لبنان: شارعان لا يلتقيان

حتى لو أردت أن تكون موضوعيا.. فلن تجد من يحدثك من جمهور «الآخر»

TT

بائع الزهور أبو مهدي كان ينتظر عودة جماهير الأكثرية المشاركين في ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط)، ليبيعهم ورده الاحمر. قال ساخرا: «في المساء وبعد احتفالهم بثقافة الحياة سيحتفلون بالسان فالنتان». وفي الانتظار كانت عين أبو مهدي على شاشة «المنار» وأذنه مع إذاعة «النور». كان يتابع النقل المباشر لتشييع القائد العسكري في «حزب الله» عماد مغنية الذي اغتيل في دمشق الاسبوع الماضي. في المقابل كان جمهور ذكرى اغتيال الحريري يسأل كل اعلامي يستصرحه عن وسيلته الاعلامية. ويرفض بحدة واستنفار التعاون مع اعلاميي المعارضة. فتاة من هذا الجمهور قالت لي انها لا ترضى بالتحدث الى مراسل لا ينتمي الى صحيفتها المفضلة والوحيدة. فهي لم تعد تكتفي بعدم متابعة صحافة «الآخرين» وانما قررت أن تقاطع حتى الحوار معهم. واذا فرض عليها هذا الحوار لن يصعب التكهن انها ستكرر ما نسجته من قناعات «على القياس». لن تأخذ من محاورها أو تعطيه أي شيء.

الصورة لا تحتاج الى اجتهاد. فاللبنانيون تطوروا... ولكن في الاتجاه السلبي ليقفلوا عقولهم وآفاقهم على غرائزهم المذهبية والسياسية. الشاب الدرزي الذي كان يقف تحت المطر عاري الصدر قال بحماسة: «أكثر ما يعجبني في الزعيم وليد جنبلاط انه يقول ما أفكر به. ينطق بلساني كأنه يقرأ أفكاري».

رفض الآخر إعلاميا في هذا المقام له دلالاته. فهذا الرفض لدى المتلقي وصل الى حد الإلغاء. واذا تغيرت السياسات وتغير معها الخطاب الإعلامي للمنابر المسموعة والمقروءة والمكتوبة اين يصبح هذا المتلقي الذي أقفل الباب على أفكاره ورؤيته للأمور وقدرته على تحليل كل ما تعرضه وسائل الاعلام من رأي ورأي مضاد؟ هل سيتمكن من مغادرة شارعه المغلق الى لقاء «الآخرين» المنعزلين ضمن شارعهم؟ كيف سيؤثر عليه خطاب غير استفزازي وغير تحريضي وغير إلغائي؟ كيف سيتعامل مع وسائل إعلام خارج الاصطفاف؟

التغطية الميدانية لأي حدث تظهر أن الجمهور اللبناني تجاوز وسائله الاعلامية. سبقها بأشواط. بحيث أصبحت المتاريس المرتفعة داخل الشاشات وعبر موجات الأثير وخلف الصفحات أقل تشنجا من شارعها. أصبحنا في ورطة مع المتلقي، الذي لم يعد قادرا على الانفتاح والاستماع الى ما يدور خارج شارعه المغلق. لم ينتظر جمهور «التيار الوطني الحر» الذي يرأسه النائب العماد ميشال عون ما سوف يلقنه إياه موقعه الالكتروني من أن الحشود لم تتجاوز المئة ألف مشارك الا بقليل، وأن المشاركة المسيحية كانت خجولة، بالكاد بلغت أرقامها 14 ألفا. كان يعيش هذه «المعلومات» مسبقا، رافضا أي وقائع تخالف قناعاته المتجذرة. لم يحفل بمعرفته أن نسبة لا بأس بها من أقاربه وأهالي قريته نزلوا الى شارع الاكثرية وكذلك أهالي القرى المجاورة. وهم بالتأكيد يدحضون أرقام تياره. لذا عندما ورد التقرير على الموقع الإلكتروني للتيار، تعامل معه وكأنه يقرأ في مرآة أفكاره. لم تعطه المعلومة جديدا.

جمهور 14 آذار لم يكن أفضل حالاً. ما أن قال عريف المناسبة الصحافي جورج بكاسيني أن عدد الحشود تجاوز المليون الى مليون ونصف المليون نسمة حتى تعالى الهتاف وكأن المشاركين حققوا الانجاز الأكبر وانتصروا في معاركهم واكتفوا بشارعهم وتجاهلوا أنه على بعد كيلومترات قليلة يقف حشد آخر تحت المطر ليقول كلمته في شارعه. والمبالغة ليست حكرا على جهة او مذهب سياسي. وليس غريبا أن يأتي الرد للشارع المقابل من داخل مرآته فيقول أحد المشاركين في تشييع مغنية ساخرا وغاضبا: «مليون ونصف المليون؟ أكثرية وهمية وأرقامها وهمية. لم يتجاوز جمهورهم المرتزق والمأجور العشرة آلاف. المليون ونصف المليون كانوا في تشييع المناضل عماد مغنية».

لم يبحث أحد عن منتصف الطريق بين عشرات الالوف والحشود المليونية ليتبين بطريقة حسابية ميسرة أن عبارة «عدة مئات من الآلاف» في كل من الشارعين هي الأقرب الى المنطق. وهو رقم لا يستهان به في التحركات الجماهيرية. والمبالغة بالمليون والنصف تنعكس سلبا على من يعتمد هذا الرقم وتقلل من مصداقيته الاعلامية اولا والسياسية ثانيا». من يحصي؟ من يفكر؟ من يزيح المرآة قليلا ويستخدم المنطق؟ قلة قليلة خارج الاصطفافات تحاول التمسك بالمنطق. لكن المنطق المسكين تحول وجهة نظر لدى المتلقي اللبناني وربما العربي المتابع الحالة اللبنانية الجذابة والمتحركة قياسا الى العمى الاعلامي المفروض عليه في بلدانه. والغريب في هذه الاشكالية أن الشارع المغلق على تلقي ما يطيب لهواه وميوله يرفض حتى المناقشة مع رفيق درب أكثري داخل الصف الواحد حيث لا نسمع الا أصواتا مستنسخة. فجمهور زعيم الاكثرية النائب سعد الحريري يجمع الشيعة كلهم في سلة واحدة ويعتبرهم أعداء لبنان. واذا سعى سعد الحريري نفسه الى استبعاد هذا التعميم من وعي المتلقي المتطرف لن يحاكي الا حائطا مسدودا. لذا اذا حاول المراسل ان يرصد ردات فعل شارع بعينه سيأتي عمله شاء او أبى منحازا للشارع الذي يغطيه. ما يؤدي الى مأزق آخر يصيب المبادئ المطلوبة للموضوعية والمهنية في صميمها.

ففي الميدان شارعان لا يلتقيان. وربما لم يعد ينفع اتهام الاعلام بأنه اصل العلة في هذا "الطلاق" الذي كرسه أهل الحل والربط. صحيح انهم باشروا استخدامه في الخطاب الاعلامي. لكن العمل على الأرض يفضح وقوع هذا الطلاق البائن بين قوم لن يغيرهم الاعلام ولن تنقلهم السياسة الى ضفة الانفتاح الا عندما يغيروا ما في انفسهم وإلا على الوسائل الاعلامية اللبنانية ان تتوجه بعد حين الى جمهور مصاب بانفصام في الشخصية.