«الهروب إلى مصر» وجدت مكانها في متحف مدينة ليون

جمع 10 ملايين يورو في أكبر حملة فرنسية لمنع هجرة لوحة

الرسام نيكولا بوسان
TT

مساء الحادي عشر من هذا الشهر، وفي احتفال يشبه الأعراس العائلية، وقفت نخبة من شخصيات مدينة ليون، جنوب فرنسا، تتفرج على لوحة زيتية قديمة مستطيلة وهي تخرج من صندوقها الخشبي وتحرر من لفافات القماش التي تغلفها، لكي تعلق على جدار أُعدّ خصيصاً لها في متحف الفنون الجميلة في المدينة. بل إن بعض الحاضرين مسح دمعة تأثر وهو يستذكر الجهود الماراثونية التي بذلت للحصول على اللوحة، فقد أصبح في إمكان كل أهالي ليون، ومن يأتيها من الزوار والسياح، أن يطالع هذا العمل الفني الجميل، الذي يؤكد الكثيرون أنه لا يقل إبهاراً عن درة متحف «اللوفر» الشهيرة... الموناليزا.

إنها حكاية لوحة رسمها فنان فرنسي في القرن السابع عشر، لكنها تصلح، لما فيها من صراع وأموال وأسرار وتشويق، لأن تكون سيناريو فيلم من أفلام القرن الحادي والعشرين. فبعد أكثر من سنتين من الجهود المحلية، تمكنت فرنسا من الإبقاء على لوحة للرسام نيكولا بوسان، على أراضيها وجمع المبلغ اللازم لمنع انتقالها الى حوزة مالك أجنبي ينقلها الى خارج موطنها الأصلي.

إسم اللوحة «الهروب إلى مصر»، وهي من نوع الرسوم الدينية، مرسومة بالألوان الزيتية على قماشة مساحتها 133×97 سنتمتراً، وتمثل السيدة مريم وهي تحمل طفلها عيسى، وتهرب به من فلسطين إلى مصر بعد أن أمر قائد روماني بقتل كل الصبيان حديثي الولادة للتخلص من الطفل الذي سيصبح نبياً من أنبياء التوحيد.

أبدع الفنان الفرنسي نيكولا بوسان «1594-1665» في تصوير العذراء بوشاح أبيض تبدو طياته فوق ردائها الأزرق وكأنها منحوتة في الصخر. وهناك ملاك بجناحين يحرسها وهي تحمل الطفل الرضيع، مع قرينها يوسف الصديق، هاربين في طريق محفوفة بالأشجار والهضاب.

يرى المؤرخون أن هذه اللوحة تستمد قيمتها من تكوين بصري قوي ومن ضربات فرشاة تبهر خبراء الفن وهواة الأعمال التي أنجزت في عصر النهضة. وهم يرون فيها أيضا قمة ما بلغه نيكولا بوسان من مهارة واكتمال فنيين. لكن لكل الأعمال الكبرى حكاية. وتقول حكاية هذه اللوحة إن هناك ثلاث نسخ منها. ويزعم أصحاب كل نسخة بأنها الأصلية، مستندين إلى تقارير خبراء تخصصوا في أعمال هذا الرسام. فمن جهة هناك الفرنسيان بيير روزنبرج وجاك تويلييه، ومن جهة أخرى يملك النبيل الانجليزي سير دنيز ماهون نسخة أيضاً. وهناك، أخيراً، سيدة فرنسية هي مدام باربييه دو لا سير، تحتفظ بالنسخة التي نحن بصددها.

بعد معارك حامية وجولات أمام القضاء، صدر حكم المحكمة الفرنسية في صيف 2003 ليؤكد بأن نسخة المدام هي الأصلية وما عداها زائف. وهي لوحة كانت قد بيعت بالمزاد في بلدة فيرساي، غرب باريس، عام 1986، باعتبارها من أعمال بوسان التجريبية وليست النهائية. وبعد تصديق محكمة الاستئناف قرار المحكمة الابتدائية، أعيدت اللوحة عام 2004 إلى مالكتها السيدة باربييه دولا سير، سليلة نبلاء فرنسا التي انتقلت إليها هذه اللوحة ضمن ما انتقل من أملاك الأُسرة.

بعد ذلك الشوط الأول من المنازعات، لم يعد الجدل يدور حول أصلية اللوحة أو عدم أصليتها، بل حول كيفية الإبقاء عليها في فرنسا والحيلولة دون «هجرتها» من فرنسا. فقبل أكثر من سنتين، كانت صاحبة اللوحة قد تقدمت بطلب إلى الجهات الفنية للسماح لها بتصدير «الهروب إلى مصر» إلى خارج الحدود. لكن وزارة الثقافة، لكي تكسب الوقت للنظر في إمكانية شراء اللوحة، سارعت إلى إصدار قرار باعتبارها «ثروة قومية فرنسية»، أي أدرجت اللوحة على قائمة الآثار والممتلكات التي يمنع إخراجها من البلد. ودخل هذا القرار حيز التنفيذ اعتبارا من 17 أغسطس (آب) 2004، لكنه كان قرارا موقتاً ومحدداً بفترة ثلاثين شهراً. وقد منح القاضي هذه المهلة إلى الدولة الفرنسية لكي تحدد موقفها من اللوحة وتبت في قدرتها على شرائها، وإلا، فإن لا احد يستطيع أن يمنع صاحبتها من بيعها إلى أي جهة قادرة على دفع الثمن، سواء داخل فرنسا أو خارجها. كان على الدولة الفرنسية أن تطلق حملة لجمع التبرعات من المحسنين الأثرياء ومن المؤسسات الصناعية الكبرى ومن المصارف الرئيسية العاملة في البلاد، من أجل جمع المبلغ المقدر للوحة والاحتفاظ بها في موطنها الأصلي. وقاد هذه الحملة متحف مدينة ليون للفنون الجميلة، حيث توجد اللوحة حاليا.

لكن مهلة الإنذار انتهت قبل سنة من دون أن تسفر الحملة عن توفير المبلغ المطلوب والذي كان مقدراً بعشرة ملايين يورو، أي حوالي 14 مليون دولار. واعتباراً من التاريخ المذكور رفعت لوحة «الهروب إلى مصر» من لائحة الأعمال المدرجة ثروة قومية، لكنها أضيفت إلى لائحة موازية تضم «الأعمال ذات الأهمية الوطنية الكبرى».

سمحت النقلة الجديدة للجهة أو للمؤسسة التي تفكر باقتناء اللوحة في فرنسا، بالحصول على تخفيض ضرائبي يصل إلى نصف المبلغ المقرر للضرائب. ومن هذا الباب دخل متحف اللوفر في العملية وراح يقود حملة جديدة لحث الشركات الكبرى على المساهمة في تجميع ثمن اللوحة، طمعاً بالسماح الضريبي المغري. وبالأكيد، فإن اللوفر كان ينوي أن يسحب البساط من تحت قدمي متحف ليون، لضم اللوحة الى ما لديه من مجموعة شبه كاملة لأعمال نيكولا بوسان، تصل إلى أربعين لوحة. كما سمح هذا الإجراء لوزارة الثقافة أن تتنفس الصعداء، ولو لفترة محددة وقصيرة لا تتجاوز الأشهر الأربعة، لتدبير ثمن اللوحة.

ما هو المبلغ المطلوب للوحة «الهروب إلى مصر» وفق الأسعار التي بلغتها سوق الأعمال الفنية هذا العام؟ كان محامي مدام باربييه دو لا سير يتكتم على الرقم ولا يود أن يفصح عنه. والتزم ممثلو الدولة الذين كانوا يتفاوضون على شراء اللوحة، بالكتمان أيضاً، وكأن القضية سرّ من الأسرار العسكرية لهذه العملية التي تعتبر أكبر حملة تضامن مالي للدفاع عن عمل فني، في تاريخ فرنسا كله.

وبسبب الأسرار التي أحاطت بالسعر، نشط الخبراء وتجار الأعمال الفنية في عمليات التخمين والمقارنة. وعلى سبيل المثال، وجدوا أن لوحة للرسام نفسه عنوانها «أوقات هادئة» بيعت بمبلغ 20 مليون يورو، وستضم إلى مجموعة لوحات القرن السادس عشر التي يملكها متحف ليون، وهو بالمناسبة لا يملك سوى لوحتين لنيكولا بوسان.

يذكر أن أعمال بوسان تلقى رواجاً في السنوات الأخيرة وتنتقل ملكيتها من متحف إلى آخر، مسجلة ارتفاعاً بنسبة مائة بالمائة في كل حركة بيع. فهذا الفنان المولود في مقاطعة النورماندي، على الساحل الشمالي لفرنسا، شد الرحال إلى باريس لكي يكسب رزقه من رسم اللوحات لصالح النبلاء والأثرياء. ثم سافر إلى ايطاليا وراح يرسم هناك ويتعلم من معاصريه. لكن بعض الحاسدين هاجموه وأصابوه بطعنة في اليد، دون أن تؤثر في مقدرته الفنية.

ولقي بوسان، بعدها، وجد المأوى لدى خباز فرنسي استضافه وأمن له العلاج. وكان لمضيفه عدة بنات، تزوج بوسان إحداهن ولم يرزقا أطفالاً، فتبنى شقيقاً صغيراً لزوجته، صار رساماً أيضا وورث اسم بوسان.

وطوال الأشهر الماضية كان عشاق الفن في فرنسا يضعون أيديهم على قلوبهم خشية ضياع اللوحة منهم، لئلا تكون حالهم حال الإيطاليين الذين طارت «الموناليزا»، لوحة ليونار دافنشي الشهيرة من أيديهم وحطت في متحف «اللوفر» في باريس. أما محافظو المتاحف، في كل مقاطعات البلاد ومدنها وقراها، فلم يكن لهم من حديث سوى لوحة «الهروب...». لكن الحكاية انتهت نهاية سعيدة، بفضل هبات الشركات الكبرى ومساهمة بلدية مدينة ليون، وبسعي من متحف اللوفر الذي أدرك القائمون عليه، في نهاية المطاف، أن اللوحة لن تكون من نصيبهم، ولا بأس من مساعدة الشقيق الصغير، متحف ليون، على الاستئثار بها لاستكمال ما لديه من مجموعة رسامي القرن السابع عشر.