جيوفاني سيزيا يلملم من الماضي نتفاً ويغزلها فناً

يعرض أعماله في غاليري عايدة شرفان في بيروت

الكاميرا من اكثر المواضيع التي أبرزها جيوفاني سيزيا
TT

شيء من الحنين الى الاشياء القديمة، وشيء من الشغف بالالوان الدافئة. وكثيرةٌ كثيرة هي الأشياء التي يشعر بها المرء لدى زيارته معرض الفنان الايطالي جيوفاني سيزيا الذي يحلّ ضيفا للمرة الثانية في وسط بيروت في غاليري عايدة شرفان في غضون اربعة اعوام.

قبل اجتياز العتبة يدرك الزائر ان المعرض ليس عاديا وان ريشة الفنان لا بدّ وأنها تتمتع بفرادة استثنائية، والا لما نجحت في جعل الزوار يخصصون وقتا لتأمل اللوحتين المعروضتين في الواجهة ايضا.

نحن هنا امام 16 عملا من مقاسات مختلفة، يجمع بينها سحر البني الداكن ورونقه الدافئ وتدرجاته الترابية وتناقضه الواضح مع خلفيات اللوحة او محاورها ذات اللون الاحادي، البيج او الذهبي. حتى ان الخلفيات تحوّلت في بعض اللوحات مسرحا للعبة الظلال وحضور الضوء الخفِر.

هذا التناقض في لعبة الالوان يضفي اطلالة «مهيبة» على المشهد العام. إنها الاطلالة التي تليق بالماضي الغابر المكتنز بالذكريات. ذلك ان المواضيع التي تمحور عليها عمل سيزيا تنتمي الى حقبة الاربعينات أو الخمسينات. حقبة حافلة باللحظات التي يحن اليها المرء. آلة كاتبة وكاميرات ذات عدسات كبيرة وحذاء شبه مهترئ والكمان والكرسي الصغير والدراجة ذات الاطارات الثلاثية وغيرها من الاشياء الخاصة التي يصعب على المولعين بها ان يتخلّوا عنها بسهولة وإن اجتازها الزمن. انها ببساطة الاشياء التي فُقدت. هذه الاشياء «نبشها» سيزيا وأخرى بحث عنها، لاحقها، التقطها صورا بألوان الـ«سيبيا» وجمالها المصفر وكبّرها، ثم راح يصبغها بريشته ليعطّرها بعبق الماضي ودفئه. ربما لذلك اعتزل الالوان و«اختلى» بالبني حتى بتنا أمامه مدمنين صرامته وحميميته المتساكنتين في كل عمل. هذه التقنية، أي تصوير بعض مقتنياته التي تتمتع بهوية ما، ثم خطّها بضربات ريشة تحنّ الى الماضي تلاحقه، تطارده مع كل لمسة، ثم إضافة كلمات وجمل غير مقروءة وبالاحرف اللاتينية في «هوامش» اللوحة أو في وسطها أو خلفياتها، أمر يستحق التقدير من دون شك. والجديد ان تناغم البني والبيج مع الخلفيات الذهبية لم يفوّت على الفنان «التقاط» البُعد الحقيقي للوحة التي لطّخها بمشحة من الصدأ المخضرّ.

لنعد الى الموضوع الاساسي، ذاك الولع بفن الفوتوغرافيا الذي يتجلى من زوايا مختلفة. فإما ان تشكل الكاميرا موضوع اللوحة مرارا، وإما ان يضيف الفنان مسحة استثنائية وخجولة من الأحمر أو الازرق في مكان ما. وهنا الاحمر دليل احتراق الصورة السلبية (negative) أثناء عملية التظهير بسبب تسرّب الضوء اليها. وفي كل الاحوال هنالك ارقام في اعلى اللوحة أو أسفلها.

لوحات متنوعة في «اشيائها»، موحدة في حقبتها ومثيرة للاهتمام رغم الطابع الاحادي. غريب امر هذا الفنان كيف نجح في جذب من يملّون التكرار لناحية الالوان والمشاهد وإن اختلفت المواضيع. فهنا لا يمكن الزائر، ولاسيما اذا كان من المولعين بتفاصيل الماضي وتحديدا بتلك الحقبة، ان يملّ. لا بل إن التنقل في معرض من هذا النوع يبعث على الارتياح، فللمرة الاولى أختبر معنى ان يتنشق المرء لوحة بملء العينين. حتى ان هناك لوحة تأملتها اكثر من مرة فيها كاميرا تتمتع بمنفخ (سوفليه). من المؤكد انها كانت من افضل آلات التصوير في ذاك الزمن. وكاميرا اخرى تثير عدستها الفضول، فضول الاطلاع على ما في داخلها، على ما خلّدته من ذكرى لحظات هاربة الى غير عودة. وفي لوحة «ملتقطة» في محترف هناك 3 محابر من مقاسات مختلفة وفيها ريشات لا شك انها تعبة من فرط ما سال من ألوان على الصينية التي وضعت عليها المحابر. لعلّه اراد الايحاء ان المشهد «منبوش» من شريط الذاكرة للدلالة على ان المكان، ولو انه في الماضي، لكنه لم يكن متروكا مهملا. فثمة آثار «طرية» لزجة لفنان كان هنا.

لعلّ بيئة هذا الفنان الايطالي التي تجلّ الماضي وتحترمه، لعبت بطريقة ما دورا في تعزيز ميوله ونزعته نحو تطوير هذا النوع من الفنّ. فـ«كم من الاموال تنفق لترميم الأبنية في روما»، تقول السيدة شرفان لـ«الشرق الاوسط».