* اتخذ الشيخ جلال الحنفي موقفاً جميلاً من أهل الأديان والأفكار الأخرى. كان منفتحاً على صديق يهودي مثل مير بصري، وآخر مسيحي مثل الأب أنستاس ماري الكرملي، وآخر مثل التراثي اليساري هادي العلوي
يبدو الشيخ جلال الحنفي (1914-2006)، وهو يطوي شوارع بغداد وأزقتها بجلبابه وعمامته الضامرة، كأنه أثر عباسي يُذكر بشيوخ علم الكلام وفقهاء المناظرات، التي كانت تُعقد بدار الخلافة أو بصحن المدرسة المستنصرية، وقد تداخلت الأزمنة فتأسست مجالس أدب وفكر كان الشيخ نجمها اللامع. ويجد الناظر في سلوك الشيخ، وفي مؤلفاته أنه أمام رجل دين من طراز آخر، حاول الجمع بين الدين والدنيا جمعاً مريحاً، توسطاً واعتدالاً، ولم يصل إلى لحظة تسييس العلاقة بينهما.
تبوأ الحنفي، منذ شبابه وحتى شيخوخته، الوظائف الدينية بمساجد بغداد، والقضاء في محاكمها الشرعية، والتعليم في مدارسها، إلى جانب العمل في الصحافة، والبحث في مختلف المجالات التاريخية والأدبية، إضافة إلى كونه محققاً وشاعراً وعازفاً موسيقياً. ولم تكن تمر بالشيخ ظاهرة إلا ويوثقها، ببحث أو كتاب. وعندما وصل إلى الصين مبعوثاً لتعليم العربية (1966)، عاد إلى العراق بمسودة لقاموس بالمفردات الصينية دونها بحروف عربية، ولم يتمكن من إتمام تأليفه لضعف بصره، حسب ما ورد في سيرته الملحقة بكتابه «شخصية الرسول الأعظم قرآنياً». وقيل: ظل الشيخ يتحدث باللغة الصينية مع زوجته العراقية التي كانت تعمل في سفارة العراق بالصين. وحصل أن سمعه رقيب الهواتف يتحدث بهذه اللغة مع أهله، فشك في أمره، وقال له: أتتحدث ياشيخ بلغة الطيور؟ وقطع عليه سلك الهاتف.
حاول الشيخ تدوين ما استطاع من تراث بغداد. ومن دون حرج، وهو رجل الدين الذي لم تفارقه عمامته الضامرة كما وصفها صديقه الأديب عبد الحميد الرشودي، كان يلتقط الألفاظ البذيئة من أفواه الناس، على أمل أن يجمعها في جزء ثالث من أجزاء كتابه «الأمثال البغدادية»، لكنه ظل مخطوطاً، فربما لم يكن قادراً على تحمل مواجهة الناقدين، لذا ترك أمره لورثته. وربما تعرض الشيخ لنقد على اهتمامه في الموسيقى، الذي تعدى سماعها إلى تعلم العزف على آلاتها. وهنا اقتبس من كلمة الرشودي في تأبين الشيخ، ناقلاً عما كتبه في أحد دفاتره، وكان يستعد لتأليف كتابه «المقام العراقي وأعلام الغناء البغدادي»، لكن ما ورد لم ينشر للأسف في الكتاب المذكور.
قال: «بعد الاتكال على الله انتميت إلى معهد السيد محمد الحسيني في الموسكي، لتعلم فن العزف على العود، وقد دفعت له القسط الأول وقد أرخ ذلك سنة 1940». قال الرشودي: «وهذا الصنيع يدل على أن الشيخ يرى رأي حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في حلية السماع، ما دام لا يشغلك عن عبادة ربك ولا يدعو إلى المجون والفجور. لأن الغزالي يرى الغناء والموسيقى ما هما إلا محاكاة لعندلة البلابل وهديل الحمائم وزقزقة العصافير، وهما من صنعة الله جل وعلا. فضلاً عن أن السماع يشجع الجبان ويندي كف البخيل الشحيح، ويوقظ المشاعر النبيلة في نفس الإنسان. ثم يخلص الغزالي إلى القول: فمن لم يرقه السماع فهو مختل المزاج ولا يجدي معه العلاج» (كلمة التأبين، جريدة المدى البغدادية).
وإن كان هذا رأي حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، فلعالم دين معاصر من أئمة الشيعة رأي مشابه في سماع الألحان. قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954)، أحد أهم مراجع النجف في الثلاثينيات وحتى النصف الأول من عقد الخمسينيات: «الغناء، سوى رافقته آلات الطرب الموسيقي أم لا، مباح، ما لم يستخف لسامع إلى حد يخرج معه عن الكمال، فهو إذ ذاك مشروع» (الخاقاني، شعراء الغري 8 ص155). وللشيخ المذكور ما هو أجرأ من ذلك، في بيئة مقفلة، إلا أنه كان يخشى تحريك العوام ضده. قال: «إن في صدري لعلماً جماً أخشى أن أبوح به من الشياطين الذين يوجهون العوام وفق مقاصدهم» (المصدر نفسه، ص 117).
بعد هذا التيسير اتخذ الشيخ جلال الحنفي موقفاً جميلاً من أهل الأديان والأفكار الأخرى. كان منفتحاً على صديق يهودي مثل مير بصري (ت 2006)، وآخر مسيحي مثل الأب أنستاس ماري الكرملي (ت1947)، وآخر مثل التراثي اليساري هادي العلوي، وربما تحادثا بالصينية معاً، فكلاهما علم العربية بالصين وتعلم لغة تلك البلاد. وكم تبدو الحاجة ماسة في عراق التناحر الطائفي لشيخ مثل جلال الحنفي، وهو مثلما وصفه بصري «رجل دين متسامح واسع الأفق» (أعلام الأدب في العراق الحديث). كان يُسعد بتقديم لمؤلفاته بقلم الشيخ محمد رضا الشبيبي (ت 1965). وقال في الشبيبي: «ولزام أن أثني الثناء الكبير على الأستاذ العلامة الشيخ محمد رضا الشبيبي لتفضله بتقديم الأمثال البغدادية، ومثل الشبيبي غنيٌ فضله ومقامه عن التعريف»(الأمثال البغدادية).
وللحنفي صداقات متينة مع علماء ووجهاء شيعة آخرين، قد تسقط فيها تكاليف المجاملة. أخبرني الباحث والشاعر إبراهيم العاتي، أن والده الشيخ النجفي عبد الزهرة العاتي قد مر يوماً بمحاذاة جامع الخلفاء، حيث سوق الغزل القديم ببغداد، وقد لمحه إمام الجامع الشيخ جلال الحنفي، فخرج مهرولاً وهو يصيح: «يا شيخ عبد الزهرة»! ولما التفت له، قال: «أراك تمر من هنا ولم تتذكرني بزيارة». ومعلوم أن اسم عبد الزهرة، بحد ذاته، يشي بأشياء عديدة لدى مَنْ هم أقل انفتاحاً من الشيخ الحنفي، بينما هو اسم متداول بين أهل العراق!
لم أقرأ كتاب الشيخ الحنفي حول الشاعر معروف الرصافي (ت 1945)، الذي صدر مطبوعاً تحت عنوان «الرصافي في أوجِهِ وحَضيضه» (بغداد 1962)، إلا أن للشيخ قضية مع الرصافي، حول ما ورد في كتابه «رسائل التعليقات»، وما أُثير من ضجة ضده العام 1944. وقيل ذهب الحنفي إلى النجف لاستصدار فتوى من المرجعية الشيعية آنذاك لتكفير الرصافي، وسمعت من الباحث المقيم ببغداد رفعة عبد الرزاق محمد أنه طلبها بسبب ما ورد في كتاب الرسائل. ومهما كان الغرض من التكفير، إلا أن هذا السلوك لم يناسب ما دأب عليه الحنفي من تسامح في طرح الأفكار، ومع ذلك أجد في الحادث دلالة الوئام الطائفي لدى الشيخ، قياساً بما يحدث اليوم من فِرقة وتباعد، وهو أن رجل دين سُنَّياً حنفياً يطلب فتوى من عالم دين شيعي ضد شاعر سُنَّي حنفي! وينقل بصري أن وراء الضجة ضد الرصافي «تحريض وتشجيع من البلاط الملكي انتقاماً منه (الرصافي) لهجوه الأمير عبد الإله (الوصي)، ومساندته لحركة مايس 1941 ضد الإنجليز»(أعلام الأدب في العراق الحديث).
سعى الشيخ جلال بنشاط لتكفير الرصافي، والبغداديون بعد لم ينسوا إثارة الضجة ضده سنة 1908، وهو عام إصدار الدستور العثماني من قبل مؤيدي الاستبداد، بسبب قراءة الشاعر لبيان الإتحاديين بإعلان الدستور وسط بغداد، حتى سرب رجال الدين إشاعة مفادها: «أن الرصافي أسكت قارئ القرآن، وأهانه» (الوردي، لمحات اجتماعية). ولا صحة لذلك. وقد هجا الرصافي الشيخ الحنفي بقصيدة منها:
ولست بمعجـزي أبداً، فإنـي
على كبح الغواة قصرت عمري
شحـاك علـيَّ بالنكراء شاحٍ
وكـم أغـراك بالنبهاء مُغـرِ
وعلى الرغم من ذلك، ظل التسامح المذهبي والفكري وتعاليه على الطائفية سجية من سجايا الشيخ جلال لحنفي، حتى جاء في وصيته: «أوصي بعدم إقامة مجلس فاتحة لي. وتقبلوا تعازي كل من جاءكم إلى البيت وأحسنوا ضيافته. وأوصي أن يصلي علي تلميذي الشيخ عدنان الربيعي مسبلاً ولا أريد تشييعاً، وبالنسبة لكتاب معجم اللغة العامية البغدادية جمعت قصاصاته في خزانات المكتبة، أتمنى أن يأتي من يحب بغداد ويطبع هذا الكتاب ليخلد لبغداد لغتها». والمسبل هو مرسل اليدين في الصلاة، وهذا تقليد شيعي، وربما تقليد مالكي أيضاً، لكن لا يوجد مَنْ هو على المذهب المالكي بالعراق، لذا كانت وصية الشيخ ذات مغزى، قد تخجل الطائفيين من المذهبين، وكما هو معروف أن أصدق ما يقال هو قُبيل الموت، وما تحويه الوصايا. كذلك لم ينس الشيخ في وصيته الجزء الثالث من معجم اللغة العامية البغدادية، وهو الألفاظ البذيئة، فهو جزء من لغة وتاريخ بغداد الاجتماعي.
ومع كل حسنات شيخنا الجليل، الذي تجاوز التسعين وهو يكتب ويخطب ويفتي ويقضي، يحسب عليه، بعد محاولة استصدار فتوى ضد معروف الرصافي، موقفه السلبي من شاعر بغداد أبي نواس (ت 200هـ)، فمع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، ألبس الشيخ أبا نواس ثوباً مجوسياً، مع أن الشاعر كان مع محمد الأمين (قتل 198هـ) لا مع الجيش القادم من خراسان، ووالده مرواني من دمشق ووالدته جلبان بصرية. حرض على شطب اسمه من الشارع المعروف على شاطئ دجلة، وعلى رفع تمثاله.
ولم يتوقف عند مدائح رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، واصداره كتاباً تحت عنوان «قصائدي في الزعيم» (1960)، إنما أهدى، في ما بعد، خاتمة كتبه «شخصية الرسول الأعظم قرآنياً» (بغداد 1997) إلى صدام حسين، بالقول: «إلى راعي الحملة الإيمانية الرائدة في العراق أهدي هذا الكتاب وهو آخر ما كتبته وصنعته، وقد تجاوزت الثمانين من العمر، متقرباً إلى الله ومستشفعاً به إلى رسوله» (مقدمة الكتاب). وأورد المعماري محمد مكية، وهو من محبي الشيخ، أن الحنفي طلب منه أن يجعل له بجامع الخلفاء ديواناً خاصاً. ورأى مكية أن مساحة هذا الديوان تأتي على مساحة الجامع التاريخي الصغيرة، وبعد عدم الاستجابة كتب الشيخ تقريراً، ضم إلى ملف مشروع الجامع، جاء فيه: «أن محراب الجامع ليس صحيحاً إلى القبلة، وأن هناك ما يشير إلى خطوط صليبية في البناء»!
ذكرنا هذا ليس من باب الحط من صيت الشيخ البغدادي، والأثر العباسي، بل كي نتجاوز كتابة السيرة بحسنات خالصة، وليس لإنسان مهما بلغ حسنه وخيره أن يخلو من العثرات. وإن ضم إلى قائمة أصدقاء الرئيس، ونال أربعة أوسمة «الاستحقاق العالي»، فإن رفض أي من تلك التقديرات تعد جريمة كبرى، وربما للشيخ مآثر عديدة مع صاحب محنة، ولم يُعرف أنه طرب لإيذاء أحد. ودعونا نعذره بما قاله الحسن البصري (ت 110هـ): «لو كان الرجل كلما قال أصاب، وكلما أحسن لأوشك أن يَجنُ من العُجب»(الجاحظ، كتاب الحيوان). ستحيي ببغداد عمامته الضامرة وانفتاح عقله الوقاد، ومساهمته الثرية في كتابة تراث هذه المدينة، ومؤلفاته التي قاربت الأربعين كتاباً، ومدرسة بغدادية في التجويد والصوتيات.