احتجاجات على معرض للصور في المكتبة التاريخية لبلدية باريس

هل كان الباريسيون سعداء حقا تحت الاحتلال النازي؟

جانب من الأعمال التي ستعرض («الشرق الأوسط»)
TT

بعد أكثر من اسبوعين على افتتاحه في المكتبة التاريخية العائدة لبلدية باريس، ارتفعت أصوات تحتج ضد معرض للصور الفوتوغرافية بعنوان «الباريسيون تحت الاحتلال»، التقطها المصور أندريه زوكا، المراسل السابق لمجلة «باري ماتش» وصحيفة «الباريزيان»، بحجة أن تلك الصور دعاية نازية.

تعكس الصور ملامح كثيرة من الحياة اليومية في العاصمة الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية وسنوات الاحتلال النازي. ويرى المحتجون أن اللقطات المأخوذة في الحدائق العامة ومدن الملاهي وشرفات المقاهي تقدم للمشاهد انطباعاً بأن الناس سعداء والمدينة لا تعاني من وجود قوات ألمانية محتلة فيها.

وتقف وراء الاحتجاج جمعيات أوساط يهودية تأخذ على زوكا أنه كان متعاوناً مع النازية وأنه المصور الوحيد الذي أعطيت له أفلام ملونة لتصوير باريس لحساب الألمان. وقد استخدمت تلك الصور لأغراض دعائية ونشرت في مجلة «سينيال» التي أنشأها غوبلز، وزير دعاية هتلر، عام 1940 للترويج للجيش النازي.

ويدعم المحتجون رأيهم بالإشارة الى أن هناك صورتين فقط يبدو فيهما مواطنون فرنسيون يهود يحملون على ثيابهم النجمة الصفراء، من مجموع 270 صورة يضمها المعرض. وكان المحتلون الألمان قد فرضوا على جميع اليهود خياطة أو تعليق نجمة سداسية صفراء اللون على صدورهم لتمييزهم عن الآخرين.

أما القائمون على المعرض فقد وزعوا منشوراً يقول إن صور أندريه زوكا ظلت على هامش الدعاية النازية ويبدو أنها لم تعرض من قبل. كما أن سلطات الاحتلال استدعته، عام 1941، وفرضت عليه القيام بهذا العمل ولم تسمح له بالاحتجاج. وكان من الطبيعي أن يتعرض زوكا، بعد التحرير، للمضايقات بسبب عمله مع الألمان، وألقي القبض عليه في خريف 1944 لفترة وجيزة، وعلى إثر ذلك غادر باريس الى بلدة درو حيث عاش تحت اسم مستعار لحين وفاته. وخلال ذلك قام بتبويب الصور التي تعتبر اليوم شهادة نادرة على زمن صعب.

ورغم وصمة التعاون مع المحتل، لا ينكر النقاد الموهبة الكبيرة التي تمتع بها زوكا ولا القيمة الفنية العالية لأعماله. وعرف عنه أنه كان يستخدم كامرتين، واحدة للتصوير بالأسود والأبيض من نوع «رولفليكس» والثانية للتصوير بالألوان من نوع «لايكا»، مزودة بعدسات ممتازة. أما حساسية الفيلم فلم تكن تتجاوز 16 آزا. ويمكننا مشاهدة صور متحركة التقطها زوكا في الشارع بدون أن يظهر عليها أي ملمح من ملامح عدم الوضوح «فلو». أما ألوان الصور المعروضة فقد تعرضت للتصحيح في المختبر لعادتها الى رونقها الأصلي.

وعدا عن القيمة التاريخية لهذه اللقطات، فقد كان واضحاً أن الألمان أرادوا من خلالها أن يقدموا باريس في هيئة المدينة السعيدة التي يمارس أهلها أعمالهم وحياتهم اليومية بدون منغصات. وهناك صور لمتنزهين في حديقة «اللوكسمبور»، بينها واحدة لثلاث شابات مبتسمات تضعن على وجوههن عوينات شمسية ذات إطارات بيض، وفق أحدث موضة في تلك الأيام. لكن المشاهد قد لا يتوقف كثيراً أمام تلك الصور بقدر ما تشده صورة أب خائف يعبر جسراً مع طفليه الهلعين ووراءهم عربة تنقل أثاثهم الى مكان مجهول. بل إننا إذا دققنا في الوجوه فإن من النادر أن تلمح سحنات مبتهجة حقاً، وإن كانت هناك لقطات لعشاق يسيرون متعانقين أو يتقاسمون سلة من الكرز. كما لو أن المصور أراد أن يقول، بالقدر المسموح به من التعبير المراقب، إن الحياة أقوى من الموت وإنها تستمر رغم التعسف.

وفي كتاب صادر للباحثة فرانسواز دونوييل نقرأ أن حكومة «فيشي» التي نصبها الاحتلال كانت من أكثر الحكومات إدراكاً لأهمية الصورة في الإعلام وضرورات استخدامها في الدعاية السياسية الموجهة. وكانت صور رئيس الحكومة الماريشال بيتان تنتشر في أرجاء العاصمة والصحف تركز على جولاته وتنقلاته اليومية، اسوة بما كانت وسائل الإعلام الألمانية تنشره عن هتلر. وفي تلك الفترة ولدت عبادة الشخصية، الهواية التي شغف بتطبيقها زعماء كثيرون في أرجاء العالم.

ورغم الاحتجاج، ليس من المتوقع أن ترفع هذه الصور من مكانها لغاية الأول من يوليو (تموز) المقبل، موعد اختتام هذا المعرض الذي يسمح لزائره بأن يرى باريس بالألوان، في حقبة طغى عليها الأسود... والأبيض.