اللون الأزرق.. ظلال من المعاني

يدل على الأصالة ورحب رحابة السماء ويأخذ العقول إلى أبعاد سحيقة

بنطلون جينز ـ ماركة «ليفايز» يعود للقرن التاسع عشر في متحف النسيج «واشنطن بوست»
TT

يلعب اللون الأزرق دورا كبيرا في حياتنا وفي إدراكنا للمعاني.

و«اللون الأزرق» هو اسم المعرض المقام في متحف النسيج، حيث يبدأ المعرض بعرض بنطلون جينز ـ ماركة «ليفايز» يعود للقرن التاسع عشر، ويعبر ببلاغة عن هذا الجيل، فهو لا يحتوي على عرى للحزام، ويتميز بالحمّالات القديمة، وبه فتحة في الجيب الخلفي الذي كان يغلق باستخدام أزرار معدنية، لم تعد تستخدم لأنها كانت تخدش أثاث المنزل. ولا يعد منظر هذا البنطلون جميلا، فكل سماته، لاسيما لونه، تدل على أن صاحبه كان يقوم بعمل شاق مرهق. وهذه هي إحدى دلالات اللون الأزرق. فلمدة طويلة كان اللون الأزرق رمزا للعمل الشاق وكان هو اللون المميز لثياب الفئات الفقيرة من المجتمع قبل أن يتم إجراء بعض التعديلات وإدخال سمات شبابية على البناطيل ذات اللون الأزرق. وفي قاموس أوكسفورد: «كان اللون الأزرق في السابق هو اللون المميز للموظفين الحكوميين والتجار، كما كان اللون المميز للفقراء. وفي فرنسا، ما زال العمال يرتدون معاطف من القطن لونها أزرق». ولكن هناك الكثير من الاستخدامات الأخرى لهذا اللون، فهو اللون الذي يشعرنا باتساع المكان. ونحن نجد أن أحمر الشفاه يكون لونه أحمر والدم لونه كذلك، ويستخدم اللون الأحمر في إشارات المرور للدلالة على الخطر وذلك لأنه يجذب الانتباه، عكس اللون الأزرق فهو رحب رحابة السماء ويمتد امتداد البحار ويأخذ بالعقول إلى أبعاد سحيقة. ولا يتصور أن يستخدم اللون الأزرق مكان اللون الأحمر في إشارات المرور. والأزرق لا يعد من الألوان الساطعة، بل هو لون جميل يدل على الأصالة، وبقايا الثياب القديمة من الهند ومصر والكيمونو الياباني ومعطف المايو الصيني والأعمال المعروضة في المعرض لا تحتوي على لون أزرق باهت، فما يهتم به المعرض هو اللون الأزرق النيلي. وهذا اللون لا حدود له، ودلالاته متغيرة مثل تغير ماء البحار، فهو يجمع بين الأضداد، ففي بريطانيا، مثلا، ليس هو اللون المميز لأصحاب المحلات والذين يخدمون فقط، فهو أيضا اللون المميز للمهتمين بالأناقة والمظهر الجميل، وهناك ما يعرف بالأرستقراطيين الذين تجري في عروقهم دماء زرقاء. وإذا كانت الملابس زرقاء اللون مرتفعة الثمن، فما كان للفقراء أن يرتدوها. وهذا اللون يظهر بعض الدلالات على الفقر، ولكنه في عصر النهضة كان بجانب اللون الذهبي والفضي من أغلى الألوان. ولم يكن الغرض من الثياب الزرقاء التي ميزت العذراء في لوحة عيد البشارة للرسام يان فان آيك، وفي لوحة الرسام الإيطالي ساندرو بوتيتشيلي هو دفع المشاهد إلى التفكير في السماء. فهذه الثياب تذكّر بالغنى، فالصبغة الزرقاء التي استخدمها الرسامان تكلفت الكثير، فالألوان الزرقاء الرخيصة سوف تبهت، ولكن هذه الألوان باهظة الثمن لم تبهت. ويمكن الحصول على أفضل درجات اللون الأزرق من الحجر السماوي الموجود في منطقة بدخشان في دولة أفغانستان، وكانت الألوان التي تؤخذ من هذا الحجر هي الأغلى ثمنا. وقد يدل اللون الأزرق على الانحطاط والقذارة، على الرغم من أنه قد يستخدم للدلالة على السمو والرفعة. فعلى عكس الدلالة التي حملها هذا اللون في ثياب العذراء، والتي كانت توحي بالكمال، استُخدم اللون الأزرق في رواية «الشيطان في ثوب أزرق»، وفي قضية مونيكا لوينسكي، للدلالة على معاني مغايرة تماما. ويرتدي الأزواج اللون الأزرق في الحفلات كدليل على الإخلاص والوفاء. وفي اللغة الإنجليزية نجد اللون الأزرق له دلالات على السعادة والربح والحزن والخسارة في الوقت نفسه. ولقد أحب الكثير من الفنانين اللون الأزرق للعديد من الأسباب، فقد كان الرسام الألماني فرانز مارك يرى أن اللون الأزرق له دلالات «روحية وجَدية». وكان بيت موندريان في هولندا، يرى أن اللون الأزرق الداكن يدل على الروحانيات السامية والمشاعر الدينية النقية. وإذا ذهبنا أبعد من هذا، فسنجد أن جوهانز إيتن، المدرس في كلية بوهاوس الألمانية للفنون، قد ربط الأشكال بالأفكار والألوان. فقد كان يربط المربع باللون الأحمر ويرمز للقضايا، وكان يربط المستطيل باللون الأصفر ويرمز للأفكار وكان اللون النقي للدائرة يرمز للروح. وتؤكد المرحلة الزرقاء في حياة بيكاسو كآبة هذا اللون، فالشخصيات الثلاث التي ظهرت حافية الأقدام على الشاطئ في لوحة المأساة التي رسمها عام 1903 لم تكن تدل على الحزن، ولكن المشاهد لا يشك في أن الشخصيات الثلاث كانت تشعر بالحزن الشديد. والألوان ليست شيئا ثابتا. وهذا شيء لافت للانتباه بشأنها. فهناك الألوان الدافئة، لاسيما الأحمر الذي يبدو أنه يؤثر في مشاعرنا، وهناك اللون الأزرق الهادئ بدرجاته المختلفة، الذي يبدو أنه يضفي مساحات زائدة على المكان الذي يكتسي به. ولم يكن هناك أحد من فناني القرن الـ20 سبر أغوار اللون الأزرق – أو استكشف أعماق بحاره – مثل الفنان الفرنسي يافيس كلين (1928 – 1962). ومن أشهر أعماله: «لونج ليف إماتيريال». وقد كان إلى جانب موهبته في الرسم ناشطا سياسيا وروحيا (كما حاز الحزام الأسود في رياضة الجود وكان مهتما بالنظر إلى أصل الوجود) وحاول الأخذ بأرواحنا بعيدا عن هذا العالم المادي الذي نعيشه، إلى عالم من الحرية الروحية للوجود. ولأجل إنجاز هذه المهمة الجسيمة، كان سلاحه هو اللون الأزرق. وليس أي لون أزرق، وإنما تركيباته المتعددة التي استخدمها كمسحوق جاف مع بعض الإضافات الخاصة «لحماية كل ذرة لون من التبدل». وقد حصل على براءة اختراع لدرجة من اللون الأزرق القياسي، سميت باسمه. وفي السنوات الأخيرة من عمره القصير، كان يستخدم اللون الأزرق الساطع بصورة كبيرة – كما لو أنه اللون الوحيد في هذا الكون. وقد كتب كلين: «سوف أدافع عن هذا اللون، وسوف أستخدمه في أعمالي، وسوف أقوده إلى النصر الكبير». ولا شك أن ذلك يبدو مهمة صعبة. ولكن المرء الذي يقف ـ بصبر وتأمل ـ أمام الصور أحادية اللون لكلين، ربما يشعر بأن الأمر ليس بهذه الصعوبة. وخلال وقت قصير، يبدأ المرء في الشعور بأنه يمكن أن يجرب ذلك ـ فيترك لنفسه العنان لتطوف في أعماق اللون الأزرق البعيد لهذا الكون. لقد اتخذ كلين من اللون الأزرق مطية يسير بها في رحلته إلى عالم الروح. ولم يكن من لون آخر يستطيع فعل ذلك.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»