عمال التراحيل «غلابة» في سوق الرجال

بين هموم الفقر وأحلام الثراء

عمال التراحيل في مصر .. فئة مهمشة
TT

«تراحيل يا زمن يا بخيل، معلهش. تراحيل والرزق قليل، معلهش. تراحيل وهو لقا وفراق، معلهش. تراحيل في الفجر رحلت، تراحيل في المغرب عدت، تراحيل ويا رب أنت عالم بالحال، معلهش». تلك بعض من كلمات أغنية الفنان يحيى غنام، في ألبومه الذي حمل عنوان «مريم». وهي أغنية تصف بدقة حال عمال التراحيل في مصر، الذين يراهم البعض فئة مهمشة لا صوت لهم، ويراهم آخرون فئة طفيلية تزيد من ازدحام القاهرة، وينظر لهم فريق ثالث بوصفهم بؤساء في عصر لا يرحم، إلا أن قصصهم تمتلئ بالأوجاع، ونادراً ما تختلف نهاياتها. جمال جاء إلى قاهرة المعز محملاً بهموم الفقر والحاجة، يسبقه للعاصمة حلم الثراء، أو على الأقل سد جوع تلك الأفواه المفتوحة في منزله، الذي لا يعرف سوى الخبز الجاف والجبن المملح طعاماً لشهور طويلة. يحمل في إحدى يديه عدة العمل التي تضم شاكوشاً وأجنة وأزميلا، يلفهم في كيس من القماش ويحرص عليهم كحياته، وفي اليد الأخرى كيس بلاستيك يضع فيه غياراً آخر له. هكذا جاء جمال من إحدى قرى الشرقية يلبي نداء «النداهة»، التي طالما دعته هو والكثير من قبله للحضور الي العاصمة القاهرية والعمل بها، حتى لو كان ذلك العمل في سوق الرجال. «لا أحد يعلم معنى الجوع إلا من جربه، لدي عائلة كبيرة أنفق عليها والعمل في القرية بات شحيحا أمام تراجع مساحة الأرض المزروعة وكثرة العدد، وعندما ضاقت بي الحال قررت المجيء إلى هنا واستثمار صحتي وقوتي في أعمال الهد والبناء، لقد سمعت أنهم يكسبون كثيراً». هكذا خرجت كلماته تبرر سبب مجيئه الذي لم يمض عليه أكثر من عدة أيام، ليبقى الأحدث وسط مجموعة من الرجال تفترش الجزيرة التي تتوسط شارع جسر السويس في جزئه القريب من مطار القاهرة. كلهم يحملون ذات الملامح التي يوصم بها الفقر أصحابه، وجوها شاحبة بها خطوط وتجاعيد خطها الخوف من الغد الذي لا يعلمون عنه شيئاً، واليوم الباهت كحياتهم. ولتكون تلك الجزيرة هي ملاذهم الأول والأخير، يبيتون فيها مفترشين قطعا من الكارتون فقط في الصيف، ويستزيدون بقطعة من الخيش السميك للغطاء في أيام الشتاء، وتزداد معاناتهم في أوقات المطر التي يضطرون فيها للاحتماء بمظلات المحال المصطفة على الجانبين حتى تجف الأرض. ليس هذا فقط، فتلك الجزيرة أيضاً هي مقر عملهم حيث يجلسون فيها بجوار بعضهم البعض منذ الصباح الباكر وعيونهم مركزة على السيارات الغادية والرائحة أمامهم، حتى إذا ما وجدوا سيارة تتباطأ أمامهم هبوا إليها هبة رجل واحد مندفعين إلى صاحبها، الذي غالباً ما يحمل الى بعضهم بشرى الرزق، لتبدأ المفاوضات على الأجر. فلو كان صاحب السيارة مقاول أنفار يبحث عن عدد من عمال التراحيل لحفر قواعد أساس إحدى البنايات، أو هدم خرسانة أو غيرها من أعمال المعمار، تكون المفاوضة على الأجر قاسية، حيث يفرض شروطه ويهددهم بين الحين والآخر بتركه لهم والبحث عن غيرهم لعلمه بمدى حاجتهم، وتكون المفاوضات حول السعر أقل وطأة إذا كان صاحب السيارة شخصاً عادياً يبحث عمن يهدم له حائطاً أو يحمل ردماً من منزله. وغالباً ما يتراوح الأجر بين 25 و40 جنيها في اليوم الواحد لكل عامل منهم. وكل واحد منهم وشطارته. ليعودوا في المساء خائري القوي يرتمون على أرض الجزيرة ويلتحفون السماء غطاءً لهم.

هكذا هي حياة عمال التراحيل في مصر، وهي صورة ليست بالجديدة عليهم. ولكنها كانت في الماضي تنتشر في الأرياف من أجل الزراعة، وهو ما عبرت عنه رواية «الحرام» للكاتب يوسف إدريس، التي تظل خير شاهد ومجسدة لقسوة حياة تلك الطبقة. التي عبرت عنها شخصية عزيزة عاملة التراحيل التي جسدتها للسينما سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة في فيلم من إخراج بركات في مطلع الستينات، لتظل شخصية عزيزة التي تخرج ضمن قوافل التراحيل للبحث عن لقمة العيش لأبنائها ولزوجها المريض، فتتعرض للاغتصاب وتضطر الى قتل وليدها خوفا من الفضيحة، حاضرة في أذهان كل من شاهد الفيلم، ليس فقط كدليل على جفاف حياة هؤلاء البشر وقسوتها، ولكن أيضاً كإشارة على وجود النساء في هذا المجال بنسبة لا تقل عن 8% من تعداد عمال التراحيل الذين تتفاوت الإحصائيات الخاصة بهم من جهة إلى أخرى. ولعل أكثرها دقة ما جاء في تقرير مركز الأرض الحقوقي منذ عامين من أن عددهم يقدر بنحو نصف مليون فرد، وينتمون وكما يقول المتخصصون، إلى فئة العمالة المهمشة، ويطلقون عليهم في بعض الأحيان «الأرزقية» وهو تعبير يعني في مصر من يعمل بيده في مهنة لا دخل ثابت لها وليس لها ما ينظمها من قوانين، وبالتالي فلا تأمين له ولا حماية، ولا علاج كما حدث مع محمد ذي العشرين عاماً الذي فقد عينه اليسرى منذ عدة أشهر أثناء قيامه بأعمال الحفر في إحدى البنايات ونقله زملاؤه الى إحدى المستوصفات القريبة من موقع العمل ولم تكن مجهزة بأي إمكانيات فتم إسعافه بطريقة أشبه بالبدائية ففقد القدرة على الإبصار بها، بعدما جاء من قريتة أبشواي بمحافظة الفيوم منذ نحو العام، بدعوة من عمه الذي سبقه لهذا العمل منذ عشر سنوات ومازال رغم قسوة الظروف يطمح الى أن يجمع مبلغاً من المال يجعله يعود إلى القرية لشراء عدد من القراريط كي يستزرعها بنفسه، إلا أن ارتفاع الأسعار يحرمه من تحقيق حلمه. ورغم فقده عينه اليسرى، إلا أن محمد واصل عمله، فأمه وإخوته الأربعة الصغار في انتظار القليل الذي يرسله لهم. ويضيف: «حاول المقاول الذي أعمل معه في معظم الوقت أن يقنعني بضرورة التأمين على حياتي مقابل 10 جنيهات في الشهر، حتى يكون لي معاش في حالة الإصابة أو الموت، وقد حاولت ذلك ولكنني وجدت أن علي دفع مبلغ 100 جنيه في البداية للحصول علي شهادة قياس مهارة، وهو مبلغ مكلف بالنسبة لي، فرفضت».

وكما يعيش طائر الصرد على تنظيف أسنان التمساح من بقايا الطعام، تعيش أم سمير هي الأخرى بجوار عمال التراحيل، في منطقة العتبة بوسط القاهرة. فهي بالنسبة لهم مزود المؤن، وهم بالنسبة لها مصدر الرزق. تجلس بالقرب منهم وأمامها نصبة صغيرة لعمل الشاي وبعض الساندويتشات التي لا تزيد عن الفول والطعمية والجبن الأبيض، ويقدر سعر كوب الشاي العادي بخمسة وعشرين قرشا، أما الشاي الكشري فالكوب منه بخمسين قرشا. ولا ينتهي دور أم سمير عند تقديم الشاي والطعام فقط ولكنها تقدم خدمة أخرى لمن يريد، حيث تغسل ثياب العمال المتسخة في منزلها وتعيدها لهم نظيفة مقابل بعض المال الذي لا تدقق فيه كما تقول. واصفة حالها بقولها «كله بيسترزق، ماذا أفعل وقد مات زوجي تاركاً لي ثلاثة أبناء في المدرسة». قد لا يعرف الكثيرون أن الروائي المصري الشهير خيري شلبي عمل في مرحلة من حياته عامل تراحيل، وهو ما يقول عنه في أحد الحوارات:

«في بداية حياتي عملت في العديد من المهن التي لاعلاقة لها بالأدب والإبداع، ولم يكن هدفي من وراء ذلك القيام بتجارب تفيدني في أعمالي الروائية، ولكن كانت بهدف البحث عن لقمة العيش فقد عملت في جمع القطن، وعملت لمدة ثلاثة مواسم مع عمال التراحيل، وخلال تلك الفترة زرت معظم محافظات مصر. عندما انتقلت إلى الأسكندرية كنت قد بدأت بالفعل في كتابة القصة غير الشعرية وكان حلمي ان أكتب قصة حياة أبي الذي تزوج بعد أن بلغ الستين من عمره وأنجب 17 طفلا فأصبح في هذا العمر مطالبا بأن يخترع لنفسه عملا ينفق منه على أولاده، ولكن عندما اندمجت في تجربة عمال التراحيل تضاءلت قصة أبي وأصبحت لا تكاد تكون شيئا بالنسبة للقصص التي كنت أستمع إليها من هؤلاء العمال والتي جسدتها في روايتي السنيورة». وبعد أن أصبحت روائيا اكتشفت أنني مازلت على علاقة وثيقة بهؤلاء العمال فقد تعلمت منهم قيما أخلاقية وفنية وتعلمت منهم فن الحكي كما في السير الشعبية إضافة إلى القدرة على التعبير عن مشاعر حياتية حية نابعة من الشعور واللقطات المعبرة عن الحالة الإنسانية التي تنبع من الإحساس الصادق بالموقف الذي يعيشه الإنسان».

وتستمر حياة عمال التراحيل الذين يتزايد عددهم كل يوم في ظل حالة البطالة التي تسود المظهر المصري العام والتي تقدرها الأرقام الرسمية بنحو مليوني عاطل وتقدرها اخرى بنحو 8 ملايين. وبعيداً عن الأرقام التي لا تعد نتيجة تجاهل السلطات لهم، فإن لعمال التراحيل قصصا ومواجع كثيرا ما يبثونها للأيام.