واقع مأساوي للمهاجر من وجبة غداء إلى أزمة علاقات أسرية وقضايا مصيرية

شريط «الكسكسي والبوري».. طرح مغاير لقضية الهجرة إلى أوروبا

TT

لن نقدم لكم طبق اليوم، ولا طريقة إعداد الكسكسي، تلك الأكلة الشعبية المعروفة في المغرب العربي التي تحضر بالسمك او باللحم، لأن الأمر يتعلق هنا بالسينما، وتحديدا بفيلم «الكسكسي والبوري» الذي بدأ عرضه في قاعات السينما بعد إحرازه عدة جوائز في المهرجانات العالمية آخرها في فرنسا منذ أيام. وهو فيلم من انتاج فرنسي وعربي الكتابة والإخراج والتمثيل. وعلى خلاف الأفلام الاخرى التي تناولت موضوع المهاجرين العرب والتي عادة ما تقدم المهاجر على اساس انه متشرد في الشوارع او مستغل ويعيش وضعية غير قانونية ولا يستوي في الحقوق مع الاوروبي، فان مخرج فيلم «الكسكسي والبوري» التونسي المهاجر عبد اللطيف كشيش دان المهاجر نفسه وتحدث عن هموم أخرى تتعلق بالأساس بالاندماج وسلوك العربي في فرنسا الذي يؤثر نزواته على حساب مستقبله وعائلته وأبنائه والذي يفهم الحرية الشخصية خطأ، وكذلك زواج العربي من اوروبية من وجهة نظر مغايرة للنموذج المعروف، وهو الزواج مقابل تأمين الحياة والعيش في اوروبا.

اما عن دعم هذا الفيلم من منتجين فرنسيين، فذكر المخرج في تصريح لـ«الشرق الاوسط» ان انجاز هذا الفيلم كان بحرية واستقلالية ومن دون شروط مسبقة في مستوى الرؤية والمشاهد التصويرية، رغم ان الاموال التي انجز بها (حوالي 2 مليون دولار) كانت فرنسية. وذكر ان الاساس هو ايمان المنتجين بخصوصية الفكرة وقيمة السيناريو الذي قدم اضافة وطرافة في الطرح.

ولتصوير هذا الواقع المعاش في المهجر اعتمد المخرج على مهاجرين عرب (تونسيين ومغاربة وجزائريين) جلهم يخوض غمار التمثيل لاول مرة. فهم في الحقيقة لا يجسدون ادوارا بقدر ما يجسدون واقعهم في السينما ويعيشون حياتهم الواقعية في الفيلم. وذكر المخرج ان هذا التوجه ميزة يختص بها؛ فقد سبق وان قدم شخصيات من الحياة في أفلامه السابقة.

ينطلق الفيلم من حكاية بسيطة؛ حكاية سليمان رجل مسن، مطلق وله عائلة عديدة الأفراد، أتعبه عمله الشاق والمضني في صيانة المراكب. يطرد من العمل بإحدى الشركات الفرنسية، وهو ما دفعه للتفكير في مشروع خاص لمساعدة عائلته. واستقر رأيه على فتح مطعم مختص في طبق الكسكسي بالبوري  بشارع الجمهورية بميناء مرسيليا، وهو اختيار درامي محمل بالرموز والأبعاد، التي يتضارب فيها القول بالفعل وما هو على الورق بالواقع. فعلى أرض الجمهورية  تعرض سليمان الى صعوبة الاجراءات الادارية والاقتصادية لأن مرتبه في «الجمهورية» ضعيف وغير قار ويمنعه من الحلم لأنه لا يوفر له الضمانات البنكية ومع ذلك يستمر، وتستمر الثقة بالنفس. ويدخل سليمان في تحدي مع السلطات الفرنسية عندما يعرض عليها تقديم الدليل على اهمية المشروع والقيام بالتجربة مجانا مقابل دعمه، لكن ابنه المنحرف يخرب كل شيء، عندما يركب السيارة التي بها الكسكسي ويذهب للسهر مع صديقته، حاكما على التجربة بالفشل وتاركا الجميع في أزمة.

فيلم «الكسكسي والبوري» فيلم محمل بالرموز والأبعاد والإشارات ومتضمن للتوابل العربية المعروفة في «سينما سلام ابن العم» salut cousin او السينما التي تغازل الغرب على غرار المشاهد الساخنة ورقص البطن على موسيقى عبد الوهاب التي لحنها خصيصا لنجوى فؤاد والتي اتقنتها احدى الممثلات في هذا الفيلم، لكنها كانت موظفة بطريقة درامية مغايرة عن السائد والسابق. وتعرض الفيلم لبعض مظاهر الانحراف التي عادة ما تكون حجة للغرب لسياسة تهجير العرب، لكن هذه الاشارات وظفت بعيدا عن عدة اعتبارات وحسابات، لأن الفيلم اكتفى بتصوير الحياة اليومية المأساوية للمهاجر بعين تبدو محايدة من وجبة غداء الى أزمة العلاقات الأسرية الى قضايا مصيرية وترك للمشاهد الحكم، لكن من سوء حظ المخرج فهو قد اعلمنا بأن فيلمه لم يجد اقبالا الى الآن إلا من الفرنسيين.

وحول سؤال ما اذا كان الفيلم يعاضد بطريقة ذكية سياسة ساركوزي الداعية الى الترحيل وفق قانون الهجرة الجديد او ادانته للادارة الفرنسية، قال المخرج عبد اللطيف كشيش إن فيلمه خال من كل الاعتبارات والمرجعيات السياسية ولا ينخرط في وجهة نظر اي كان وان ما يطرحه هو بالأساس واقع انساني ووضع يعيشه جل المهاجرين العرب بأوروبا.

صحيح ان فيلم «الكسكسي بالبوري» كان بعيدا عن الدسائس المعروفة في موضوع هجرة العرب، لكنه لم يختلف عن الافلام الاخرى بما في ذلك الافلام التي تنظر للموضوع من زاوية متحاملة لأنه اكتفى بتصوير مهاجر الساعد، وغيب الآخر مهاجر الفكر والقلم.