الوثائق السرية الأميركية (2) ـ الملك فيصل لكيسنجر: كان اليهود يعيشون في سلام بيننا وكنا نسميهم «اليهود العرب»

محضر اجتماع الملك فيصل وكيسنجر في 1973

هنري كيسنجر مع ريتشارد نيكسون في البيت الأبيض عام 1973 (أ.ب)
TT

تبادل العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز وهنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية في عهد ادارة الرئيس ريتشادر نيكسون حوارا صريحا خلال جلسة مباحثات عقدت في الرياض بين البلدين. وجاءت جلسة المباحثات هذه في اجواء ما بعد حرب اكتوبر 1973 والحظر النفطي العربي. وفي محضر هذه الجلسة التي جاءت تفاصيلها ضمن الوثائق الاميركية السرية التي رفع الحظر عنها وتنشر قراءة فيها «الشرق الأوسط» قال الملك فيصل لكيسنجر «انا متأكد بأن اسرائيل ستنسحب في نفس اللحظة التي تعلنون فيها انكم لن تحموها، ولن تدافعوا عنها، ولن تدللوها».

وفي احدى المداخلات قال الملك فيصل «قبل تأسيس اسرائيل، لم يوجد ما يعرقل العلاقات بين العرب واليهود. ولم يكن هناك سبب يدعو العرب لمقاومة اليهود. وكان هناك يهود كثيرون يعيشون في دول عربية، وكنا نسميهم «اليهود العرب». وقبل مئات السنين، عندما عذب اليهود في اسبانيا (على ايدي محاكم التفتيش الكاثوليكية)، حماهم المسلمون (في دولة الاندلس). ما يحدث الان ليس الا مشاكل خلقتها اسرائيل، بخططها، ومؤامراتها».

وفي مداخلة لكيسنجر ردا على الملك فيصل قال وزير الخارجية الاميركي الاسبق نعم، تقدر الولايات المتحدة على الضغط على اسرائيل لتحقيق السلام. نعم، جلالتكم على حق في هذه النقطة. لكن، هذه مهمة صعبة جدا. والسبب هو ان الظروف الداخلية التي تؤثر على علاقات الولايات المتحدة مع اسرائيل هامة جدا بالنسبة لجماعات داخلية معينة. ويعود سبب فشل كثير من محاولات حل المشكلة في الماضي الى اننا عالجناها كمشكلة خارجية. ولم نبذل جهدا كافيا لمواجهة الجانب الداخلي لها.

يذكر ان هذه الوثائق كشفتها دار الوثائق الوطنية في واشنطن وهي تعود الى عهد ادارة الرئيس نيكسون (1968 ـ 1974). وفيها وثائق عن السياسة الاميركية في الشرق الاوسط. وفيها وثائق عن العلاقات السعودية الاميركية. البيت الابيض (سرى جدا، حساس، للنظر فقط)

* الموضوع: مذكرة محادثات - المشتركون من الجانب السعودي:

الملك فيصل بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية، الامير فهد بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية، عمر السقاف، وزير الدولة للشؤون الخارجية، د. رشاد فرعون، مستشار ملكي، الشيخ ابراهيم السويل، سفير السعودية لدى الولايات المتحدة.

- المشتركون من الجانب الاميركي:

د. هنري كيسنجر، وزير الخارجية، جوزيف سيسكو، مساعد وزير الخارجية للشرق الادنى، جيمس اكينز، سفير الولايات المتحدة لدى السعودية بيتر رودمان، من مجلس الامن القومي، البيت الابيض، عيسى الصباغ، سكرتير اول، السفارة الاميركية في بيروت (مترجم)، - التاريخ: 8 ـ 11 ـ 1973 - التوقيت: 8:45 ـ 10:25 مساء - المكان: القصر الملكي، الرياض، المملكة العربية السعودية

* (في بداية الاجتماع، قدم اعضاء الوفد الاميركي الى الملك. ثم التقطت صور. وبعد خروج المصورين، دخل رجال الضيافة، وقدموا اكواب قهوة مخلوطة بالهيل).

* الملك: اتمنى ان رحلتكم كانت مريحة.

كيسنجر: نعم، يا صاحب الجلالة. كانت رحلتي طيبة جدا، واتمنى ان تساهم في تحقيق السلام في الشرق الاوسط.

الملك: نحن ايضا نتمنى ذلك. نتمنى ان تقود الى السلام.

كيسنجر: اطلعت على بعض أرائكم عن السلام في الشرق الاوسط، يا صاحب الجلالة. واتمنى ان تكون عندكم ملاحظات اخرى لانقلها الى الرئيس نيكسون.

الملك: طبعا، كل املنا هو ان يعم السلام والاستقرار في الشرق الاوسط. ويعرف سعادتكم آرائي في هذا الموضوع. وهي باختصار كالآتي: لن يكن هناك سلام واستقرار اذا لم تنسحب اسرائيل من الاراضي المحتلة، واذا لم يعود الفلسطينيون الى وطنهم. ولهذا، نحن نتمنى ان يتحقق ذلك باسرع فرصة ممكنة. ونتمنى ان يسمح للعرب بأن يعودوا الى علاقة الصداقة مع اصدقائهم الاميركيين. ونتمنى ان يقود هذا السلام وهذه الصداقة، تلقائيا، الى تخفيض النفوذ الشيوعي في المنطقة.

كيسنجر:

هل يسمح لى صاحب الجلالة ان اشرح ما حققناه خلال هذه الجولة، وما نريد ان يتحقق؟

الملك:

كما يريد سعادتكم.

كيسنجر:

في وضوح، اتذكر زيارتكم الى الولايات المتحدة، عندما شرحتم لرئيسنا بعض الاخطار التي ترونها في الوضع. وتحققت كثير من نبوءات جلالتكم. اعتقد انه من المفيد ان اشرح لجلالتكم آراءنا. واذا اختلفتم معنا في بعض التفاصيل، نتمنى ان تفهموا موقفنا. وربما تعارضوننا اذا اخطأنا.

الملك:

تفضل.

كيسنجر:

ما بين سنتي 1967 و1973، يا صاحب الجلالة، لم تنجح الولايات المتحدة في تحقيق شيء حاسم لحل مشاكل الشرق الاوسط. خلال السنتين الاخيرتين، بذل روجرز، وزير الخارجية قبلي، ومساعده سيسكو، جهودا. لكنها لم تكن مدعومة بكل القوة والنظام الاميركي. لم يكن هذا ذنبهما. وذلك لأننا، يا صاحب الجلالة، كنا حتى السنة الحالية مهتمين بالحرب في فيتنام. وايضا، كنا نعرف صعوبة مواجهة العاصفة الداخلية (يقصد اللوبي اليهودي).

والآن، بعد نهاية الحرب في فيتنام، يا صاحب الجلالة، امرني الرئيس نيكسون ان احول اهتمامي الى الشرق الاوسط. ويجب ان اقول، يا صاحب الجلالة، انه امرني بذلك قبل بداية الحرب (حرب اكتوبر سنة 1973). كان ذلك في نهاية اغسطس وبداية سبتمبر.

في نهاية سبتمبر في نيويورك، عندما قابلت وزير خارجيتكم، قلت له اننا سنبدأ، في نهاية نوفمبر، حملة كبيرة لتحقيق السلام في الشرق الاوسط. وناقشنا كيف نستطيع ان نتعاون مع العرب في هذا الموضوع. ولكن، في اكتوبر، بدأت الحرب.

خلقت لنا الحرب، يا صاحب الجلالة، مشكلة معينة. اعرف ان بعض قراراتنا احرجت بعض اصدقائنا القدامى. ورغم انكم ربما لن تتفقون معنا، ربما اقدر على ان اشرح لكم لماذا فعلنا ما فعلنا. (يقصد، بصورة خاصة، شحنات الاسلحة الاميركية الضخمة الى اسرائيل خلال الحرب).

منذ اول يوم للحرب، تأكدت لنا اهمية تحقيق السلام. وسيؤكد لكم الرئيس السادات، يا صاحب الجلالة، اننا تبادلنا الرسائل معه منذ اول يوم. حتى خلال اسوأ الايام، عندما فعلنا اشياء مؤذية جدا لمصر (يقصد ارسال الاسلحة الى اسرائيل). وقلنا للرئيس السادات ما اقوله الآن لجلالتكم، وهو اننا، عندما تنتهي الحرب، سنبذل كل نفوذنا لتحقيق السلام، بصرف النظر عما كنا نفعل خلال الحرب (يقصد ارسال الاسلحة الى اسرائيل).

كان هدفنا خلال الحرب، يا صاحب الجلالة، هو منع انتشار النفوذ الشيوعي في المنطقة. وعندما ارسل الاتحاد السوفياتي كميات كبيرة من الاسلحة الى المنطقة (يقصد الى مصر وسورية)، قررنا ان نرد على ذلك. اعرف ان جلالتكم لا يتفق معنا في هذه النقطة. لكننا نتمنى ان يفهم جلالتكم دوافعنا خلال الاسبوعين الاولين للحرب.

على اي حال، الآن انتهت الحرب. وقمنا نحن بدور رئيسي في وقف اطلاق النار، رغم ان الاسرائيليين كانوا يريدون استمرار القتال. وقمنا بدور رئيسي، بل دور حاسم، في ارسال امدادات الى الجيش المصري الثالث. (خلال الايام الاولى للحرب، عبر الجيشان الثاني والثالث المصريان قناة السويس شرقا، واستردا جزءا من سيناء. لكن، خلال الايام الاخيرة للحرب، عبرت قوات اسرائيلية قناة السويس غربا. وتقدمت نحو القاهرة. وحجزت الجيش الثالث شرق قناة السويس. وقطعت عنه الامدادات).

امس، عندما قابلت الرئيس السادات، اتفقنا على وقف اطلاق النار. والآن، وافقت اسرائيل على ذلك، بعد ضغوط قوية. ولهذا، صارت بداية مفاوضات السلام ممكنة. واذا وافق جلالتكم، سنعطي وزير خارجيتكم نسخة من اتفاقية وقف اطلاق النار. والتي ستعلن مساء غد.

الملك (يهز رأسه موافقا):

انا ممتن لسعادتكم لهذه الشروح والتوضيحات. وأود ان اشير الى حقيقة، تعرفونها، وهو انني شرحت مرات كثيرة للرئيس نيكسون، ولوزير خارجيته (السابق) روجرز، الضرورة الملحة للولايات المتحدة لتضغط على اسرائيل لتنسحب من الاراضي المحتلة. فعلت ذلك وانا قلق على الانفجار (الحرب) الذي كان لا بد منه، والذي توقعته.

كيسنجر:

تأكد لنا ان جلالتكم كان صائبا في ذلك.

الملك:

انت تعرف ان الشيوعيين يريدون ان يستمر الوضع مثلما هو الآن ليجدوا مجالا خصبا للتدخل اكثر في المنطقة. ونحن نعرف ان الولايات المتحدة، خلال تاريخها، وقفت دائما ضد المعتدي. وانت تعرف في وضوح تفاصيل الحرب الاخيرة (الحرب العالمية الثانية. بسببها، هربت عائلة كيسنجر اليهودية من المانيا الى اميركا). في ذلك الوقت، عندما طمعت المانيا النازية في اراضي دول مجاورة، وغزت بولندا وتشيكوسلوفاكيا، اعترضت الولايات المتحدة بدون اي تردد.

وفي سنة 1956، لم تتردد الولايات المتحدة في معارضة التحالف بين بريطانيا وفرنسا واسرائيل، عندما اشتركوا في الاعتداء على مصر.

لهذا، في سنة 1967، عندما اعتدت اسرائيل على مصر وسورية والاردن، كان يجب على الولايات المتحدة الا تكتفي فقط بوقف العدوان الاسرائيلي. كان يجب عليها، ايضا، ان تضغط، في الحال، على اسرائيل لتعود الى حدود 4 يونيو. لو فعلت ذلك، لما حدثت التطورات الاخيرة (وحرب اكتوبر سنة 1973) ...

انا اتحدث في صراحة، وكصديق. يحزنني، بل ويؤذيني، ان اعلن قرارات (مثل قرار وقف تصدير النفط) تؤدي الى شيئين: اولا: تسبب خللا في علاقاتنا. وثانيا: تؤذي صداقتنا.

لكن المشكلة هي ان حرب سنة 1967 اعطت الشيوعيين فرصة لزيادة نفوذهم في الشرق الاوسط. ماذا فعلوا؟ نشروا اشاعات ان السعودية تتعاون مع اسرائيل. لا يتوقف الشيوعيون عن خلق مشاكل لنا، لأنهم يعرفون اننا اكبر حاجز امام نشر مخططاتهم في هذه المنطقة.

كيسنجر:

اتفق مع جلالتكم في اهداف الشيوعيين السياسية والامنية هذه.

الملك:

لسوء الحظ، تعمل اسرائيل لتحقيق هذه الاهداف الشيوعية. ولهذا اقول، واكرر، ان اسرائيل يجب ان تنسحب من الاراضي المحتلة. ويجب ان تسمح بعودة الذين تركوا ديارهم. بدون تحقيق هاتين الخطوتين، لن يكن هناك سلام في المنطقة.

الوزير السقاف:

اود ان اشير الى ان هناك من يعتقد ان صاحب الجلالة لا يهتم بموضوع القدس. لكن، طبعا، هذا غير صحيح.

الملك:

لسوء الحظ، يوجد وسط الذين يعتنقون الدين اليهودي من يؤيد الصهيونية. وسيسبب هذا اضرارا للشعب اليهودي. قبل تأسيس اسرائيل، لم يوجد ما يعرقل العلاقات بين العرب واليهود. ولم يكن هناك سبب يدعو العرب لمقاومة اليهود. وكان هناك يهود كثيرون يعيشون في دول عربية، وكنا نسميهم «اليهود العرب». وقبل مئات السنين، عندما عذب اليهود في اسبانيا (على ايدي محاكم التفتيش الكاثوليكية)، قام المسلمون بحمايتهم (في دولة الاندلس). ما يحدث الان ليس الا مشاكل خلقتها اسرائيل، بخططها، ومؤامراتها.

اضف الى هذا دور روسيا في تأسيس اسرائيل. ولا تنس انه، في سنة 1948، اتهم السفير الروسي لدى الامم المتحدة الاميركيين بأنهم يعرقلون تأسيس اسرائيل ... (عكس الروس، تردد الاميركيون في الاعتراف باسرائيل. وقال بعض الاميركيين ان اسرائيل جزء من خطة لارسال اليهود الروس الى الشرق الاوسط، لنشر الشيوعية، وزيادة النفوذ الروسي. لكن، بمجرد تأسيس اسرائيل، اعترفت بها اميركا «كأمر واقع»، حسب وثائق مكتبة ترومان (الرئيس في ذلك الوقت).

شرحت هذه التفاصيل بهدف اقناع اصدقائي الاميركيين الا ينقادوا لمصالح ومطامع اسرائيل. وانا متأكد بأن اكثر اصدقاء الولايات المتحدة هم في الدول العربية. ولهذا، يجب ان توقف الولايات المتحدة هذا التأييد بدون حدود لاسرائيل. لا يخدم مثل هذا التأييد حتى مصلحة الولايات المتحدة.

لكن، لسوء الحظ، كما يلاحظ سعادتكم سريعا، لا تطابق مصلحة اسرائيل مصلحة الولايات المتحدة.

لست عنصريا (كراهية اليهود) عندما اقول ذلك. وليست المشكلة عنصرية، ولكنها احقاق الحق. ونحن نتعامل في هذه المنطقة مع ناس بنفس هذا المقياس، سواء يهود او غير يهود. وهدفنا هو احقاق الحق. ولهذا، يجب ان تتأسس في فلسطين دولة مختلطة من المسلمين واليهود. لا يوجد من يشير الى الولايات المتحدة بأنها «دولة مسيحية»، لانها دولة ديمقراطية، ومفتوحة لكل الاديان ...

كيسنجر:

يا صاحب الجلالة، تواجه الولايات المتحدة مشكلة الانتقال من الوضع الحاضر، وهو وضع لا يقدر العرب على تحمله، الى وضع سلام حقيقي.

الملك:

لتبدأوا بأن تضغطوا على اسرائيل لتنسحب.

كيسنجر:

نعم، اتفق مع جلالتكم في هذه النقطة، وهي ان على اسرائيل ان تنسحب. لكن المشكلة هي كيف نقدر نحن على تحقيق ذلك؟ اذا سمح لي جلالتكم، اود ان اشير الى بعض آرائنا في هذا الموضوع.

الملك: انا متأكد بأن اسرائيل ستنسحب في نفس اللحظة التي تعلنون فيها انكم لن تحموها، ولن تدافعوا عنها، ولن تدللوها.

كيسنجر:

انا فكرت في اراء جلالتكم هذه. ويجب ان اقول ان فيها موضوعية كبيرة ... نعم، تقدر الولايات المتحدة على الضغط على اسرائيل لتحقيق السلام. نعم، جلالتكم على حق في هذه النقطة. لكن، هذه مهمة صعبة جدا. والسبب هو ان الظروف الداخلية التي تؤثر على علاقات الولايات المتحدة مع اسرائيل هامة جدا بالنسبة لجماعات داخلية معينة (يقصد اليهود وحلفاء اسرائيل). ويعود سبب فشل كثير من محاولات حل المشكلة في الماضي الى اننا عالجناها كمشكلة خارجية. ولم نبذل جهدا كافيا لمواجهة الجانب الداخلي لها.

يا صاحب الجلالة، انا اتحدث معكم في هذا الموضوع حديثا صريحا جدا.

الملك:

اقدر صراحتكم. وابادلك الصراحة. واقول لكم ان مواطن اي دولة يجب ان يدين بالولاء لهذه الدولة (للولايات المتحدة)، لا لدولة اخرى (اسرائيل).

كيسنجر:

ربما هذا صحيح. لكن، الحقيقة هي ان كثيرا من الاميركيين في مواقع هامة، في الحكومة، وفي الكونغرس، يرون ان مصالح الولايات المتحدة ومصالح اسرائيل متطابقة.

الملك:

اكرر لكم اننا لا نفهم هذا الوضع. ما هي مصلحة الولايات المتحدة في ذلك؟ نحن نرى ان اسرائيل عبء على الاميركيين. انها تكلفكم كثيرا ...

* (الحلقة المقبلة الجزء الثاني من هذا المحضر)