عقبة «ضلَع».. سيولها لا تزال تقتلع الجسور وتغرق المواطنين

معلم متقاعد نذر بقية حياته للترافع نيابة عن أهالي ضحايا السيول

TT

قبل أكثر من 25 عاماً، انتشرت حكاية طريفة في المنطقة الجنوبية، عن أحد السيول التي خرّبت جزءا كبيرا من عقبة ضِلَع، نسبة إلى وادي ضلع الذي ينحدر من جبال منطقة عسير ويصب في البحر الأحمر. ووصف ذلك السيل بسيل العفاريت (كبار الجن)، بسبب اشتعال النار في أوله حتى وصوله إلى المصب في المنطقة الساحلية، بحسب ما ذكره محمد عسيري، الذي أضاف أن خاله كان يملك محطة لبيع الوقود في طرف وادي ضلع، جرفها سيل السّبت ـ سماه أهالي المنطقة بذلك نسبة إلى اليوم الذي سال فيه ـ الشهير قبل 25 عاماً، بعد يومين فقط من تشغيلها، ووجدت أجزاء كثيرة منها في مدينة الشقيق (مدينة ساحلية تتبع منطقة جازان تقع على البحر الأحمر)، على مسافة 120 كيلومتراً تقريباً، ولم يبق منها سوى غرفة واحدة فقط. وتحول حادث تحطمها إلى حكاية طريفة انتشرت في منطقتي عسير وجازان آنذاك، مفادها أن سيل السبت الشهير فيه عفاريت، لأن في أوله نارا مشتعلة، غير أن الحقيقة أن براميل البنزين تحطمت واختلطت بمياه السيل، ثم احترقت كميات البنزين المتسربة والطافية على سطح مياه السيل، ولذلك ظهر أول السيل مشتعلاً. وتعد عقبة ضِلَع واحدة من أشهر الطرق الجبلية الخطرة في المملكة، إضافة إلى عقبتي شعار والهدا، وتقع جميعها في سلسة جبال السروات، غير أن عقبة ضلع تتميز عن مثيلتيها، بأنها مشروع لم يكتمل بعد، منذ عام 1980، بعد أن أطاحت السيول العارمة الشهيرة بجزء كبير من الجسور والكباري والإسفلت التي شيدت آنذاك، وضربت بها عرض الجبال، مخلفة أضراراً مادية وبشرية، امتدت آثارها حتى اليوم. وتعتبر المنطقة التي شيدت فيها العقبة من أصعب المناطق، من حيث تكوينها الجغرافي والجيولوجي. كما تعتبر عقبة ضلع الطريق الوحيد الذي يربط بين منطقتي عسير وجازان، بطول يبلغ 85 كيلومتراً، علماً بأن المسافة بين عاصمتي المنطقتين 205 كيلومترات تقريباً. وتعد عقبة ضلع الرابط الأقرب لأهالي عسير للوصول إلى طريق الساحل، الذي يصل إلى جدة شمالاً، أو إلى جازان جنوباً، كما تعد الأقصر مسافة وزمناً لأهالي تهامة عسير وجازان، في التردد على مدينتي أبها وخميس مشيط، حيث يداوم من خلالها أسبوعياً، ويوميا أحياناً، الطلاب والطالبات في جامعة الملك خالد، وكذلك منسوبو القطاع العسكري في خميس مشيط. وتصبح عقبة ضلع في فترة الصيف معبراً إجبارياً لكل من أراد التمتع بجو عسير المعتدل والممطر، حيث تشهد كثافة مرورية للمقبلين من المدن الساحلية ومن اليمن. أما في فترة الشتاء، فتصبح كثافة الحركة المرورية معكوسة، فبسبب برودة الطقس في المرتفعات، يقبل أهالي مدينتي أبها وخميس مشيط على المطاعم والاستراحات المنتشرة على ضفتي طريق عقبة ضلع، بحثاً عن المناخ المعتدل الدافئ والطبيعة البكر. وتنقسم عقبة ضلع إلى قسمين رئيسين; الأول من مدينة أبها وحتى نهاية الجسر المعلق ـ جسر أحمر يربط بين جبلين بقوسين من الحديد الصلب ـ ويمتاز هذا القسم بأن الطريق يمتد بثلاثة مسارات; مساران للمقبلين من أسفل، أحدهما خصص للمركبات الثقيلة لكونها تسير ببطء شديد أثناء الصعود، والآخر تسير فيه السيارات الخفيفة، فيما خصص مسار واحد فقط، للمقبلين من مدينة أبها، كما يتميز هذا القسم من العقبة بجودة مواصفات الطريق ونظافته ووجود تصريف لمياه الأمطار، مهما بلغت كميتها. أما القسم الآخر من عقبة ضلع، فيمتد من نهاية الجسر المعلّق وحتى بلدة «مَرَبَهْ»، وهي المنطقة المتضررة من سيول عام 1980، وتكثر في هذا القسم التحويلات الترابية والصخرية، بسبب عدم تشييد جسور وكباري بديلة لما هدمته السيول، وكان عددها يتراوح بين 22 و16 تحويلة، فيما تقلّص عددها إلى 12 تحويلة فقط في الوقت الحاضر، ولكنها تشترك في أنه لا بد من المرور في بطن الوادي، المليء بالصخور والمياه، وعلى الرغم من وجود فرق مقيمة لصيانة التحويلات، إلا أن جهودها تقتصر على تنظيف الطريق وإعادة تعبيده بعد كل سيل. في المقابل، يرى كل من يرتاد عقبة ضلع آثارا لطريق آخر بديل، يشق طريقه في الجبال وعلى ارتفاعات عالية، بعيداً عن مجاري السيول، إلا أن التقدم في هذا المشروع بطيء جداً بسبب وعورة المنطقة. يذكر حسن بن مخافة، وهو معلم متقاعد نذر بقية حياته للترافع بالنيابة عن أهالي ضحايا السيول الأخيرة في المحاكم لمحاسبة المتسبب في ذلك، بأن عقبة ضلع شقها بين الجبال رجل الأعمال السعودي محمد بن عوض بن لادن من خلال إحدى شركاته في الستينات الميلادية من القرن الماضي، ولم يكن هناك أي طريق للساحل من قبل. ووضعت العقبة في بطن الوادي «ضِلَعْ» ووادي «عِتود»، حتى أن أحد المهندسين المشرفين على المشروع، يطلق عليه الشنقيطي، مات غرقاً بعد أن جرفته أحد السيول أثناء عمله في العقبة، ومع ذلك لم ينتبه لخطورة وضع الطريق في بطن الوادي، خاصة أن رؤوس الواديين قريبة جداً، حيث لا تبعد عن العقبة أكثر من 10 كيلومترات، مما يعني أن السيول تغمر الطريق، وهي في قمة قوتها وسرعتها. ويروي بن مخافة «أنه قبل 25 عاماً (في بداية الثمانينات الميلادية من القرن الماضي)، جاء سيل كبير، أطلق عليه شعبياً سيل السبت، نسبة لاسم اليوم الذي سال فيه، وهدّم عددا من الجسور وقلع أجزاء كثيرة من الأسفلت، وغرق فيه مئات من أهالي منطقتي عسير وجازان. وبعد أقل من عام جاء سيل آخر، أطلق عليه سيل الخميس، أجهز على ما تبقى من العقبة، وأضاف مجموعة أخرى من الضحايا. وعلى الرغم مما أحدثته تلك السيول، لم يتم تغيير مسار طريق العقبة، بل واصلت جميع الشركات والمؤسسات إصرارها على شق الطريق وسط الوادي، وبين كل فترة وأخرى، تمحو السيول الطرقات الأسفلتية التي تعبد في منتصف مجرى الوادي. وفي كل عام تخصص ميزانية لصيانة طريق عقبة ضلع، من دون إيجاد حلول عملية، ولو أن العقبة عبد طريقها بالأوراق النقدية التي استهلكتها، لأنجزت طريقاً إلى مدينة أبها». وأضاف بن مخافة «أن المناظر التي خلفتها السيول في الأربعاء الماضي تبكي، لا سيما منظر بنت عمرها 13 عاماً من بني مالك، وجدها رجال الدفاع المدني والكلاب تأكل وجهها، وصورتها نشرت في بعض الصحف المحلية». ويضيف «هل هناك مأساة توازي ما حصل؟ والله أنني شعرت كأن الكلاب تنهش وجه ابنتي، بعدها نذرت بقية حياتي لمقاضاة وزارة النقل والمتسببين في استمرار المعاناة، وأنا في انتظار نهاية مراسم العزاء لذوي الضحايا، لأخذ وكالات شرعية منهم للترافع باسمهم، كما سأشرع في تجميع توقيعات بعض الشباب المهتمين بأمر عقبة ضلع، لرفع برقية للأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني، والطلب منه تشكيل لجنة وزارية ـ فيها ممثل عن وزارة المالية والاقتصاد الوطني ـ لرؤية العقبة على الطبيعة وتتبع ما صرف عليها وما أنجز فيها». ورأى بن مخافة «أنه دائماً تتكرر تحذيرات الدفاع المدني من خطر السيول، إلى جانب دوريات الشرطة والمرور، وكذلك مصلحة الأرصاد وحماية البيئة، وبعض المسؤولين في شركات ومؤسسات صيانة عقبة ضلع، وجميعهم يدّعون أن جميع الذين غرقوا في سيول عقبة ضلع، خاطروا بحياتهم وألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، وهم لا يعلمون أن سيول عقبة ضلع سريعة جداً وقوية، وكثيرة مساراتها، فإما أن تفاجئ الناس بغمرها لهم في سياراتهم السائرة على الطريق المعبد في بطن الوادي، أو تحتجزهم في منطقة ما، ليجرفهم سيل آخر يباغتهم من خلفهم. أما طريق عقبة ضلع الجديد، والذي لم يكتمل بعد، فإنه لن يخدم المنطقة لكونه ضيقاً جداً، فعرضه 12 متراً فقط، خاصة أن عدد السيارات التي تمر بالطريق يومياً، لا يقل عن 20 ألف سيارة، ويتضاعف العدد في أيام الأربعاء والخميس والجمعة».

وأكد بن مخافة أن رجل الأعمال السعودي محمد بن عوض بن لادن قضى في تحطم طائرته الخاصة الهيلوكبتر في منطقة الفرعاء (القرعاء سابقاً)، أثناء قيامه بجولة إشرافية على بعض مشاريعه الإنشائية في عقبة ضلع، حيث كان هناك مهبط ترابي خاص بالطائرة التي تحطمت في نهايات ستينات القرن الماضي. الجدير بالذكر أنه وحتى ساعة متأخرة من أمس، وصلت حصيلة الغرقى في سيل الأربعاء الماضي في عقبة ضلع، إلى 27 غريقاً، وما زال البحث جاريا عن بعض المفقودين.