رجاء بلمليح.. غادرت الحياة وظلت ترفض «متاجرة» الإعلام بمرضها

أوصت بإقامة حفل تكريم لها يخصص ريعه لمرضى السرطان

رجاء برفقة والدتها خلال حفل تكريم أقيم لها («الشرق الاوسط»)
TT

كان شهر أبريل (نيسان) 2003 بداية مشوار حزين في حياة المطربة المغربية رجاء بلمليح، عندما علمت انها مصابة بسرطان الثدي، بعد اشهر قليلة من ولادة طفلها عمر من زوجها المصري محمد شرف الدين.

وفي اغسطس (آب) من نفس السنة، اعلنت وللمرة الأولى وعبر «الشرق الأوسط» خبر اصابتها بالمرض الخبيث، من احدى المصحات بباريس، مطمئنة جمهورها بأن حالتها مستقرة بعد تلقي العلاج الاولي.

واجهت رجاء بلمليح المرض بصبر وشجاعة كبيرة، الى درجة انها قبلت ان تخضع لعلاج لم يسبق ان جرب من قبل، وبعد جلسات من العلاج تماثلت للشفاء، الا ان الورم عاود الظهور من جديد، ولم تنفع معه هذه المرة جلسات العلاج المتواصلة، وتدهورت حالتها الصحية بشكل سريع وخطير، فسلمت الروح إلى بارئها ظهر الاحد الماضي في مستشفى الشيخ زايد بالرباط، عن عمر يناهز الـ45 عاما.

ويحكي عبد الغفار بنشقرون، وكيل اعمال الفنانة الراحلة رجاء بلمليح في المغرب لـ«الشرق الأوسط» عن اللحظات الاخيرة من حياتها بقوله ان «حالتها الصحية بدأت تتدهور قبل شهر من وفاتها، وكانت تتابع علاجها بمصحة في الدار البيضاء مختصة بعلاج السرطان، وخلال الأيام العشرة الأخيرة من حياتها عادت الى منزلها، وكانت تذهب لمتابعة جلسات الترويض الطبي بنفس المصحة».

ويضيف بنشقرون ان «بلمليح كانت تشعر بالقلق الشديد نتيجة ازدياد حالتها الصحية سوءا، اذ اصبحت تشعر باختناق حاد في الرئتين، وكانت قد اجرت عملية لامتصاص المياه المتجمعة في الصدر والقلب، وهي عملية شعرت بعدها بارتياح مؤقت، لكن سرعان ما عادت لتشكو من نفس الحالة».

واضاف بنشقرون ان زوج بلمليح كان يرافقها في جميع مراحل العلاج الا انه اضطر الى السفر الى الامارات ومصر، وعندما عاد يوم الخميس الماضي الى المغرب، وجد ان حالتها ازدادت سوءا، و«كنا قد قمنا بجميع الاجراءات لنقلها الى مستشفى الشيخ زايد في الرباط بتنسيق مع حسن النفالي، رئيس الائتلاف الوطني للثقافة والفنون، الذي بادر بالاتصال بالديوان الملكي، حيث حظيت بلمليح برعاية العاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي تكفل بمصاريف العلاج، ثم الجنازة فيما بعد».

ويتابع بنشقرون ان «بلمليح دخلت المستشفى يوم الجمعة الماضي، وكانت حالتها خطيرة جدا، وفي يوم الاحد وتحديدا الساعة الثانية عشرة ظهرا و20 دقيقة، نادت على افراد اسرتها الذين كانوا يرافقونها في المستشفى، وقالت لهم ان المرض تمكن منها، وانها ستودعهم. وقالت ارضي عني يا امي، ارض عني يا ابي، وفي الساعة الواحدة ظهرا، طلبت تناول ملعقة من العسل، ثم طلبت من ممرضتها ان تنزع عنها جهاز التنفس، فنادت على اختها لتتلو معها سورة يس، وسألت عن ابنها عمر (5 سنوات) الذي كان موجودا آنذاك في الدار البيضاء، وفي الساعة الواحدة و19 دقيقة اسلمت الروح لبارئها قبل أن تتمكن من رؤية ابنها الذي لم يصل الى المستشفى الا بعد ساعة من وفاتها».

وقال بنشقرون ان «بلمليح اوصت قبل عشرة ايام من وفاتها ان يتم تنظيم حفل تكريم لها في الذكرى الاربعين لوفاتها، يحضره جميع الفنانين المغاربة، ويخصص ريعه لفائدة المرضى المصابين بالسرطان».

ووري جثمان بلمليح الثرى بمقبرة الشهداء في مسقط رأسها مدينة الدار البيضاء، وحضر جنازتها ادريس جطو، الوزير الاول المغربي، وحمد عيسى أبو شهاب سفير دولة الإمارات العربية المتحدة بالرباط، وافراد عائلتها، وعدد كبير من الفنانين المغاربة، وجمهور عريض من معجبيها. ورغم المرض الذي ظل «كامنا» في جسدها، عادت بلمليح لمتابعة نشاطها الفني، بعد تماثلها للشفاء، حيث اصدرت ألبوم «حاسب» الذي ضم عددا من الاغاني الخليجية، كما كانت تشارك من حين لآخر في احياء عدد من الحفلات، وان تم ذلك بشكل محدود، نظرا لان الاطباء نصحوها بتفادي السهر والاجهاد، وخلال هذه المدة ايضا كانت تتفادى وسائل الاعلام المحلية والعربية، بعد ان اتضح لها ان اهتمام هذه الاخيرة ينصب بشكل مبالغ على متابعة خبر مرضها اكثر من أي شيء آخر، رافضة ان تتم «المتاجرة» بحالتها الصحية في الصحف. ولقيت بلمليح، الحاملة للجنسية الاماراتية، دعما ماديا ومعنويا كبيرا من الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الامارات الراحل، اثناء مرضها، بعد ان كان زوجها هو من تحمل في البداية مصاريف علاجها التي وصفتها بـ«الخيالية». مشيدة بوقوفه بجانبها «كزوج شرقي شهم»، هذا بالاضافة الى الدعم الذي تلقته من قبل العاهل المغربي الملك محمد السادس.

وحافظت بلمليح، طيلة مشوارها الفني على صورة الفنانة المثقفة الراقية في تفكيرها ومظهرها ولونها الغنائي، ولم تنجر الى الابتذال من اجل مسايرة موضة الكليبات الفاضحة، حتى ان التغيير الشكلي الذي ظهرت به للمرة الاولى عام 2001 في ألبوم «شوق العيون» كان تغييرا «معقولا» ومنسجما.

وضم ألبوم «حاسب» الذي اصدرته بلمليح بعد تماثلها للشفاء، قصيدة «ألا يا مرحبا»، وهي من نظم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ولحنتها بلمليح بنفسها، وهي اول تجربة لها في مجال التلحين.

ولم تسمح بلمليح بان تتحول الى مادة اعلامية تظهر بمناسبة او بدونها، فكان ظهورها الاعلامي محسوبا، ولم تعرف عنها اثارتها لأي خصومات مع المطربات الاخريات، حتى انها لم تكن لديها علاقات واسعة مع الوسط الفني العربي باستثناء صداقتها للمطربة السورية اصالة نصري.

وكان آخر ظهور اعلامي لبلمليح على المستوى العربي استضافتها خلال مارس (آذار) الماضي من قبل برنامج «شاعر المليون» الذي يبث على قناة ابوظبي. اما على المستوى المحلي، فكانت مشاركتها في برنامج المسابقات الغنائية «استوديو دوزيم» حيث كان من المقرر ان ترعى المواهب الشابة في البرنامج.

يذكر أن بدايات بلمليح الفنية كانت من خلال مشاركتها مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي في المسابقة الغنائية المغربية الشهيرة «اضواء المدينة» بإشراف المنتج المغربي حميد العلوي، حيث فازت بالجائزة الاولى، وشقت طريقها بعد ذلك، فتعاملت مع كبار الملحنين المغاربة ومن بينهم: المفضل العذراوي، احمد البيضاوي، عبد القادر الراشدي، عبد الله عصامي، وحسن القدميري، ومن الشعراء: محمد حاي، وعبد الرفيع جواهري وغيرهم. اصدرت بلمليح اول البوم لها عام 1987 بعنوان «ياجار وادينا» وضم اغاني جميلة مثل «مدينة العاشقين» و«الحرية» و«اطفال الحجارة» ثم اصدرت البوما آخر بعنوان «هكذا الدنيا تسامح».

وفي مطلع عقد التسعينات حصل جمود وشلل في الحركة الغنائية المغربية، فانتقلت الى مصر شأنها في ذلك شأن العديد من المطربات المغربيات، حيث كانت لها انطلاقة جديدة اثمرت عن البوم «صبري عليك طال» الذي تعاملت فيه مع الملحن حميد الشاعري، الذي اطلق ما كان يعرف بالأغنية الشبابية، ثم البومي «يا غايب» و«اعتراف»، ومن بين الملحنين المصريين الذين تعاملت معهم بلمليح :جمال سلامة، محمد ضياء، حلمي بكر، صلاح الشرنوبي.

وحصلت بلمليح على جوائز تقديرية كثيرة خلال مشوارها الفني من بينها شهادة تقدير من مهرجان القاهرة الدولي للاغنية، ومهرجان الموسيقى العربية بدار الاوبرا المصرية، كما منحت لقب سفيرة النوايا الحسنة لدى اليونسيف في عام 1999.

من جهة اخرى، أجمع عدد من الفنانين المغاربة والمصريين، في تصريحات لمكتب وكالة الانباء المغربية في القاهرة، على الموهبة الفنية الكبيرة لبلمليح، وعلى الرصيد الفني الغني الذي خلفته، وعلى دماثة خلقها، ما أكسبها حب وتقدير جميع من عرفها.

وفي هذا السياق، أكدت الفنانة سميرة سعيد أنها فقدت زميلة وصديقة عزيزة جمعت بينهما مناسبات عديدة سواء في مصر أو المغرب أو الخارج.

وأضافت أن الفقيدة المأسوف على شبابها كانت فنانة كبيرة، وإنسانة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ونموذجا للفنانة المحترمة التي بنت لنفسها سمعة فنية فريدة من نوعها.

وقالت المطربة ليلى غفران إنه ليوم حزين هذا اليوم الذي فقدت فيه صديقة تربطني بها علاقات مودة واحترام، وأضافت ان اللسان ليعجز عن التعبير عن مشاعر الأسى الذي نشعر به لغياب فنانة كبيرة من طينة رجاء بلمليح.

وأكدت أن الفقيدة، كانت ذات ثقافة عالية وخلق رفيع، وكان قلبها يتسع لمحبة الجميع، لذلك يشكل غيابها خسارة لا تعوض للفن وللغناء العربيين.

وأجمع الملحنون المصريون الذين تعاملوا مع الراحلة على القدرات الفنية الكبيرة لها، وعلى البصمة التي تركتها على الأغنية العربية.

وقال المطرب والملحن حميد الشاعري، الذي لحن لرجاء بلمليح أغنية «صبري عليك طال»، التي تعتبر أشهر أغنية لها باللهجة المصرية، إنه تعرف على الفقيدة سنة 1988 بمناسبة مهرجان الاغنية العربية في بغداد، حيث أعجب بصوتها واقترح عليها الانتقال إلى مصر.

وذكر الشاعري الذي لحن للفقيدة أيضا أغنية «يا غائب على عيوني»، بأن الفنانة الراحلة اختيرت كأجمل صوت عربي في استفتاء أجرته صحيفة «الجمهورية» المصرية. وأضاف أن بلمليح كانت فنانة فذة قلما يجود الزمان بمثلها.

وقال الملحن المصري جمال سلامة، الذي لحن للفقيدة أولى أغنياتها في مصر، ومنها أغنية «أنا خايفة»، إن الحظ أسعده بأن كان هو من أتى بها من المغرب إلى القاهرة في مطلع التسعينات.

وأكد أن الفنانة الراحلة نالت إعجاب جميع المصريين والعرب، بفضل صوتها العذب ومشوارها الفني الناجح وأخلاقها الفاضلة والتزامها الفني، معتبرا أن رحيلها يمثل خسارة كبرى للفن العربي وللفن المغربي بالذات.

واعتبر الملحن حلمي بكر أن الفنانة كانت إحدى النجمات القديرات في عالم الغناء العربي، وأنها أعطت الكثير وأسعدت كل محبي الغناء الجيد، وكان ما زال في جعبتها الكثير لو أمهلها القدر.

وأشار إلى أنه تعامل مع الفنانة الراحلة في أعمال كثيرة، كان آخرها أوبريت «كلنا بنكمل بعض»، التي شاركت فيه ممثلة للمغرب العربي إلى جانب 14 مطربا ومطربة عربية.

وأضاف أن رجاء كانت في مستوى الآمال المعقودة عليها وفنانة ناجحة بكل المقاييس، وفوق ذلك كله إنسانة ذات أخلاق عالية.

وأشار الملحن صلاح الشرنوبي إلى أن رجاء بلمليح كانت بشهادة كل الناس من أعذب الأصوات في الوطن العربي، ولاحظ أنها احتلت مساحة واسعة في الأغنية العربية، من الخفيفة إلى الإيقاعية إلى الطربية، وقال: لقد أسعدني الحظ بأن لحنت لها أغنيتين هما «بيسهرني خصامك» و«العشرة ما تهونش إلا على الظالم».

وأكد أنه رغم كون لقائه بها «كان قصيرا إلا إنه كان جميلا وثريا»، وقال إن الراحلة «تركت رصيدا فنيا غنيا وجميلا للمغرب وللوطن العربي».