اللبنانيون يستعيدون رعب الحرب الأهلية.. وتفجير سيارة عيد ذكرهم بمشاهد الموت والدمار

TT

لم يغب الذهول والرعب عن شوارع بيروت غداة جريمة اغتيال النقيب وسام عيد ومرافقه اسامة مرعب وثلاثة مدنيين كانوا يعبرون المكان عند العاشرة من صباح الاول من أمس، وفي منطقة مكتظة بالسيارات عند أحد المداخل الشرقية للعاصمة بيروت. الناس لم يستفيقوا من صدمة سقوط الابرياء في عمليات ارهابية تم توقيت تنفيذها ساعة الذروة. هذا الذهول انعكس على حركة السير في معظم شوارع العاصمة والطرق الرئيسة التي غالبا ما تشهد ازدحاما في نهاية الاسبوع.

أما الطرق المحيطة بساحة الانفجار والمؤدية اليها، فقد عزلت ومنع عبورها، لتحتل المكان خيمة كبيرة وتبدأ عملية رفع الأدلة. وعلى مسافة أمتار من «الجحيم». مقبرة سيارات وسع دائرة كبيرة تدل على حجم الانفجار. الدماء والأشلاء على أعمدة الجسر تدل على فظاعة ما حل بالضحايا. القوى الأمنية من جيش وقوى أمن داخلي تمركزت بكثافة وأحكمت قبضتها على المكان لعزله عن الاعلاميين والفضوليين. مسح الخسائر ينتظر الاذن من المرجعيات الامنية. لتتولى الهيئة العليا للإغاثة عملية التعويض المرتفعة التكاليف بالتأكيد، ذلك أن منطقة الشيفروليه التي استهدفتها العملية الارهابية هي مركز تجمع مؤسسات ومراكز تجارية عديدة، كما يحيط بها عدد كبير من المدارس، إضافة الى الابنية السكنية التي تضررت في دائرة قطرها يصل الى 500 متر، فتحطم زجاجها جراء الانفجار. توقيت الجريمة أعاد الى ذاكرة اللبنانيين مشاهد من ثمانينات القرن الماضي. آنذاك كان معظمهم يعيش أسير رعب التفجيرات. وغالبا ما كان أهالي التلاميذ يصابون بحالات خوف هستيرية وهم يسارعون الى احضار اولادهم من المدارس لدى وقوع التفجيرات. ولعل أقساها كان تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981. حينها وصلت الامهات الى المدارس القريبة من محيط السفارة حافيات وبثياب المنزل.

الرعب بدأ يصيب العابرين ايضا، سواء كانوا في سياراتهم او كانوا يسيرون على أقدامهم. أحد هؤلاء قال لـ«الشرق الاوسط»: «عدت التفت يمنة ويسرة عندما أسير في الشارع. كل سيارة متوقفة كفيلة بإثارة الرعب في نفسي. عدت أفكر أني افضل الموت على الاصابة بعاهة دائمة اذا تعرضت لمثل هذا الانفجار».

تبقى لوعة أهل الضحايا هي الاقسى، فالحزن يتحول غضبا لا شفاء منه، لاسيما ان المذنبين لا يزالون مجهولين. جو ابن الضحية ألان صندوق، لم يجد بعد اكتشافه جثة أبيه في موقع الانفجار الا اطلاق شتائم غاضبة ورفس الحطام.

الضحية ألان صندوق كان يملك محلا لإطارات السيارات يبعد بضع مئات من الامتار عن مكان الانفجار. كان قد غادر الى منزله القريب ليتناول طعام الفطور. لكن الموت احتراقا كان بالمرصاد. جو وشقيقاه كانوا يدورون في المكان كالإعصار. يصرخون من دون وعي. قال أحدهم: «مات فداء للبنان. لكن يجب ان يدفع المجرم الثمن». ليعقب خالهم بمرارة ساخرة: «صهري ألان عمره خمسون عاما. هو مسؤول سياسي عن الدواليب واصلاحها في دكانه القريب. ذنبه انه شعر بالجوع وذهب ليأكل فتحول الى قطعة فحم. لماذا قتلوه؟ ماذا فعل؟».

ليستطرد: «الله لا يسامح المجرم. لو يأتي يوم الحساب».

خلال الحرب الاهلية كان ذوو بعض الضحايا ينتقمون من الفريق الآخر. فما ان يتمكنوا من «اصطياد» مواطن من «طائفة العدو» حتى يسارع الى تصفيته، معتبرا ان الطائفة بجميع أبنائها مسؤولة عن خسارته أحد أفراد عائلته. حاليا لا يجد المواطن المنكوب سببا لما يصيبه من قتل عشوائي إلا الصراع السياسي الحاد الذي يعطل الحياة الطبيعية في لبنان. يقول أحد اقارب الضحية: «لماذا لا يقف السياسيون الذين يريدون ان يتقاتلوا في حلبة حتى يفني فريق الآخر. ونحن حاضرون لنتبع الرابح. لكننا لم نعد نتحمل سقوط الابرياء».

جو ابن الضحية ألان صندوق لم يوجه اتهاماته الى السياسيين. لم يجد الا أكواخ العمال تحت جسر الشيفروليه ليقتحمها صارخا «أين هم؟». لم يلبث أن اقترب من بائع فاكهة تعود الوقوف الى جانب الطريق وسأله: «أنت سوري؟». قبل أن يتمكن الرجل من الإجابة، تلقى لكمتين كانتا كافيتين لتحطيم وجهه وتدفق الدماء من أنفه وجبينه. ساندرا التي تعمل ناشطة اجتماعية، استفزها الامر. قالت لـ«الشرق الاوسط»: «أرجوكم أكتبوا ألا علاقة للشعب السوري بالجرائم التي تحصل. حتى لو أظهر التحقيق ان النظام السوري مسؤول. فهذا البائع المسكين هو ضحية كما اللبناني الذي لم يجد إلا هذا البائع البريء ليصب عليه غضبه. فقد تصرف الشاب بغرائزية بشعة بمعزل عن انتمائه السياسي، او تأييده الموالاة والمعارضة او الاكثرية الصامتة». لكن الكلام العقلاني يبقى من دون فعالية؛ فاللبنانيون يعيشون تداعيات جرائم التفجير والاغتيالات التي ارتفعت وتيرتها وتقاربت مواعيدها. ولا يملكون إلا المزيد من الخوف من أن يتحول لبنان الى مزيج جهنمي من العراق ورواندا.