الأجانب يملكون بريطانيا.. فهل أصبح اقتصادها معروضا للبيع؟

حصتهم في الشركات المتداولة في البورصة بلغت 40% في 2007

TT

لم يعد البريطانيون يملكون أسهم شركاتهم، إذ أصبح الكثير من هذه الشركات يتحول بسرعة إلى أيادي المستثمرين الأجانب، الذين يقبلون على شراء أسهم الشركات البريطانية بنهم كبير. وحسب أرقام مكتب الإحصاءات البريطاني، فإن ملكية الأجانب للشركات البريطانية المتداولة في البورصة، بلغت في عام 2007 نسبة 40% مرتفعة من 36% في عام 2004. ومن بين الشركات المائة الكبرى في بريطانيا (التي لها مؤشر خاص بها في البورصة يدعى FTSE 100) فإن نسبة ملكية الأجانب ترتفع إلى 43.6%. أما اذا عدنا إلى عام 1981 فإن الصورة تبدو صارخة، إذ كانت نسبة الملاّك الأجانب لا تتعدى 3.6% فقط، أي أن هذه النسبة تضاعفت أكثر من 10 أضعاف خلال الفترة المذكورة. وفي الوقت ذاته تضاءلت نسبة المستثمرين الأفراد (من الجمهور)، الذين يملكون حصصاً في الشركات البريطانية إلى أقل مستوى لها في تاريخ البورصة لتصل إلى 12.8% فقط. وكان الأفراد تاريخياً هم الذين يشكلون الحصة الأكبر من ملكية شركات المساهمة العامة، لكن اليوم تغير الموقف ليصبح الملاّك الجدد عبارة عن مؤسسات مالية أو صناديق استثمارية ضخمة. واذا عدنا أكثر بالزمن إلى عام 1963 فسنجد أن الأفراد كانوا يمثلون أكثر من نصف ملاّك الأسهم في البورصة. وتعزز هذه الأرقام الشعار الذي يرفعه بعض المستثمرين البريطانيين الساخرين بأن «بريطانيا أصبحت للبيع». وما يضايق هؤلاء الساخرين ليس فقط نسبة الشركات البريطانية التي تحولت إلى أيادٍ أجنبية، بل أيضا تحول شركات كانت تعتبر بمثابة رموزٍ للاقتصاد البريطاني (مثل هيئة مطارات لندن (BAA و(بنك (Abbey National و(شركة السيارات الشهيرة رولز رويس). ولا شك أن عقد الثمانينات تحت حكم رئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر كان بداية عهد الخصخصة في بريطانيا، حيث طُرحت غالبية الشركات الضخمة ـ التي كانت في أيدي الدولة ـ للاكتتاب العام في البورصة أو للقطاع الخاص لشرائها.

وكانت شركات الخدمات العامة، كالكهرباء والماء والغاز وغيرها، هي الأكثر جذباً للمستثمرين الأجانب الذين جاءت غالبيتهم من ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، ثم بعد وصول حزب العمال الى السلطة في عام 1997، استمرت نفس السياسة الاقتصادية (الاقتصاد الحر والسوق المفتوح)، رغم أن حزب العمال ظل تاريخياً ينادي بالاشتراكية وسيطرة الدولة على مرافق الاقتصاد الحيوية.

وفي الوقت الراهن فقد تقلص دور الدولة، مثلما هو الحال في غالبية الدول الرأسمالية، إلى مجرد رقيب ومنظم ومشّرع للأنشطة الاقتصادية، وليس مالكاً لها. فعبر تحديد سعر الفائدة الأساسي تتحكم الدولة في مستوى النشاط الاقتصادي وليس في تفاصيله.

كما أن قطاع الخدمات أصبح القطاع الأساسي والمهيمن على الاقتصاد البريطاني، والاقتصادات الغربية بشكل عام. ورغم أننا نطلق عليها تسمية دول صناعية، فإن نسبة 14% فقط تعمل في قطاع الصناعة في بريطانيا، و2% فقط في الزراعة، بينما يعمل أكثر من 80% في قطاع الخدمات (المالية والادارية والمصرفية والطبية.. الخ). الماضي والحاضر: والمعروف أن بريطانيا كانت في يوم ما القوة الاقتصادية الأعظم في العالم، فهي صاحبة الثورة الصناعية، وبحلول عام 1880 كانت بريطانيا تنتج أكثر من نصف الانتاج العالمي من الفحم (مصدر الطاقة الأساسي في ذلك الوقت) والحديد والمنسوجات القطنية. وفي نفس الفترة بلغت صادراتها من المنتجات المصنّعة (وليس المواد الخام) 40% من الانتاج العالمي. وفي عام 1890 كانت حمولتها في الملاحة البحرية تفوق طاقة الشحن البحري لبقية دول العالم مجتمعة. لكن بريطانيا تدهورت مع الزمن لتصل إلى أسوأ أحوالها الاقتصادية في السبعينات من القرن العشرين، عندما أطلق عليها البعض اسم «رجل أوروبا المريض» واضطرت إلى الاستدانة من البنك الدولي. وكان الاقتصاد البريطاني في ذلك الوقت يعاني من معدل مرتفع للتضخم ومعدل نمو اقتصادي منخفض ونقابات عمالية قوية تتحدى الحكومة باستمرار، فضلاً عن التردد البريطاني في الانضمام إلى (المجموعة الاقتصادية الأوروبية EEC)، التي أصبحت اليوم (الاتحاد الأوروبي EU). ومع هذه الظروف بدت بريطانيا كما لو أنها وقعت في منزلق سحيق لن تخرج منه لزمن طويل. لكن ما حدث خلال الـ 25 سنة الماضية أعاد لبريطانيا الحديثة كثيراً من قوتها الاقتصادية القديمة. وحسب بعض المقاييس، أي حسب قيمة الصادرات كنسبة مئوية من إجمالي الناتج القومي، فإن بريطانيا اليوم، رغم أنها الاقتصاد الرابع في العالم، فهي أكبر مستورد من الولايات المتحدة واليابان وفرنسا، لكنها تأتي في المرتبة الثانية بعد ألمانيا. كما أن النمو الاقتصادي تواصل فيها لمدة 14 عاماً من دون انقطاع، وأيضاً فإن إجمالي الناتج المحلي للفرد الواحد أعلى من مثيلاتها في كلٍ من ألمانيا وفرنسا، فضلاً عن أن نسبة البطالة تعتبر ثاني أقل نسبة بين دول الاتحاد الأوروبي. وتمتاز بريطانيا تاريخياً بانفتاح اقتصادها على العالم. فقد كان المستثمرون البريطانيون من أكثر المغامرين في الأسواق الأجنبية. واليوم يعود المستثمرون الأجانب إلى بريطانيا لتصبح ثاني أكبر قبلة للاستثمار الأجنبي المباشر، بعد الولايات المتحدة. كما ان بريطانيا كانت من انجح الدول الغربية في إعادة هيكلة اقتصادها وتخليها عن الصناعات الثقيلة التقليدية (التي تتولاها الآن الدول الناشئة صناعياً كالصين والهند والبرازيل) من أجل الصناعات الحديثة، مثل الإلكترونيات والعقاقير والمعارف الطبية والبحوث، وبالطبع الخدمات المصرفية وتحرير الأسواق المالية. ومن أجل هذا الهدف فقد نجحت في إعادة تأهيل قواها العاملة بحيث تفوقت على ألمانيا وفرنسا في هذا المجال. وهنا ينبغي الاشارة الى ان مكانة لندن المالية لوحدها تمثل اهمية بارزة كأهم مركز عالمي، حيث يعمل فيها نحو 260 بنكا اجنبيا، وتدير حوالي 8 تريليونات من المحافظ الاستثمارية في العالم، وتسيطر على تداول 40 في المائة من الاسهم والسندات الخاصة في العالم، فضلا عن انها تعتبر اكبر مراكز تداول الصرف الاجنبي في العالم، بتعامل يومي يصل الى نحو 1.4 تريليون دولار، بالاضافة الى انها أكبر تجمع لصناديق التحوط في العالم.

الصناعة والثورة التكنولوجية: وتشبه بريطانيا في هذا الصدد بقية الدول المتطورة، التي ظلت لأكثر من قرنين تعتمد على القطاع الصناعي لاستيعاب الكم الأكبر من الأيدي العاملة في الاقتصاد، فقد كانت هذه هي المعادلة الناجحة منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. غير أن شيئاً جديداً حدث الآن في هذه الدول، وهو أن عدد الأيدي العاملة في القطاعات الصناعية راح يتضاءل بسرعة حتى بلغ في الولايات المتحدة مثلا أقل من 10% من إجمالى القوى العاملة، مقارنة بـ 25% في عام 1970. وتلي الولايات المتحدة بريطانيا بنسبة 14%، ثم فرنسا واليابان وأخيراً ألمانيا وايطاليا. ووفق القواميس الاقتصادية التقليدية فإن تقلص عدد العاملين في القطاع الصناعي يعتبر مؤشراً سيئاً للاقتصاد. ولكن هذا غير صحيح في الاقتصاد الحديث. فتقلص العاملين في قطاع الصناعة في الدول الغنية لا يعني ضعفا، بل يعني مزيداً من القوة الاقتصادية، لأن الثورة التكنولوجية الجديدة حلت محل الأيدي العاملة البشرية بحيث انحسرت هذه الأيدي بينما ارتفع الانتاج الصناعي. هذا التحول في المعادلة بين الانتاج والأيدي العاملة انعكس أيضاً في تحول الصناعات الغربية من صناعات تعتمد على )العمالة المكثفة labour-intensive) مثل الفولاذ والنسيج في القرن الماضي، إلى صناعات تعتمد على (المعرفة المكثفة knowledge-intensive) مثل العقاقير والإلكترونيات حالياً. وكما يشير أنصار الاقتصاد الخدمي الحديث، فإن انتاج برنامج تشغيلي للكومبيوتر (مثل وندوز) يعود على الاقتصاد بأرباح مضاعفة عشرات المرات من انتاج القرص (CD) الذي يُسجل عليه البرنامج، وذلك لأن انتاج البرامج أمر معقد ويحتاج الى كثير من البحوث والعلوم، بينما تصنيع القرص نفسه أمرٌ سهل. وينعكس ذلك بوضوح في السعر: فالقرص الفارغ يكلف نحو 5 دولارات، بينما يكلف القرص الذي يحمل برنامج (وندوز) نحو 150 دولاراً على أقل تقدير. كما أن هناك تحولاً آخر صاحب الثورة التقنية في الغرب، وهو هجرة «الوظائف التي لا تحتاج الى مهارات عالية» من الدول الغربية الى الدول النامية، بينما توسع عدد الوظائف التي تتطلب مهارات عالية في بريطانيا. وكثيراً ما نسمع أن شركات عالمية ضخمة نقلت جزءاً من عملياتها من بريطانيا مثلا الى الهند، فالسبب الظاهر لذلك أن العمالة أرخص في الهند، ولكن هناك سببا آخر أهم وهو أن الأيدي العاملة في بريطانيا تعيد تأهيل نفسها باستمرار وبسرعة لمواكبة الثورة المعرفية والتكنولوجية الحديثة. وهناك سببٌ آخر في هجرة الأيدي العاملة من الصناعة الى الخدمات، وهو أن السلع الملموسة يمكن بسهولة انتاجها عبر الآلات «الروبوتات»، بينما الخدمات الطبية والتعليمية والمالية تحتاج الى الأيدي البشرية. وبهذا المقياس فإن الاعتماد على الآلة في الصناعة يضرب عصفورين بحجر واحد. فهو أولاً يضاعف انتاجية السلع الملموسة، لأن الآلة أقوى وأسرع من الإنسان ـ كما أنه ثانياً يفرّغ الأيدي البشرية للعمل في قطاع الخدمات، الذي لا يحتاج للآلة بقدر احتياجه للعقول والأفكار البشرية. وربما كان مثال برامج الكومبيوتر خير دليل على ذلك. الزراعة تفي بمعظم الغذاء البريطاني: تعتبر الزراعة في بريطانيا من أكفأ الدول الأوروبية، وتعتمد بطبيعة الحال على الآلة الحديثة الى درجة كبيرة، الأمر الذي جعلها تنتج 60% من حاجتها الغذائية، رغم أن 2% فقط من الأيدي العاملة تعمل في القطاع الزراعي، مقارنة بنسبة 70% في عام 1820.

واليوم رغم تضاؤل نسبة الأيدي العاملة في الزراعة الى 2% فقط فإن الانتاج الزراعي أصبح أضعاف ما كان عليه حينها. من جهة أخرى، فقد ساهم النمط الاستهلاكي في بريطانيا في تحويل اقتصادها من صناعي الى خدمي. فمع زيادة دخل الأسرة البريطانية يزداد انفاقها على التعليم والصحة والرياضة والترفيه والعطلات السنوية وكذلك على الاستثمارات المالية كالأسهم والسندات وشهادات التأمين. فاستهلاك السلع الملموسة، كالسيارات والأجهزة الكهربائية المنزلية، لا بد أن تكون محصورة في عدد محدود. فمهما كانت الأسرة ثرية فهي ستكتفي بسيارتين أو ثلاث، وأربعة أجهزة تلفزيون وكومبيوترات. لكن استهلاكها للخدمات لا يتوقف طوال العام. الطاقة محرك أساسي: تملك بريطانيا احتياطات ضخمة من الفحم الحجري والغاز الطبيعي والنفط، مما جعل قطاع الطاقة يمثل 10% من إجمالي الناتج المحلي ـ وهذه نسبة مرتفعة بمقاييس الدول الصناعية الأخرى. غير أن بريطانيا، التي كان انتاجها من النفط الخام يضاهي ثاني أكبر منتج في أوبك، اصبحت الآن تعد البراميل الأخيرة من حقولها البحرية أو (الأفشور) في بحر الشمال الذي كانت تعتبر أكبر منتجيه. وتوضح احصاءات وزارة الطاقة البريطانية أن الانتاج في أغسطس (آب) من عام 1999 كان 3.1 مليون برميل يوميا، لكنه انخفض في يونيو (حزيران) من عام 2006 الى 1.7 مليون برميل. ويعزي الخبراء الانخفاض السريع في نفط بحر الشمال الى سبب علمي بحت: وهو أن تكلفة إدارة وصيانة المنصات البحرية (خصوصاً في بحر الشمال) عالية للغاية، مما يدفع المنتجين الى الانتاج بالطاقة القصوى لاختصار الوقت، مما يعني بالضرورة نفاد المخزون بسرعة وبشكل يكاد يكون فجائياَ. كما أن حقول الأفشور البريطانية كانت قد بدأت جميعها الانتاج في نفس الوقت، لذا فقد شارف مخزونها على الانتهاء في نفس الوقت ايضا. وفي هذا الصدد توقع مركز «ملفات الطاقة» البريطاني أن تبدأ بريطانيا استيراد النفط «قريباً جداً»، وأن يصل حجم هذا الاستيراد الى 750.000 برميل يوميا بحلول عام 2015. وقد أثارت أزمة الطاقة في بريطانيا موضوعاً حساساً آخر، وهو إمكانية العودة الى انتاج الطاقة النووية. لذا فقد أبلغت الحكومة البرلمان بأنه لا بد من اتخاذ قرارات صعبة قد لا تجد تأييدا شعبياً، لسد الفجوة في توليد الطاقة في بريطانيا، أي ضرورة العودة الى انتاج الطاقة النووية. وطالب البعض بإجراء حوار قومي جاد لحل المشكلة قبل عام 2020، وهو الموعد المحدد لإقفال عدد من محطات توليد الطاقة النووية. وكانت بريطانيا، ضمن عددٍ من الدول الأوروبية الغربية قد قررت التخلص من محطاتها النووية في أعقاب حادثة شيرنوبل الروسية، التي أثارت ضغوطا هائلة من الرأي العام الأوروبي بشأن إجراءات السلامة ومخاطر استخدام الطاقة النووية.