الشاعر سعدي يوسف يعيش متع السبعين

جائزة إيطالية.. كتاب قاهري.. ليال دمشقية

TT

بينما يتسلم الشاعر العراقي سعدي يوسف جائزة «فيرونيا ـ مدينة فيانو 2005» في إيطاليا، يصدر حوله كتاب نقدي مهم عن «المجلس الأعلى للثقافة» في مصر بعنوان «غواية النص وقراءة اللعب: دراسة لاستراتيجية الغياب في شعر سعدي يوسف» كتبه الباحث سيد عبد الله وقدمته الناقدة د. فريال جبوري غزول.

سعدي يوسف الذي تسلم الجنسية البريطانية، بعد ستة أعوام من اللجوء السياسي، أصبح حر التجوال، بعد سنوات عديدة من منفى صعب، بدأ في نهاية السبعينات، حيث أجبر على التنقل بورقة سفر. وقد طار سعدي لإيطاليا في الثالث عشر من يوليو (تموز) الجاري، وتسلم الجائزة المخصصة لمؤلف أجنبي، في احتفال رسمي أقيم في قلعة فيانو رومانو، التاريخية بضواحي روما. وجائزة فيرونيا ـ فيانو ذات اللجنة المستقلة، تأسست قبل 14 عاما. وقد حصل يوسف على الجائزة بعد صدور أنثولوجيا لأشعاره، في 160 صفحة باللغة الإيطالية العام الماضي، تحمل عنوان «جنة المنسيات»، وهو نفس عنوان أحد ديوانين صدرا له عام 1993. ومترجم الأنثولوجيا هو الشاعر والرسام العراقي فوزي الدليمي المقيم في ميلانو ـ إيطاليا منذ منتصف السبعينات، وسبق له أن قدم يوسف مترجماً للإيطالية للمرة الأولى، منذ حوالي 20 عاماً، كذلك قدم محمود درويش وأدونيس. وقد عاد سعدي إلى لندن بعد أيام، لينطلق من جديد إلى دمشق، ليظل هناك حتى منتصف شهر سبتمبر المقبل، حيث تنتظره قراءات شعرية في ليالي دمشق، وصدور كتاب نثري جديد له.

سعدي يوسف يرتدي أقنعة شعرية عدة، بحسب إحدى النتائج المتعددة التي توصل إليها الباحث سيد عبد الله في كتابه. ويأتي قناع القنفذ من أبرز أقنعة الشاعر، حيث يتميز بتفرد في إدراكه للعالم ولذاته، بينما ينكمش هو في عالمه وقارته القديمة. ثم قناع العراف الأعمى الذي يملك إيماناً بيقين ذاتي ينكره عليه الآخرون، وهو قناع مواز لقناع القنفذ.

أما قناع سعدي الشهير فهو «الخضر» (الأخضر بن يوسف)، الذي يمتاز بالحقيقة الباطنة، وما يمتلكه من رؤية أكثر عمقاً من الإدراك الظاهري. لقد قدم الباحث دراسته في 300 صفحة، لتكون قراءة للنص الشعري، تكشف مكامن الإبداع فيه، وتعد متعة في مقاربتها للنص.

وإذا كان الباحث قد انطلق من إنجاز سعدي يوسف، بوصفه أحد أهم روافد الشعرية العربية الحديثة، وأن تجربته وممارسته الإبداعية كانت لهما فعالية بارزة في تشكيل ملامح حداثة الشعر العربي، ولا تزال، فقد أكد عبر البحث، أن الوصول لرؤية الشاعر يقتضيها الوعي باستراتيجيته النصية، حيث تكون أبرز مقومات استراتيجية الشاعر هي «الغياب». فعبر تأملٍ لقصيدة يوسف، التي قد نجدها، للوهلة الأولى، لا تقدم إلا ظاهرها، نكتشف أن الكيفية التي تمارس بها ذلك، تجعلنا نقتنع بان النص يغيب شيئاً ما. فإذا كان النص ينبني عبر وعي الشاعر

وتعمده، على إيهام القارئ بان النص لا يقدم سوى دلالته المباشرة، فهو يدفع القارئ في نفس الوقت إلى التأكد بأن ثمة ما يغيب من النص ولا تكتمل القصيدة إلا به. فالغياب لدى سعدي يوسف يبرز كقيمة في النص وفي إنتاج دلالاته، ومن هنا استخدم الباحث مصطلح «استراتيجية»، الذي يدل على البراعة في التخطيط والتدبير عموماً.

وقدم الباحث مدخلاً نظرياً لبحثه، اعتمد فيه على المدارس الفلسفية الحديثة والمعاصرة، خاصة أن مفهوم «الغياب» يغيب في النقد العربي، حيث نكاد لا نصادفه إلا في سياق تعرض النقاد العرب للنظرية الأدبية الأوروبية. ويعود الباحث إلى فيلسوف التفكيكية الراحل جاك دريدا، الذي لم يكن أول من استخدم مصطلح الغياب، لكنه كان أبرز من رسخه.

وبحسب دريدا فكل نص، يحمل دوماً ما يساعد على استنطاقه وجعله يتفكك بنفسه، وتهديد مركز النص أو البنية هو ما سماه دريدا اللعب، ويظهر هذا جلياً في بحث دريدا «البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية». وإذا كان هذا «اللعب» الذي يتفاعل فيه الحضور والغياب، يتيح أكبر قدر من الحرية، فهو لم يمنع الباحث من التأكيد على انطلاقه في دراسته على أساس منهجي، لكن دون لي عنق النص، حيث انطلق من «الاستقراء» الذي يتضمن في معناه الرصد لموضوع البحث، بدون أي تحديد لنوع النتائج المتوقعة، لكن الباحث يؤكد على تشكل هذا «الغياب» في مرحلة بعينها من الوعي الإبداعي لسعدي يوسف، تمثله دواوينه في السبعينات، من «نهايات الشمال الأفريقي» 1972 حتى «قصائد بيروت» 1982، وخفوته بعد ذلك، ثم تجليه في بعض دواوينه في التسعينات، كـ «جنة المنسيات» و«الوحيد يستيقظ» 1993، ليخفت بعد ذلك ثانية.

والمتتبع لقصائد يوسف الأخيرة التي لم يشملها نطاق البحث، يستطيع تلمس أقنعة الشاعر المختلفة التي تظهر من حين لآخر، حيث تمارس خداعها الذكي وتدفع القارئ للبحث وراء ما يغيب في النص.