العمدة عبد الصمد.. عاشق التاريخ

توارثت عائلته العمودية منذ 90 عاما

عمدة اليمن والمحل يجلس حيث كان يجلس أجداده منذ نحو قرن (تصوير: غازي مهدي)
TT

أمام مبنى قديم يضم مكتبا صغيرا في قلب مدينة جدة التاريخية، يتخذ عبد الصمد محمد عبد الصمد، مجلسا يوميا يستهله مع شروق شمس كل يوم وحتى بعد الغروب، ليمارس سلطته كعمدة لحي اليمن والمحل في جدة القديمة.

بعمته الجداوية، وصديريته البيضاء، التي عرفت منذ زمن طويل كزي لأهل جدة ظل عبد الصمد محمد، وعلى مدار نحو 12 عاما مضت، يشغل منصب العمودية، كخلف لأجداده الذين شغلوها منذ 90 عاما في ايام العثمانيين، بحسب ما يقول منذ ان كان جده الاكبر عمدة لتلك المنطقة، ليورثها لأحد ابنائه ومن ثم يورثها لاخيه، واخيرا لوالد عبد الصمد قبل ان يتقلدها العمدة الحالي.

وامام الحفاظ على هذا الورث الصعب والمسؤولية الجمة التي يعشقها بجنون، في مداراة ومراعاة التاريخ لم يجد العمدة عبد الصمد الا التخلي عن وظيفته في شركة ارامكو وطلب احالته للتقاعد المبكر، ليجلس في نفس المكان الذي جلس فيه اجداده، كعمدة لهذا الجزء المهم من جدة التاريخية وليواصل رحلة «بناء» ما بدأه اجداده.

وتفوق مهمة العمدة عبد الصمد مهمة العمدة التي جرت العادة عليها بحسب رأيه، فهو يرى انه يمثل ويحاكي ويحارب من اجل التاريخ، بين جدران وأزقة منطقة كانت على مدار قرون، القلب النابض لسكان جدة، وقبل ان تصبح تاريخا يتحدث عنه ويحارب من اجل الابقاء عليه.

وعمدة اليمن والبحر ذو الـ 56 ربيعا يحمل شهادة البكالوريوس من جامعة الملك عبد العزيز في تخصص علم الاجتماع، وله من الابناء خمسة، ودرس ابتدائيته في مدارس الفلاح القديمة، وقبل كل ذلك يحمل بين جنبات صدره قلبا صافيا ونقيا، منحه تأشيرة مرور الى قلوب سكان ومرتادي تلك المنطقة التي تحتل جزءا من القلوب.

ولا يكتفي العمدة عبد الصمد بالقيام بدور العمودية المعروف وهو معرفة الموجودين في الحي وتسجيلهم ومتابعة اوضاع الحي، بل يحارب للحفاظ على دور العمدة القديم المعروف، فهو رجل متعدد المهام، اذ يتحول الى رجل الامن عند اللزوم، ليتابع ويبلغ عن المخالفات، وتارة اخرى يتحول الى مرشد سياحي لضيوف ومرتادي تلك المنطقة، وفي احيان كثيرة، يصبح عضو اصلاح ذات البين في حال حدث أي خلاف.

ويصف العمدة عبد الصمد عمله اليومي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» بقوله: «أنا اقوم هنا بكل اشكال العمل، فأقوم بتقديم المعونة لكل من يحتاجها، فمن اراد الاطلاع على البيوت القديمة والتاريج اطلعته، وكل من يحتاج لأمر في هذه المنطقة وفرته له».

ولا يخفي العمدة انزعاجه من عدم رضاه عن الوضع في ذلك الجزء من التاريخ اذ يقول: «أكذب عليك اذا قلت انني راض، لأن المشكلة ان الامانة تعتمد على توجه امينها، فإن كان يحب تلك المنطقة اهتم بها، والا تركها وأهملت».

ويتابع عبد الصمد «المفروض ان تجهز منطقة جدة القديمة بكاملها بالاماكن المناسبة للجلوس والاستراحات والمقاهي والاماكن الترفيهية».

ويتحسر العم عبد الصمد على ايام مضت في جنبات هذا الحي، كانت الألفة فيها بين الاسر اكبر واكثر، لكن معظم ساكني هذه الاماكن غادروها الى مواقع اخرى من جدة، ولم يتبق سوى عوائل تقطن في ذلك المكان التاريخي يمكن عدها على اصابع اليدين.

ويعود ذلك الرحيل المر بحسب العمدة الى اسباب كثيرة، اولها، قدم المدينة وعدم التجديد فيها وتأهيلها، وظروف الحياة الصعبة وتحول كثير من تلك المباني الى مستودعات ومحلات تجارية.

وهنا لا ينسى ان يشكو العمدة من الحضور الطاغي للأجانب والعمالة الاجنبية في تلك البقعة التاريخية ويقول: «ان الاجانب يسكنون الآن هنا، وهم مقيمون نظاميون، لكن مع كل نظامي يسكن مخالف».

ويتمنى العمدة عبد الصمد ان تنظم مدينة جدة التاريخية تحت لواء الهيئة العليا للسياحة، باعتبارها منطقة سياحية، مشيرا الى ان ذلك لو حدث سيكون فرجا وحلا لمدينة التاريخ وسيكون نقلة نوعية لها.

وعندما يكون الحديث عن العمودية والعمد، يتبادر الى الذهن ما كان عليه العمد سابقا وهو ما يحارب العمدة عبد الصمد على ابقائه والحفاظ عليه، حيث كان «العمدة» الوسيط بين الناس، ثم بين الناس وبين الأجهزة الحكومية. وعلى الرغم من أنه ما زال يضطلع ببعض هذه الأدوار حتى اليوم، إلا أنه فقد بريق الماضي وتلك الهالة التي كان يتمتع بها، نظراً لاختلاف ظروف الحياة على الأرجح. فالعمدة قديماً كان حلاّل المشكلات والوسيط النزيه الذي تمتد صلاحياته إلى الإصلاح والنهي، وكان العارف بأحوال الحي وشؤونه وشجونه، يحضر في كل المناسبات، يواسي ويعزي، يهنئ ويشجع، ويقف ويساند.