهه، ونرى ان السيستاني ايراني الاصل، لكنه يعيش في العراق منذ اكثر من نصف قرن. ويبلغ عمر السيد السيستاني 74 عاما، وله ولدان اكبرهما محمد رضا وبنات غالبيتهن تزوجن من رجال دين». ولا ينقطع السيد السيستاني عن امور الدنيا متزهدا بعيدا عما يجري حوله، فهو يشاهد التلفزيون ويسمع الاذاعات ويقرأ الصحف ويستخدم الكومبيوتر. يقول بحر العلوم من الصعب معرفة عدد اتباع السيستاني، لكننا نعتقد ان غالبية من شيعة العالم يتبعونه او يقلدونه».

اما المراجع الثلاثة فهم: محمد سعيد الحكيم، عربي، واسحاق الفياض الذي يتحدر من افغانستان ومقيم في العراق منذ 50 سنة، وبشير النجفي، باكستاني، وهو مقيم في العراق منذ اكثر من 53 سنة. ولهؤلاء المراجع مقلدوهم ايضا في العراق وفي سائر انحاء العالم، وبالرغم من ان المراجع الاربعة هم تلامذة ابو القاسم الخوئي، الا ان رجال الدين في النجف يرشحون كلا من الحكيم والفياض ليكون احدهم مرجعا اعلى بعد السيستاني.