«موسوعة الحج والحرمين».. معرض يحكي قصة الملك المؤسس مع أقدس بقاع الأرض

الأمير سلمان بن عبد العزيز يدشن غدا في مكة المكرمة انطلاقة المشروع * التاريخ يسجل للملك عبد العزيز أنه أول من رصف المسعى منذ فرض الحج * إعادة فتح الطرق وتشكيل لجنة للنظر في أمور التجارة .. أول قراراته عند دخوله العاصمة المقدسة

الملك عبد العزيز آل سعود لدى تشرفه بغسل الكعبة بماء زمزم الممزوج بماء الورد وبصحبته ولي العهد الأمير سعود بن عبد العزيز .. واللقطة من فيلم استديو مصر الذي صور الحج عام 1938
TT

تشهد العاصمة المقدسة غدا (السبت) ثلاث مناسبات هامة خاصة بتاريخ الحج والحرمين الشريفين ومكة المكرمة، اذ يتم تدشين مشروع «موسوعة الحج والحرمين الشريفين» التي صدرت الموافقة على قيام دارة الملك عبد العزيز بتنفيذها.

ويقام على هامش المناسبة معرض للصور يحكي علاقة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة والجهود التي بذلها لتحقيق الأمن والتطور في اقدس البقاع وذلك عقب دخوله اليها في عام 1924 بعد سنوات من الاضطرابات التي أثرت سلباً على عمران مكة وعطلت دورة نموها الحضاري بسبب اختلال الامن فيها وفي الطرق المؤدية اليها.

ويرعى المناسبتين الامير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز والمشرف العام على موسوعة الحج والحرمين الشريفين الذي سيلقي محاضرة برحاب جامعة ام القرى تتناول هذا الحدث العلمي الكبير الذي يهدف الى رصد تاريخ الحج والحرمين الشريفين وتوثيقه منذ فترة ما قبل الاسلام الى وقتنا الحاضر في مصدر موسوعي موحد، وابراز جوانب التطور الذي تم لخدمة الحج والحجاج عبر عصور التاريخ، وتكوين قاعدة معلومات خاصة بالحج والحرمين الشريفين تكون مصدراً لأي غرض علمي وبحثي يتعلق بالحج والحرمين الشريفين، وجمع اكبر قدر ممكن من المعلومات والبيانات والوثائق عن الحجاج في الدول الاسلامية وكتابتها وفق منهج علمي موحد.

يفتتح الامير سلمان خلال زيارته لجامعة ام القرى غدا معرضاً عن الملك عبد العزيز ومكة المكرمة انجزته دارة الملك عبد العزيز يحكي العلاقة بين الملك المؤسس والمدينة المقدسة متضمناً صوراً للملك التقطت في فترات زمنية مختلفة إضافة الى صور تحكي جوانب من اهتمام الملك عبد العزيز بشؤون الحج والحرمين والاماكن المقدسة والمشروعات المختلفة التي نفذها وخصوصاً في الجوانب الامنية والتنموية.

وبتتبع تاريخ مكة المكرمة فقد لوحظ على مدى التاريخ أن الأمن شكل أساسا للاستقرار في البلد الحرام وتنامي عمرانه، كما كان لهذا المطلب دور في تسهيل وصول الحجيج والمعتمرين الى الأماكن المقدسة.

وأثرت عدة عوامل أخرى في بعض الفترات التاريخية سلبا على عمران مكة المكرمة، فيقل عدد سكانها، وتتعطل دورة نموها الحضاري، ومن ذلك أن الفترة السابقة على العهد السعودي شهدت بعض الاضطرابات في الطرق المؤدية الى مكة المكرمة.

وأشار رحالة عرب وأجانب باسهاب الى الوضع السائد في تلك الفترة التي سبقت العهد السعودي إذ ذكر محمد لبيب البتنوني في كتابه «الرحلة الحجازية» انه كثيرا ما تحدث في أوقات تحميل القافلة وتنزيلها سرقات من الجمّالة أنفسهم، وقد يتفق جمّالك مع جمّال آخر، يحضر في هذا الوقت الذي يلهيك فيه بصراخه وصياحه، في حين ينقض الآخر على (عفشك) ويسرق منه ما تصل اليه يده، حتى اذا هدأ روعك شعرت بما نقص من متاعك، وهناك يعود الصياح.. وهكذا بعد هرج ومرج من غير فائدة يسكت الصائحون شاكين أمرهم الى الله.

وفي ما يتعلق بما لاقاه الحجاج في طريقهم الى مكة المكرمة فالامثلة على ذلك كثيرة منها ما ذكر الضابط الروسي عبد العزيز دولتشين في رحلته السرية الى مكة المكرمة عام 1898، اذ اشار الى اضطراب الامن في الطريق بين مكة المكرمة وجدة، وان قطاع الطرق قتلوا اثنين من الجنود القائمين على حفظ الأمن، مما زرع الذعر في قلب رفيق لهم، فهرب وأخبر بما حدث، هذا علاوة على حوادث السلب والقتل المتكررة. وما ذكره اللواء ابراهيم رفعت باشا الذي حج في أعوام 1901، 1902، 1908، والتقط خلالها صورا لمكة المكرمة.

ويعد عام 1924، وهو العام الذي ضمت فيه مكة المكرمة الى حكم الملك عبد العزيز بداية عهد جديد للبلد الحرام والعناية به وتأكيد تحقيق أمنه فأعلن الملك المؤسس القضاء على الرشوة والفساد والاستبداد، ووضع سياسته لتأمين الناس واستقرار الاوضاع وتطبيق الشريعة، فجاء خطاب الاول قبل دخول مكة: «اني مسافر الى مكة المكرمة مهبط الوحي لبسط أحكام الشريعة وتأييدها»، وقال في خطابه الأول بمكة المكرمة: «إني أبشركم بحول الله وقوته، ان بلد الله الحرام في اقبال وخير وأمن وراحة، واني ان شاء الله تعالى سأبذل جهدي في ما يؤمن البلاد المقدسة ويجلب الراحة والاطمئنان لها».

واستنادا الى ذلك فقد أخذ الملك عبد العزيز منذ حكمه لمكة المكرمة مباشرة ببعث الجنود للمحافظة على أمنها، ونظم أعمال الشرطة بقيام مجلس الشورى بوضع المواد الخاصة بها ووظائفها، واجتمع مع وفود القبائل لأخذ التعهد عليهم بالتزام الأمن وعدم التعرض للحجاج وأعلن نداء الى جميع المسلمين لاعلامهم باستقرار الأمن في الحجاز، والترحيب بقدومهم لأداء فريضة الحج، ضامنا سلامتهم وراحتهم بأمر الله، وعندما قامت بعض القبائل بقطع الطرق في عسفان بعث لهم سرية عسكرية لتأديبهم وأعلن منع حمل الاسلحة ونقلها في مكة المكرمة. وعكس مقال نشرته صحيفة أم القرى في عددها الخامس الصادر في التاسع من يناير من عام 1924، عن الأمن في الحجاز ماضيه وحاضره ومستقبله، عكس المقال الشعور بالأمن الذي تحقق على يد الملك المؤسس حيث ورد في المقال استدعاء الملك المؤسس رؤساء القبائل في الحجاز وقسّم عليهم طرق الحج وألزمهم بحفظ أمنها، وأمرهم بمنع التهريب في المناطق الساحلية، وقام مجلس الشورى بتشكيل لجنة للنظر في تنظيم جنود الشرطة ومعاقبتهم في حال مخالفتهم للنظام. وتتابعت العناية بالأمن في عهده محققة انجازات عظيمة لخدمة سكان مكة المكرمة وحجاج وعمار بيت الله الحرام مما أسهم بشكل كبير في زيادة وفود الحجاج لشعورهم بالراحة والأمن وازدياد عدد السكان، وهو ما تطلب زيادة رقعة النسيج العمراني، وزيادة عدد المرافق المخصصة لخدمة السكان والوافدين في البلد الحرام.

وكان ضم الملك عبد العزيز لمكة المكرمة الى حكمه منطلقا لتوحيد مختلف أرجاء الحجاز مما أثمر عن افادة البلد الحرام من واقع هذه الوحدة، حيث بدأت الوفود من رجال قبائله ومدنه بالتوجه الى الملك عبد العزيز معلنة الطاعة والانضمام الى وحدته وهي الوحدة التي شكلت منطلقا جديدا لعطاء الحضارة في شبه الجزيرة العربية.

وفي السابع من شهر يناير من عام 1926 عقد أهل الحجاز مؤتمرا ضم أعيان مكة المكرمة وعلماءها وأهل جدة ووجهاءها، وقرروا فيه باجماع الرأي مبايعة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملكا على الحجاز، وعرضوا عليه نص البيعة، فأجاب الطلب، وتم اجتماع الناس عند باب الحرم المكي الشريف في مكة المكرمة، ووصل السلطان عبد العزيز وتقدم الخطيب، وتلا نص البيعة على مسامع الناس الحاضرين: «بسم الله الرحمن الرحيم، نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود على أن تكون ملكا على الحجاز على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والسلف الصالح، والأئمة الأربعة رحمهم الله»، ثم أخذ عدد من الدول كالاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا وهولندا وسويسرا في الاعتراف بالملك عبد العزيز بوصفه ملكا على الحجاز وسلطانا لنجد وملحقاتها واستمر في أعمال وحدته الى ان تم ضم عسير ومدن تهامه نجران وجازان، وصدر مرسوم عام 1932م بتوحيد أجزاء المملكة، وان تسمى «المملكة العربية السعودية» ويكون ملكها ملك «المملكة العربية السعودية».

وبذلك أضحت مكة المكرمة ضمن وحدة سياسية وجغرافية شملت معظم ارجاء شبه الجزيرة العربية متخطية بذلك عوامل التفرقة السابقة، مستفيدة من معطيات هذا الوضع الجديد، الذي سهل على السكان التنقل والاتجار والتوسع في العمران وبدأت التجارة في التوسع مع مناطق نجد وعسير، مما عاد بمردود مادي أسهم في مرحلة التطور العمراني.

التجارة والحجاج موردا مكة

* ويذكر الدكتور عادل بن محمد نور غباشي من قسم الدراسات العليا التاريخية والحضارية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة في دراسته عن «مظاهر التطور العمراني لمكة المكرمة في عهد الملك عبد العزيز» انه يظهر من تتبع تاريخ التجارة بمكة المكرمة منذ عصر ما قبل الاسلام ان أهلها اعتمدوا على التجارة موردا اساسيا في الحصول على الأموال التي حققت لهم العيش في البلد الأمين، وكان من أهم أسباب نمو التجارة بها وجود الأمن وتأمين الحجاج واكرامهم، فإذا اختل أحد هذين الشرطين أو كلاهما تختل موازين التجارة ويشيع الغلاء، وتتجمد دورة رأس المال. وقد أدرك الملك عبد العزيز ذلك، فعمد الى تحقيق الأمن والعناية بالحجاج. وعمل منذ دخوله مكة المكرمة على توجيه قوافل الأغذية اليها، واصدر أمره على التجار بمنع احتكار البضائع لرفع اسعارها. مما لقي صدى طيبا لدى الاهالي الذين انتهزوا هذه الفرصة، وبدأوا في تكريس جهودهم لخدمة ضيوف الرحمن بشكل أفضل مما كان في العهود السابقة.

وانطلاقا من اهتمام الملك عبد العزيز بربط مكة المكرمة بالمناطق والمدن المجاورة لها، لتعود عليها بالنفع، فقد اهتم بإعادة فتح الطرق المؤدية اليها وعمل على تطويرها، فازدادت الحركة التجارية نشاطا وعمل عام 1926، على تشكيل لجنة من مجلس الشورى للنظر في أمور التجارة، وخفض الرسوم الجمركية على البضائع كالارز والدقيق، ومنح امتياز تسيير السيارات بين مكة المكرمة وجدة على ان يتم لاحقا تشكيل شركة مساهمة وطنية لها يشارك فيها المواطنون. ولم يكتف بذلك فنجده يقوم بجولات ميدانية لتفقد اسواق مكة المكرمة. فانعكست آثار تلك الأعمال خيرا على تطور الحركة التجارية بها. مما جعل أهلها يتجهون الى الافادة من تطور موارد البلاد في مجال الزراعة والثروة الحيوانية والصناعات البسيطة ثم المتقدمة.

وفي الفترة المعاصرة لأحداث الحرب العالمية الثانية التي احتدمت خلال الفترة 1939 الى 1945، عانت مكة المكرمة من نقص الواردات وقلة الموارد المالية، وتمكنت المملكة من اجتياز تلك المرحلة بكل ثقة إلى أن يسر الله اكتشاف البترول وتصديره بكميات إلى الخارج، فأثر ذلك على الحركة التجارية وتطورها، ولم يكن الأمر قاصراً على مكة المكرمة، وإنما شمل مختلف مدن المملكة، فبدأت الواردات تزداد عما كانت عليه من قبل، وبدأت حركة رأس المال في النمو، لوجود السيولة النقدية الخاصة بالصرف على مصالح الدولة وعلى إقامة المشاريع، فنهضت التجارة بمكة المكرمة لدرجات لم تصل إليها من قبل، وكان من آثار ذلك نمو الأعمال التجارية والمنجزات الصناعية لتشمل تجارة الساعات والحلي والمواد الغذائية ومزارع الدواجن، وظهور البنوك. ونتج عن ذلك تطور عمراني في البلد الحرام. توسع بعد ضيق

* قدم إبراهيم رفعت الذي حج سنة 1907 تحديداً تقريبياً لمساحة مكة المكرمة في عهده بقوله: «مكة.. طولها من الشمال إلى الجنوب ميلان، وعرضها شرقاً من جبل أبي قبيس إلى أسفل جبل قعيقعان من الغرب ميل واحد، ويقطع الماشي طولها في نحو نصف ساعة، ومع كون عرضها دون طولها يقطع في زمن أكثر مما يقطع في الطول، وذلك لوجود أماكن على تلال في كل من جانبيها».

ومع نهاية العصر العثماني يرجح أن عمران مكة المكرمة قد تخطى منطقة بئر طوى إلى ما يعرف حالياً بالبيبان.

وبالنظر إلى ذلك على خارطتي مكة المكرمة التي أعدت إحداهما عام 1881 والأخرى عام 1948 يظهر أن النسيج العمراني بمكة المكرمة قد زادت سعته في عهد الملك عبد العزيز، حيث أخذت المدينة في الامتداد عبر بطون الاودية والشعاب، وازداد العمران في سفوح الجبال، وبدأت المساكن تعم حي المعابدة إلى الأبطح ووادي الصدر في الجهة الشرقية، ويبرز فيها قصر المعابدة الملكي وقصر الأمير (الملك لاحقاً) فيصل بن عبد العزيز، وفي الجهة الغربية امتد النسيج العمراني ليشمل أحياء جديدة لتشمل منطقة جبل الكعبة، والتنضباوي، والهنداوية، أما في الشمال فامتد العمران لتخطي ريع الكحل وصولاً إلى منطقتي الزهراء والشهداء، وبرز فيها مستشفى الملك عبد العزيز، ودار الضيافة، وبستان الشهداء، وفي الجهة الجنوبية عم العمران المسفلة وشمل الجبال المطلة على أجياد، وبدأت تظهر على الخارطة شوارع المدينة بشكل واضح يبرز تطورها في العهد السعودي عما كانت عليه الحال من قبل.

وقد تحدث السرياني عن ملامح ذلك التطور بقوله: «لقد كانت المدينة المقدسة خلال هذه الفترة مثلا للمدينة الإسلامية التي تلتف حول مركزها الديني (الحرم الشريف)، وعرفت بأزقتها العتيقة الضيقة التي تصب من جميع الجهات في اتجاه المسجد الحرام، إضافة إلى الأسواق التي انتشرت من حول الحرم لخدمة الحجاج، ولكن حدودها لم تشهد توسعاً كبيراً عما كانت عليه في السابق، غير أن ملامح التغيير بدت واضحة، فلقد أدى ظهور السيارات في مدن المملكة عام 1927 إلى توسيع الطرق الرئيسة خصوصاً في مكة المكرمة التي أصبحت تقصدها قوافل السيارات المستمرة، خصوصاً في أيام الحج، مما دعا إلى توسيع كثير من الطرق الرئيسة، إضافة إلى بدء السكان في تعمير الأراضي الخارجية للمدينة بدلا من التكدس في الحارات القريبة من الحرم، التي ضاقت بالكثافة السكانية العالية. وتبع هذا الانتشار السكاني انتشار كثير من المدارس في أنحاء مكة المختلفة سنة 1925 إضافة إلى ظهور مساجد الأحياء، وإنشاء المستشفيات العصرية لرعاية السكان والحجاج، كما كان لظهور الإسمنت والخرسانة المسلحة أثر كبير في ظهور الكثير من القصور والفلل الراقية في أطراف المدينة.

وتحدث الفارسي عن مظاهر التطور العمراني في ذلك العهد بقوله: «نمت مدينة مكة المكرمة في الاتجاهات التي لا تعترضها جبال، من خلال الفتحة المعروفة بجبل الكعبة إلى حارة الباب وجرول في اتجاه الشمال الغربي، ومن خلال المعلاة إلى السليمانية والحجون والجميزة والمعابدة في الشمال الشرقي، وإلى المسفلة في الجنوب. وكانت عمارة البيوت في هذه الأحياء امتداداً للعمارة القديمة، واتباع أساليبها وخاماتها من أحجار الجبال والطين المنجرف مع السيل، وكانت الأحياء الجديدة ـ في ذلك الوقت ـ امتداداً لتخطيط الحارة واستعمالاتها والواجهات المنكسرة عليها، وكانت اتساعات الأزقة بما يكفي لمرور الجمال أو الحمير في اتجاهات مطالع الجبال». وشهدت الفترة من عام 1955 الى عام 1964 بدايات التخطيط بالمعنى المبدئي، وورود عمال فنيين من خارج المملكة، وظهور أنماط مستوردة من العمارة مخالفة للعمارة القديمة المتوارثة، وقد شهدت هذه المرحلة ظهور أحياء جديدة في الناحية الغربية والشرقية والجنوبية وهي الأحياء المعروفة حالياً بالأسماء الآتية: الطندباوي والملاوي وامتدادات المسفلة إلى الجنوب. وقد شهدت هذه المرحلة ظهور الشوارع المتسعة والعمارات متعددة الأدوار ذات البلكونات، واستعمال الأدوات الصحية والمواسير بدلاً من نظام القصبة، وكذلك مواد البناء الجديدة، الأسمنت والطوب الأسمنتي أو المحروق.. وشهدت هذه الفترة أيضاً ظهور طراز خاص من العمارة القديمة في تغطية الفتحات بالخشب، واستعمال العقود على الفتحات والأبراج بديلاً عن البلكونات، بالإضافة إلى استخدام المواد الحديثة من الأسمنت والجبس والتحليات بالزهور والورود المرسومة، كما استعيض في بعض المباني عن الخشب في ستر شرفات البلكونات بتحليات من الجبس المشغول بفتحات، واستخدم في بعضها نظام القصبة وفي بعضها الآخر نظام الصرف الصحي الحديث. ومن أمثلته بيت البوقري عند مدخل مكة المكرمة من ناحية جدة وبيوت أخرى منتشرة في العتيبية والمعابدة والزاهر وأجياد والقرارة.

عمارة في كل مكان

* حظيت المشاعر المقدسة في مكة المكرمة وما حولها: عرفات ومزدلفة ومنى والمسعى بعناية عظيمة، علاوة على العناية بالطرق التي تصل ما بينها ويعد رصفها وتعبيدها وتهيئتها للسكان والوافدين من أهم وسائل تسيير الحياة في البلد الحرام فقد حظيت عرفات بعناية كبيرة، وظهر ذلك في الاهتمام بتخطيطها، وتوجيه حجاج بيت الله الحرام يوم الوقوف إلى النزول بها في أماكن محددة، لتسهيل معرفة منزل كل فريق، وتنظيم مرور الناس ومنع تزاحمهم، وهو يتضمن أيضاً تحديد مسار شوارعها. أما مزدلفة فقد تم إصلاحها وتعبيدها مع عرفات ومنى، حيث تمت معاينة حاجتها إلى الإصلاح والإعمار، ورفع تقرير عنها إلى جلالة الملك عبد العزيز عام 1942، فأمر بدفع مبلغ سبعين ألف ريال سعودي من حسابه الخاص، للبدء في إعمار المشاعر المقدسة. وقد تحقق ذلك. وفيما يخص منى، فقد أمر الملك عبد العزيز عام 1929 بفتح أربعة شوارع فيها، منعاً للازدحام إيام الحج، ووجه إلى أن يخصص أحدها للمشاة، وآخر للشقادف (التي تحمل على الجمال)، وثالث للبهائم، ورابع للسيارات والعربات، وقد تمكنت أمانة العاصمة من تنفيذ المشروع، وتمت تسمية أحد الشوارع الجديدة في منى باسم الملك عبد العزيز، كما توالت أعمال الإصلاح والتطوير في منى وكان منها توجيهه، روادا للكشف عن أماكن صالح لفتح طريق واسع يربط مكة المكرمة بمنى وعرفات إضافة إلى الطرق المعروفة، ويمر من خارج منى منعاً للازدحام الشديد الذي كان يحصل في الطرق القديمة. وفي سنة 1938م أعلنت أمانة العاصمة المقدسة عن الرغبة في تعمير الأماكن الخربة في منى، ووجهت أصحاب تلك الأماكن إلى الاهتمام بتعميرها خدمة لحجاج بيت الله الحرام، وأعدت لجنة لمتابعة ذلك، والكشف على تلك الأماكن كافة، وتحديد خرابها ونفقات ذلك.

ونشر في صحيفة ام القرى عام 1947 خبر عن عناية الحكومة بالطرق الرئيسة للحج جاء فيه: «يعرف الجميع مبلغ اهتمام الحكومة براحة حجاج بيت الله الحرام، وعمل كل ما يوفر لهم أداء مناسكهم في رفاهية ودعة، ومن أول ما فكرت الحكومة في مستهل هذا العام، العناية بالطرق الرئيسة للحجاج، وأهمها على الإطلاق طريق عرفات الذي لا يستغني عن سلوكه وارتياده كل حاج قادم إلى هذه البلاد. لذلك فقد قررت الحكومة في هذا الصدد بعض المشاريع المهمة، وفي مقدمتها فتح طريق فرعي لمرور السيارات الخالية بين مكة وعرفات، وإكمال تعبيد مدرج منى الذي عمل من قبل، وهو المدرج الواقع خلف الجمرة الكبرى ورصفه بالأسفلت وتمشية ذلك إلى مسافة كبيرة، وفتح شوارع فرعية في عرفات، ورصفها بالأسفلت على ألا يقل عرض الشارع الفرعي عن 18 متراً، وسيكون من فوائد هذه الشوارع تنظيم الخيام، والإقامة والحركة في عرفات، بحيث يسهل الكثير من وسائل الراحة، والتنقل، والارتياد في ذلك الوادي الفسيح الذي يضم يوم الحج ألوف الحجيج، وما يصطحبهم من أدوات الركوب من دواب وسيارات وغيرها».

وأوضحت هذه الصحيفة في عام 1952 جانباً من ملامح أعمال التطوير والإصلاح في عرفات ومزدلفة ومنى بما نصه: «في عرفات: إنشاء خط رئيس جديد مسفلت بعرض تسعة أمتار من عرفة ماراً بالأخشبين فمزدلفة فمنى، وذلك ليكون مخصصاً فقط للسيارات المحملة النازلة من عرفات بعد النفرة (وتم) إكمال الطريق المسفلت ابتداء من منتهى الازفلت حتى مقهى عرفات منحرفا شمالا فغربا الى ان يتصل بالاسفلت فيما دون جبل الرحمة، مع اصلاحه في كافة جوانبه ونواحيه اصلاحا تاما، وذلك ليكون مخصصا فقط لمرور السيارات الخالية العائدة الى عرفات من بعد النفرة. (وتم) احداث وعمل الطرق الفرعية اللازمة في ساحة عرفات نفسها، وسفلتتها كلها، وذلك لتسهيل اتصال جميع هذه الطرق الفرعية المتقاطعة بالطريق الرئيسي العام.

وفي مزدلفة: سفلتة جميع هذه الطرق الفرعية المتقاطعة، لتسهيل اتصال كل منها بالطريق الرئيسي العام.

وفي منى: فتح طريق من الجبل الواقع خلف جمرة العقبة بمنى، وذلك لايجاد وتسيير طريق خاص بالذاهب للرمي وطريق خاص بالعائد بعد الرمي وتم سفلتة الشارع العام بمنى».

ويظهر مما سبق مدى العناية والتنظيم التي حظيت بها مشاعر عرفات ومزدلفة ومنى ومنهج التفكير في استغلال الطرق لوظائف محددة.

أول رصف للمسعى في التاريخ

* من المعروف أن هذا الشارع العظيم الممتد من الصفا الى المروة من شعائر الله وبذلك فقد شكل هذا الشارع اهمية كبيرة للمسلمين، نظرا لسيرهم على ارضه، وقد رأى الملك عبد العزيز ان رصف هذا الشارع سيحقق الراحة للمسلمين في ادائهم لشعيرة السعي، فأمر في سنة 1926 بتنفيذ ذلك، وتشكلت لجنة لهذا الغرض، وأوصت بأن يكون فرش شارع المسعى بالحجر الصوان المربع، وأن يبنى بالنورة وعلى هذا ابتدأ العمل بهدم النواتئ التي كانت على ضفتي شارع المسعى، ثم عملوا في الرصف وأتموه في السنة نفسها التي صدر فيها الامر. وبذلك اصبح شارع المسعى في غاية الاستقامة وحسن المنظر، واستراح الناس من الغبار الذي كان يثور نتيجة سير الناس على التراب، فكان هذا أول شارع رصف بمكة المكرمة، وأول رصف للمسعى من الصاف الى المروة منذ فرض الله تعالى على المسلمين الحج. وكان الملك عبد العزيز أول من اهتم برصفه.

وفي سنة 1947 أمر الملك عبد العزيز بتجديد سقفية المسعى بصفة محكمة لتقي المسلمين حرارة الشمس، وقد تم انجاز ذلك العمل وسجل تاريخه في نقش كتابي على نحاس طوله اربعة امتار وعرضه متر واحد.

ونظرا لأهمية الطرق الداخلية وتعبيدها لتسهيل مرور الناس من الاهالي والوافدين في البلد الحرام، فقد ظهرت العناية بذلك منذ السنوات الأولى من حكم الملك عبد العزيز في مكة المكرمة، كما ظهرت الحاجة عام 1927 الى العناية بالطريق الممتد من جرول الى المعابدة وذلك بازالة النواتئ والدكاك والمظلات التي اقامها الناس بتعديهم على طريق المسلمين: مما تطلب تبني قرار بازالة التعديات كافة عن الشوارع بتدرج.

وهذا ما يسهم في توسعتها ويسهل مرور الناس عبرها. وقد تتابعت الاعمال في ذلك وكان منها عام 1927م ازالة الدكاك والمظلات البارزة عن سمت الشارع الرئيسي في القشاشية وسوق الليل. ومنها عام 1929م وعام 1938.

وتواصلت اعمال الاصلاح والتجديد والتطوير في شوارع البلد الحرام والطرق المؤدية اليه: لتشمل التعبيد والتوسيع والرصف والانارة والتشجير وفتح طرق. ففي 10 يوليو (تموز) 1925 وردت الاخبار بوصول سيارة الى مكة المكرمة قادمة من رابغ، مما يشير الى احتمال قيام اعمال لتسهيل الطريق. وفي يناير 1927 تم الاعلان عن الفصل بين خط سير الجمال وخط سير السيارات بين مكة المكرمة وجدة وذلك بتخصيص مسار لكل منهما. وفي العام ذاته تم الانتهاء من اصلاح الطريق بين مكة المكرمة والطائف وبدأت السيارات في السير عليه دون مشقة. وفي العام نفسه ايضا تتابعت اعمال اصلاح وتعبيد طريق مكة المكرمة ـ جدة. ثم صدر امر الملك عبد العزيز متضمنا الاسراع في اصلاح طريق العبادي لراحة حجاج بيت الله الحرام وهم في طريقهم الى عرفات وتواصلت الجهود لصلاح طريق خاصة لسير السيارات، وهي في طريقها من مكة المكرمة الى العمرة. ونتيجة للخراب الذي اصاب طريق مكة المكرمة ـ الطائف في موضع بين الشرائع والسيل، فقد لقي الناس مشقة وتعبا عظيمين، مما تطلب الاسراع في اصلاحه وتعبيده تأمينا لراحة المسافرين، وقد تحقق ذلك عام 1931، وأصبحت السيارات تسير عليه بكل يسر وسهولة.

ونظرا لأهمية الطريق بين مكة المكرمة وجدة في تنقل سكان بلد الله الحرام والحجاج والزوار، فقد تواصل العمل في اصلاحه وتعبيده، وكان من ذلك ما تحقق في شهر ديسمبر من 1932، وفي عام 1932 تم افتتاح الطريق بين مكة المكرمة وأبها من خلال بيشة واصلاح طريق السيل ـ الزيمة بعد تأثره من السيول، وفي عام 1937 تم اعداد مشروع لتخطيط مكة المكرمة، وطبيعي ان يكون ذلك منطلقا لاعمال الاصلاح والتطوير في شوارعها التي نالت اعمالا اصلاحية عدة، منها اصلاح الطريق بين باب مكة المكرمة الى جرول واصلاحات اخرى في الطريق عام 1945 وتم افتتاح شارع الامير فيصل الذي قامت ببنائه مديرية الاوقاف العامة عام 1946.

تطوير المسجد الحرام نظرا للتوسع في امتداد رقعة النسيج العمراني والعناية بالشوارع لمواجهة زيادة الكثافة السكانية من المواطنين والوافدين على البلد الحرام، فقد تطلب ذلك قيام اعمال تطويرية لاعمار المسجد الحرام وتوسيعه واعمار وزيادة عدد المساجد في الاحياء، علاوة على العناية بالمرافق العامة مثل: المياه والمؤسسات الحكومية وتوفير الفنادق لاستقبال الوافدين من الحجاج والعمار.

وقد بذل الملك عبد العزيز جهدا كبيرا في سبيل تحقيق ذلك واصدر امره عام 1925 باعادة الطلاء في بناء المسجد الحرام، واصلاح كل ما يقتضي اصلاحه، ثم امر عام 1927م بعمل مظلات قوية ثابتة مجاورة للاروقة المطلة على صحن المطاف وأمر باجراء اعمال الترميم والاصلاح التي استمرت بتتابع الى وفاته عام 1953.

وأولى مرافق المياه عناية كبيرة، فجدد بناء قنوات المياه، وتبرع من ماله الخاص، ووجه رجاله الى اعمار قناة عين عرفة (زبيدة) في المنطقة الممتدة من وادي نعمان الى عرفات والعزيزية، ثم باقي احياء مكة، كما انشئت المستشفيات والمستوصفات والمؤسسات الحكومية لتقديم الخدمات التي كانت منها مراكز الشرطة. وقد لقيت تلك الاعمال التطويرية لعمران البلد الحرام قبولا لدى الاهالي والوافدين، فجاءت صحيفة أم القرى بالكثير من اخبار ذلك ونشرت بها مشاهدات الكتاب، وكان منها ما ورد عام 1926 ممثلا للمرحلة المبكرة من حكم الملك عبد العزيز للحجاز. وقد تضمن ذلك استعراضا لبوادر الاصلاح وبيانا لجهوده في العناية بانعاش البلاد وطرقه لوسائل العمران كافة وأمره بتأسيس المدارس وتحسين الحالة الصحية ورصف الشوارع واصلاح طرق السيارات وغيرها من الاعمال والمشاريع التي تشهد شهادة بينة بأن جلالته قد وفق في وضع اقوى اساس لانطلاقة النهضة العمرانية التي ينبغي ان تكون مثالا حسنا لكل نهضة في جزيرة العرب.