الأديب والناشر المتمرد سهيل إدريس رحل تاركا «الآداب» في عنق الورثة

طبع «أولاد حارتنا» رغم منعها ووزعها في القاهرة سرا

سهيل إدريس
TT

بعد حياة صاخبة ومكابدة لعدة سنوات مع المرض، رحل بالأمس المثقف المشاغب، والأديب اللبناني المتمرد والمتعدد سهيل إدريس عن عمر يناهر 82 عاماً، قضاها كما أحب وتمنى، مناضلا لا يهدأ في ساحة الكلمة، ومنازلا شرساً في القضايا الكبرى. بدأ حياته شيخاً صغيراً وتلميذاً في «الكلية الشرعية» في بيروت، وانتهى صاحب روايات وقصص وترجمات ودار نشر شهيرة، وصاحب مجلة أدبية وثقافية تجاوز عمرها النصف قرن.

حياة سهيل إدريس محطات تؤّرخ كل منها ليس للثقافة في لبنان وحسب، بل في العالم العربي ايضاً. إحساسه القومي، وارتباطه بقضية فلسطين، وهمومه العربية، جعلته يتجاوز لبنان، ويمد جسوره إلى العراق ومصر وسورية والمغرب، الذي يقول ان جذور عائلته تعود إليه.

ولد في بيروت وتعلم في كلية فاروق الشرعية. عمل في الصحافة اللبنانية منذ العام 1939 ثم سافر إلى باريس وحصل عام 1953 على دكتوراه في الآداب من «جامعة السوربون». هناك تعرّف إدريس على الوجودية وفكر جان بول سارتر، وأغرم به، وترجم سيرته الذاتية، كما ترجم «الطاعون» لألبير كامو و«هيروشيما حبيبي» لمارغريت دوراس.

أنشأ مجلة «الآداب» عام 1953 التي دخل من خلالها معارك فكرية وشعرية عديدة، صنفه بعضهم بالرجعي والمعادي للشعر الحديث، وما تزال مجلته هذه تصدر إلى اليوم. وفي عام 1956 أسس بالاشتراك مع نزار قباني «دار الآداب» للنشر، ثم انسحب نزار قباني، وبقي ينمو بها حتى باتت إحدى اشهر الدور العربية، لا سيما في مجال الرواية، حيث أخرجت من مطابعها روايات لكبار الكتاب العرب. أحد أشهر الذين طبعت لهم «الآداب» نجيب محفوظ، الذي لجأ إليها حين منع جمال عبد الناصر «أولاد حارتنا» في مصر. فأخذها سهيل إدريس المحب للمشاكسة، وطبعها في داره، وبدأ يرسلها إلى «دار مدبولي» في مصر ويتم توزيعها هناك. وهكذا كان لسهيل إدريس فضل تعريف القارئ العربي بالرائعة الروائية «أولاد حارتنا» التي طبعت أكثر من عشر مرات، استجابة لنهم القراء.

وسهيل إدريس من «مؤسسي اتحاد الكتاب اللبنانيين»، مع المفكر الكبير قسطنطين زريق، وأدونيس ومنير بعلبكي وانتخب أميناً عاماً له لأربع دورات، لكنه غضب على الاتحاد في نهاية التسعينات، واعتبر انه خرج عن مهمته، فاستقال منه، وهاجم الممارسات التي رأى انها اطاحت به وبصدقيته.

لكن ما صنع شهرة سهيل إدريس هي رواياته الشهيرة التي كتبها من وحي مرحلته الباريسية بشكل أساسي وتلك الصدمة الثقافية التي عاشها هناك. فاشتهرت «الحي اللاتيني» و«الخندق العميق»، وله مجموعات قصصية عدة منها «أشواق» و«نيران وثلوج» و«كلهن نساء» و«الدمع المر» و«رحماك يا دمشق» و«العراء». وللأديب إضافة إلى ترجماته العديدة دراسات، نذكر منها «في معترك القومية والحرية» و«مواقف وقضايا أدبية».

ولعل البعض لا يعرف انه واضع أحد أهم وأكثر القواميس الفرنسية ـ العربية انتشاراً وهو قاموس «المنهل».

ولم يرحل سهيل إدريس قبل أن يكمل صخبه بسيرة ذاتية، انتقدها كثيرون وامتدحها كثيرون أيضاً، كان فيها صريحاً، لا بل وصادماً وكاشفاً للكثير مما عاشه لا سيما علاقته المهتزة مع والده، وعلاقته مع نزار قباني، والعديد من الأدباء الذين عايشهم. وإذ بقي سهيل إدريس متعلقاً بدار النشر التي أسسها والمجلة التي خلفها وراءه فهو يرحل اليوم، تاركاً الأمانة لابنته رنا، وابنه سماح وزوجته عائدة، الذين يتابعون مسيرته، من منطقة «ساقية الجنزير» في بيروت.