الياس الرحباني: سحره صوت البيانو فاعتقد أنه من عناصر الطبيعة

رصيده 2000 لحن شرقي و500 غربي ولقبه «دكتور الموسيقى»

TT

كان الياس الرحباني في الرابعة من عمره عندما سمع صوت البيانو ينساب الى اذنه من نافذة تطل على دير راهبات عبرين القريب من منزله الواقع في بلدة انطلياس (شمال بيروت)، فاعتقد للوهلة الاولى ان هذا الصوت من عناصر الطبيعة ولوازم الحياة، تماماً كالماء والهواء والشمس والليل والنهار. وعندما انتقل الى منزل جديد مع عائلته في المنطقة نفسها، شاءت الصدف ان تتلقى اخته سلوى من خطيبها هدية قيمة هي آلة بيانو، فعرف يومها من أين يأتي مصدر هذا الصوت الذي غرس في ذاكرته حتى اليوم. وراحت الاخت تعلّم شقيقها العزف على البيانو، بعدما تبين لها انه موهوب بالفطرة. ورويداً رويداً اخذ الياس الصغير وهو في السادسة من عمره يلعب مقطوعات موسيقية كلاسيكية كـ«الموجة الفضية» و«عتاب الحب».

والياس وهو الاخ الاصغر لمنصور وعاصي الرحباني، وهو جلود صبور متعطش الى معرفة اسرار الموسيقى بتفاصيلها، اذ كان يراقب الاخوين الشهيرين يلحنان ويؤلفان الاغاني وايضاً يعزفان، فيعب من مخزونهما ببحثه من جديد عما يروي ظمأه الى النغم.

ولاحظ الكبيران ولع شقيقهما الصغير بالعزف على البيانو فاستقدما له استاذاً فرنسياً، هو الاختصاصي الموسيقي برتران روبيلارد، وكان يومها في الثامنة من عمره، فبدأ دراسة طويلة امتدت الى عشر سنوات تعاقب خلالها استاذ آخر لتعليمه، وكان فرنسياً ايضاً ويدعى ميشال بورجو، فتعرف الياس الى تمازج الاصوات وانواع الموسيقى وغيرها من اسرار هذا العالم الذي بقي يغوص فيه الى ان دخل الاكاديمية اللبنانية للموسيقى، فاعجب بموهبته استاذه الالماني المستر دول وراح يصقلها باصول الموسيقى ونوطاتها. وبعد ان امضى اربع سنوات بالاكاديمية، التي عرفت في ما بعد بالكونسرفاتوار اللبناني للموسيقى، تتلمذ الياس على يد احد اهم اساتذتها، وهو بوغوص جلاليان، ويعلق مازحاً: لقد درست الموسيقى 14 عاماً متتالية، وهي المدة التي يستغرقها المشوار الدراسي لطبيبين... فانا حكيم موسيقي. وهكذا بقي الياس مثابراً شغوفاً يتعلم الموسيقى، فاشتد عوده وعندما صار في العشرين من عمره استدعته اذاعة الـ«بي. بي. سي» البريطانية وكان لها، في ذلك الوقت، مقر في لبنان وتعاقدت معه على تلحين 40 اغنية و13 برنامجاً وابرم الطرفان العقدين، ونال الياس اول اجر قيّم في حياته وبلغ 3900 ليرة لبنانية.

وعام 1962 اعتمدته الاذاعة اللبنانية مخرجاً ومستشاراً موسيقياً، وبقي يشغل هذا المنصب حتى عام 1972، اضافة الى توليه رئاسة قسم الموسيقى الغربية لدى الاذاعات اللبنانية.

وكبرت موهبة ابن انطلياس وابن سعدى وحنا وشقيق عاصي ومنصور وسلوى وناديا والهام، واخذ يفكر بالخطوة التي سيدخل منها الى عالم الفن، فراح يؤلف الموسيقى الاجنبية، ومن ثم الاغاني الفرنسية والانجليزية. ذاع صيته واشتهر اسمه كأحد اهم واضعي حجر الاساس للاغنية الغربية في لبنان والعالم العربي، ردد الالوف من الشبان Layla Layla jolie fille وQuand la guerre est finie . وغيرها من الاغاني التي صارت رمزاً للشباب الفرنكوفوني المعاصر.

وعندما التقى الرئيس الفرنسي الحالي جاك شيراك في القمة الفرنكوفونية، التي عقدت في لبنان عام 2001، ذكّره بالمنعطف الموسيقي الفرنكوفوني، الذي حققه العالم العربي منذ اربعين عاماً، قائلاً له: «يا فخامة الرئيس حين تسود موسيقى شعب ما تسود سياسيته». وقدم يومها الياس الرحباني للقمة نشيد الفرنكوفونية كتحية الى 52 بلداً ساهم فيها.

والياس الرحباني لحن لكبار المطربين في لبنان، وبينهم نصري شمس الدين فقدم له اغنية «ما احلاها» عام 62، ومن ثم اغنيات عديدة لسعاد الهاشم ونجاح سلام وسعاد محمد وكروان. وعندما وضع لحن «بيني وبينك يا هالليل» للمطربة هدى شقيقة فيروز، استطاع ايقاظ مشاعر الرومانسية لدى جيل من الشباب اللبناني، كان بدأ يمل من عصر السرعة والموسيقى الصاخبة. تبعتها اغنيات اخرى لهدى مثل «بحبك يا حلو» و«ضيعتنا الحلوة». ولم تقتصر اعمال الياس على هؤلاء فقط، اذ لامس المجد عندما لحن لسفيرتنا الى النجوم فيروز «عا ضو القمر» و«لا تجي اليوم» و«الاوضة المنسية» وبعدها «كان الزمان وكان» و«الوروار» و«كان عنا طاحون».

وكان الشقيق الاصغر طيلة هذه الفترة لا يفارق اخويه عاصي ومنصور، ويرافقهما اينما ذهبا. ويتذكر ان منتصف الستينات كان لبنان يعج بالفكر الموسيقي الراقي الايطالي والكلاسيكي وغيرها، حتى ان اهم عازفي القيثارة او الكمان والبيانو كانوا يتخذون من لبنان مركزاً لهم، فهو يمثل ساحة الحرية الموسيقية والآفاق التي يحلم بها كل فنان...

وفي اوائل السبعينات حقق الياس الرحباني ثورة جديدة من نوعها في العالم العربي، اذ كان الموسيقي الاول الذي استطاع تأليف موسيقى افلام سينمائية عربية، لاقت شهرة واسعة وارتبطت ارتباطاً مباشراً بأحاسيس الشباب العربي، منها موسيقى فيلم «حبيبتي» و«دمي ودموعي وابتسامتي» و«اجمل ايام حياتي»، واخيراً عام 74 موسيقى فيلم «هذا اريده هذا احبه». فما لم تستطع السينما المصرية ان تحققه الا في محاولات خجولة، تمكن الياس الرحباني من تطويره ووضعه على الطريق المستقيم.

وبعدها وضع الياس الرحباني الحاناً لمسلسلات لبنانية ما زالت حتى اليوم في ذاكرة اللبنانيين، انطبعت في سهراتهم ورافقتهم في ايام العز، امثال «عازف الليل» و«ديالا» و«لا تقولي وداعاً» و«الو حياتي»، وجميعها من بطولة الراحلة هند ابي اللمع ريمي.

وكانت ثمرة مشواره الفني الطويل 2000 لحن شرقي و500 غربي فلقب بدكتور الموسيقى.

كان هاجس الطيران يرافق الياس منذ نعومة اظفاره، عندما يغمض عينيه كان يحلم بأنه يحلق في السماء او يطير من اعلى الشجرة، وما زال هذا الحلم يراوده حتى اليوم عندما يلجأ الى النوم. لكن في الواقع المعروف ان الرحابنة عاصي ومنصور والياس يخافون ركوب الطائرة. وعندما كانوا يسافرون مجتمعين، كانت تجري بينهم اطرف المواقف كردة فعل عكسية للحالة التي يعيشونها. ويتذكر الياس في احدى المرات عندما كانوا متوجهين الى البرازيل لاحياء حفلة غنائية مع فيروز، ان عاصي ولفرط توتره امسك زر قميصه بعصبية حتى انقطع، بعدها طلب من مضيفة الطيران كوباً من الماء فابتلع الزر، معتقداً انه حبة دواء مهدئ للاعصاب ونام على الاثر، وعندما استيقظ وعلم الحقيقة ضحك وقال لالياس: «شو هالحبة مفعولها مش معقول».

عام 1962 تعرف الياس الى زوجته نينا، فكان الحب والهيام ثالثهما، فاقترنا وكانت يومها في السابعة عشرة من عمرها وهو في الثانية والعشرين ورزقا بولدين هما غسان وجاد. اكمل الياس مسيرته الفنية بمؤازرة زوجته التي كانت تحرم نفسها الكثير من المتطلبات من اجل ان يحقق ذاته كما يقول.

واستطاع الياس في ما بعد ان يدخل عالم الاعلان من بابه العريض فراج اسمه في هذا المضمار من الشرق الى الغرب وصولاً الى افريقيا، وحفرت اعلاناته التلفزيونية في ذاكرة لبنانيين كثر، حتى ان واحدة منها تحولت الى اغنية، ادتها صباح في مسرحية «وادي شمسين» بعنوان «وعدوني ونطَّروني».

وعام 2000 كرمته جامعة بارينغتون في واشنطن فخصته بدكتوراه فخرية، وكذلك جامعة استوريا في اسبانيا، التي منحته الدرجة نفسها وذلك تكريماً لمشواره الموسيقي الغني والمتنوع بالعطاءات، فكان الموسيقي العربي الوحيد الذي نال تلك الشهادة في العام المذكور.

اما الجوائز التي حصل عليها في مجال الموسيقى فهي لا تعد ولا تحصى، وبينها شهادة السينما في المهرجان الدولي التاسع عشر للفيلم الاعلاني في البندقية عام 1977 والجائزة الثانية (فرانك سيناترا) في مهرجانات لندن الدولية للاعلان عام 1995. وحاز الجائزة الاولى في روستوك المانيا عن اغنية Mory وغيرها من الجوائز في ريو ديو جانيرو واليونان وبلغاريا. واصدر الياس الرحباني عدة اعمال موسيقية منها El Rehbani & his band كما انتج وألَّف عدة مسرحيات منها «سفرة الاحلام».

والمعروف عن الياس الرحباني تمسكه بالحقيقة مهما كانت صعبة ويقول: «لا اطيق التمثيل او عدم التصرف بطبيعية، فانا عفوي وصريح وجريء احياناً كثيرة». وهو من الموسيقيين اللبنانيين القلائل الذين ما زالوا ينادون بالمحافظة على الرقي في التأليف الموسيقي واداء الاغنية. واخيراً اصبح الياس الرحباني مرجعية لا يستهان بها في المهمات الصعبة الخاصة بالهواة. وقد توَّجه برنامج «سوبر ستار» كموسيقي مخضرم اعاد الى الساحة اللبنانية اصول الغناء والموسيقى من خلال اشتراكه في هذا البرنامج كرئيس لجنة الحكم، يساهم في اختيار الاصوات الشابة الواعدة.