فن اجترار الذكريات

بين الفن والاقتصاد في عالم المصمم الياباني موراكامي

الغرفة الرئيسية من المعرض وتبدو فيها أهم الأعمال التي تميز الفنان موراكامي («نيويورك تايمز»)
TT

من كان يتوقع أن يكون أول محال المصمم العالمي لوي فويتون في بروكلين هو ركن في معرض تقيمه واحدة من أعرق المؤسسات الفنية؟ ولكنها حقيقة فها هي أعمال الفنان تاكاشي موراكامي بلمعانها وبريقها وما تتميز به من تمازج وطابع مصقول تتواجد في متحف بروكلين. والسيد موراكامي الذي يلقب بآندي وارهول الياباني هو رجل يجيد التلاعب بالوسائل البصرية والأدوات الفنية والنماذج العملية. سوف يبيع المحل حقائب ومحافظ وكماليات أخرى من ماركة فيتون تحمل توقيع موراكامي ذي هيئة عيون السمك، أو ثمار الكرز الحمراء أو زهور الكرز الوردية طوال فترة إقامة المعرض.

كان القائمون على حماية أصالة المتحف قد أبدوا سخطهم على محل موراكامي فيتون عندما شارك لأول مرة الخريف الماضي في متحف الفن المعاصر في لوس آنجلوس والذي قام بتنظيمه بول شيمل أمين المتحف. تلخص النقد الذي وجه إلى المتحف في خلطه بين المعروضات العملية وغير العملية.

لكن في الواقع يعتبر هذا الأمر مفتاحاً لحل سر فن موراكامي، وكذلك يحمل العديد من الأسئلة التي تدور حول مزجه بين الفن والاقتصاد، وعما إذا كان فنه هذا رفيع المستوى أم وضيعاً، وعما إذا كان هذا الفن يستهدف أن يكون صيحة عامة بين الناس، أم هو حرفة ناتجة عن إبداع فردي من نوع خاص، إن التمازج هو السر. إن محل فيتون يعتبر أيضاً أحد أهم عناصر المعرض والذي بالقطع كما كانت له مميزات كانت له عيوب. كانت الحقائب بلونها النحاسي اللامع الذي يتناسب معها تماماً بالتمازج مع اللون الأبيض المطلي بالمينا تعرض لحالة فنية تعلي من دور المؤثرات البصرية التي لا يكون تحكم موراكامي فيها تاماً دائماً.

كان موراكامي الذي نشأ في كنف والدين غرسا في نفسه الفن الغربي قد درس أسلوب نيهونجا في الرسم، وحاول أن يعمل في مجال الرسوم المتحركة قبل أن يقرر العمل كفنان ينتهج المنهج المعاصر. ومنذ ذيوع صيته في تسعينات القرن العشرين كان موراكامي يعتبر أحد أتباع مذهب وارهول، برغم خروجه عن النص من خلال إثراء الجو الفني السائد والاقتراض منه وكذلك من خلال التفوق عليه وتغييره، ولهذا فعلامة “©Murakami.” لم تأت من فراغ. ولعل الأمر سيغدو أكثر إثارة للاهتمام عند مقارنة موراكامي بمصممين يدويين آخرين من أمثال لويس كمفرت تيفاني أو وليام موريس. فموراكامي يدير شركة تتجاوز شهرة أعمالها البحار، والتي هي شركة كاياكي كيكي (تعني كلمة كاياكي كيكي شيئاً يجمع ما بين الأناقة والغرابة)، وهذه الشركة تقوم بانتاج أعماله الفنية والمنتجات المساعدة لها. وحالياً يعمل في هذه الشركة ما يقرب من 100 فنان ومختص بالرسوم المتحركة وكاتب وحرفي. ولهذه الشركة مكتب في طوكيو واستديوهان في ضواحيها، وواحد في مدينة لونج آيلاند وواحد في مدينة كوينز. وبالطبع ينتمي موراكامي إلى طائفة قديمة من الفنانين اليابانيين التقليديين الذين كانوا ينتهجون ذات النهج مع اللوحات المطبوعة والرسم على السيراميك وفن الخط والصناديق المنقوشة والتي تعتبر الطراز الأقدم من حقائب فيتون.

يستوحي موراكامي موضوعاته من ديزني ودالي ومن فن البوب ومن الرسوم المتحركة اليابانية ومنحوتات الماجنا ( أعمال فنية ساخرة ). إن مجموعة أعماله التي تتنوع ما بين منحوتات لكائنات لطيفة وأخرى مثيرة للغرائز وأساليب للتزيين المعماري وتماثيل ورسوم المتحركة وورق حوائط تهيئ جواً شديد التشوش والذي يتجاوز كونه لمحة مظلمة.

وأحد الأمثلة على هذا، الزحام المصطنع بين الزهور اليانعة الباعثة على السعادة الذي يتكون نتيجة للتمازج بين ورق الحائط والرسم وأحد التماثيل الموجودة في معرض فني. تبدو الزهور ببتلاتها المتوزعة كوجوه ضاحكة، وهو الأمر الذي يزيدها جنوناً ويزيدها جمالاً. إن هذا النموذج يحقق هدفين من الأهداف التي يرمي موراكامي إليهما من وراء فنه وهما كما ذكرهما «أن يجعل الفن عقلك خالياً ويتركه وقد حدثت به فجوة هي الفترة الزمنية التي تعرض فيها للعمل الفني».

الكثير من الشخصيات التي يبتكرها السيد موراكامي تظهر في عدد كبير من الألعاب وعلى القمصان والأقلام والملصقات التي تنتجها «كاياكي كيكي». الكثير منهم للعرض (وليس للبيع) في طابق يقع تحت بوتيك فويتون. يغطي السلم الذي يربط بين الاثنين ورق حائط عليه الجماجم الشبيهة بعش الغراب، ولكن يعرض كل ما هو موجود في «كاياكي كيكي» للبيع في محلات الهدايا. يبدأ العرض بعمل فني يعود لعام 1991، ولكنه لم يسدل عنه الستار إلا في أواخر التسعينات، وهو يوضح أن موراكامي الذي يبلغ الآن 46 عاما موهبة عظيمة وأنه يتعلم الكثير في وقت بسيط. ومن المثير أن أغلبية الأعمال البارزة لموراكامي كانت بعد عام 2001، العام الذي بدأ فيه العمل مع فيتون. المحور الأساسي للعرض هو شخصية السيد دوب ولكن بعد إدراج تغييرات عليها، تعبر هذه الشخصية الشبيهة بميكي ماوس عن شخصية موراكامي. (كلمة دوب هي مختصر في اليابانية لكلمة «لماذا» ـ السؤال الأبدي المرتبط بوجود البشر). يظهر السيد دوب هنا كبالون ضخم يوشك على الانفجار تهدده نباتات عش الغراب الزاهي على أرضية شبيهة بالحجر اللوحي. شخصية أخرى هي الساحر «تونكاري كون» الذي يبلغ طوله 23 قدما وهو عبارة عن مخلوق فضائي غريب على عرش من اللوتس يحيطه أربعة حراس يتحكمون في بهو المتحف. توحي التصاميم المعقدة الخاصة به والألوان الكثيرة بخليط من السريالية وآرت نوفو والكيمونو الياباني. ومما كان له نصيب أكبر من الاهتمام هو فيلم رسوم متحركة جديد ابتكره موراكامي ورفاقه في «كاياكي كيكي». «وضع البذور» هو عمل كلاسيكي نجومه هو كاياكي وكيكي. ويظهر الاثنان كروحين يرتديان بيجاما فضفاضة ربما تكون مستوحاة من السيد دوب. سافر الاثنان في العالم عن طريق سفينة فضائية تعطي معنى جديدا لمصطلح «الأمومة». وبأسلوب جميل للغاية يحفوه الاحترام الياباني للطبيعة، تقول الحكاية إنه لا توجد فضلات، عن طريق تأكيد ساخر على الفضلات البشرية.

وفي النهاية، تظهر اللوحات الزيتية لموراكامي التي تتميز بمجموعة معقدة من الألوان والدلالات ولكن بعيدا عن التكرار الذي لا معنى له. تعد هذه التشكيلة بما فيها من موسيقى وتفاصيل ثرية وألوان زاهية ودراما روائية عملا مثيرا للغاية. وفي «تان تان بو» (2001)، تظهر شخصية دوب من جديد بمجموعة مغايرة من الألوان وتحتوي على مزيج من الأشكال البيوفورميكية والهندسية في تلخيص ساخر للفراغ الحديث. وفي «تان تان بو بوكنيج» يظهر السيد دوب وهو يحتضر تحيطه مجموعة من الألوان الزاهية تتدفق من سنانه المفلولة ونتوءات غريبة حول رأسه. ويقف كيكي وسط أربعة من معتنقي ديانة الشنتو متعلق بورقة مقدسة ليعطي الإشارة للروح كي تعبر للدار الآخرة. وفي اللوح الزيتية الأربع الأخيرة في العرض، وجميعها من السنتين الأخيرتين، تخلق أنماط ومواد وأساليب مختلفة للفن الياباني طاقة طباقية عظيمة. وفي «727-727» تثب رأس السيد دوب على موجة أنيقة ضد طبقات من الألوان المصقولة التي تحيط الطيف كله، يستحضر من خلالها لوحات قديمة ورسومات الفنان الأميركي أندي ورهول، وبعض الإشعاعات الذرية. تحاكي لوحتان كبيرتان لداروما، الراهب الهندي الذي عاش في القرن السادس والذي نقل الطائفة البوذية زين للصين، النزعة التخطيطية للرسم بالزيت ولكن على أسطح ورق الذهب والفضة والتيتانيوم. اللوحة الرابعة تقدم شخصية جديدة هي «تشيبي كينوكو» أو عش الغراب الصغير وهو مخلوق ضعيف يظهر أمام سطح صلب لامع لمربعات خضراء شاحبة. عندما يترك الشخص هذا العرض يحس أن موراكامي وجد بندورة جديدة رائعة تنم عن ثراء الفن الياباني التقليدي.

* خدمة «نيويورك تايمز »