موسم الـ«هوت كوتير» في باريس.. ينزل من برجه العاجي

شانيل تقدم درساً في الفخامة السهلة ولاكروا يتغزل بكونتيسات إسبانيا

العمارة المبهرة والخياطة الرفيعة حملتا توقيع لاغرفيلد في باريس أمس (أ.ف.ب)
TT

موسم «الهوت كوتير» في العادة يعني ازياء من الصعب تصور امرأة تلبسها في المناسبات العادية. صحيح أنها أزياء تحمل كل معاني الفخامة، إلا انها تقع أحياناً في مطب التصميمات السريالية أو الفانتازية بالحجة الفنية، حتى إذا لم تجد طريقها إلى خزانة امرأة، فإنها تجده حتماً إلى متحف من المتاحف. لكن ليس هذا ما رأيناه في هذا الموسم الخاص بخريف وشتاء 2008-2009. فحتى الفنية الخيالية، نزلت إلى أرض الواقع، بحيث يمكن للمرأة التي تستطيع ان تصرف آلاف الدولارات على قطعة فريدة، ان تروضها بسهولة لتناسب الحفلات الخاصة من دون ان تبدو بمظهر مبالغ فيه. أما فساتين الكوكتيل، فكانت كل شيء يثير الحلم بالإضافة إلى كونها واقعية، هي الأخرى. في اليوم الثاني من أسبوع باريس للموضة الرفيعة، لم يختلف الأمر، فقد تألقت «شانيل»، صباحا بتشكيلة استوحاها كارل لاغرفيلد من آلة الأورغن الموسيقية التي نصبها وسط «لوغران باليه»، الذي كان مرة اخرى مسرح العرض، إذ يبدو وكأن الدار اصبحت مرتبطة بـ«لوغران باليه» بعد ترميمه منذ بضع سنوات، وهو الأمر الذي له مبرره. فهذا الأخير، بسقفه الزجاجي العالي وما يمنحه من إضاءة رائعة، عدا عن خلفيته التاريخية العريقة، يمنح خلفية رائعة واسعة للمصمم يجول ويصول فيها. كان تنصيب آلة الأورغن الموسيقية إشارة إلى ما سينتظرنا من قطع نسجها خيال قيصر الموضة ونفذتها أنامل العاملات معه، فما إن بدأ العرض حتى رأينا هذه الآلة تأخذ صورا واشكالا كثيرة، مرة في الأكمام الانبوبية، ومرة في التنورات أو في الياقات.

لكنه لم ينس ان يقدم تحيته مرة اخرى لإرث الدار، بإعادة نحت الفستان الناعم والتايور المكون من جاكيت وتنورة، بترجمة جديدة يتفنن فيها هذا المصمم المخضرم كل موسم، ليفاجئنا بأنهما قطعتان ما زالتا تضمان الكثير مما لم نستكشفه بعد، وليؤكد ايضا أنه أكثر من يعرف ألغازهما. ترجمة سهلة وصعبة في الوقت ذاته، لكنها اصبحت اسلوب لاغرفيلد المعروف بـ«السهل الممتنع» الذي لا يتقنه أحدٌ سواه. اسلوب يلف به الجسم بأنوثة عصرية مفعمة بروح الشباب. فهو يتعامل مع الموضة، بمعنى متابعة تطورات العصر، وكأنها فيتامين مقوٍّ للأناقة، يحفزها وينشط دورتها، وبالتالي يدرك تماماً خطر حقنها بجرعة زائدة تدمر توازن كل ما بناه. لكن يمكن القول إنها اكثر تشكيلة فنية قدمها لحد الآن، سواء تعلق الأمر بالأشكال الانبوبية المحسوبة أو الطيات المتعددة والدقيقة. زهرة الكاميليا ايضا كانت حاضرة بقوة في التفاصيل، فهي مرة في جاكيت بقلنسوة تبدو وكأنها سلة محملة بالورد، ومرة تزين طرحة العروس وكأنها تاج صاغته الطبيعة.

وعلى ذكر فستان العروس، فقد كان في قمة الابتكار. الطرحة وحدها تكفي لكي تجعل اي عروس تتألق في ليلة العمر وتكون حديث الصديقات والمقربات لمدى العمر. فقد جاءت على شكل جاكيت طويل بأكمام واسعة لا تكاد ترى للوهلة الأولى، مما يعطي الانطباع بأنها قطعة واحدة منسدلة بسخاء، بينما زينت الورود قمة الرأس ايضا بشكل لا يرى بسهولة. القماش أيضا أدخلت فيه تقنيات جعلته يبدو وكأنه أوراق أزهار متفتحة، مع العلم انها نفس التقنيات التي استعمل في قطع أخرى. فالتويد، مثلا، الذي اشتهرت به تايورات الدار، اصبح في ملمس الحرير ومظهر الدانتيل نظرا لخفته ونعومته. كارل لاغرفيلد أكد في هذه التشكيلة ان الابتكار لا يقدر بثمن، كما انه لا يحتاج إلى ان يكون صادما حتى يؤكد نفسه. صحيح ان الابتكار يصب غالبا في صالح من لهم الإمكانات العالية، لكن وعلى المدى البعيد، فإنه يتجاوز الطبقية الاجتماعية والمادية، لأنه بكل بساطة عبارة عن فكرة جديدة، يمكن ان تصبح مشاعة للجميع.

وليس أدلَّ على هذا من الفستان الاسود الناعم، الذي حافظ على جوهره، كما رأته كوكو شانيل، لكنه تغير بشكل كبير ليخاطب شرائح اكبر، سواء من حيث الاقمشة أو الألوان أو القصات. ولم يتوقف عن تطويره للموسم القادم، حيث سيتمتع بالنعومة حتى عندما يلعب فيه كارل على الأحجام الكبيرة والاطوال المختلفة. وبعد عرض شانيل، وليس ببعيد عن «لوغران باليه»، كان لعشاق الموضة موعد مع المصمم جورج شقرا، الذي يؤكد موسماً بعد موسمٍ انه من الكبار. وليس ادلَّ على ذلك من باقة النجوم التي زينت الصفوف الامامية وعلى رأسهم «الملكة» هيلين ميرين، التي ظهرت بفستان من تصميمه في حفل الاوسكار الأخير. ووصفت تشكيلته الأخيرة بـ«المدهشة والأنثوية». العرض كان متنوعا من حيث التصميمات والألوان، وإن غلبت عليه فساتين السهرة باستثناء قطع محسوبة على أصابع اليد الواحدة يمكن ان تكون مناسبة للكوكتيل. فنية جورج شقرا وحرفيته العالية كانتا واضحتين مرة اخرى في هذه التشكيلة، وإن كانت بعض الألوان غير موفقة تماماً، مثل اللون الأحمر الذي جاء بدرجات قانية، قد يصعب ان تناسب كل البشرات. لكن الجميل في هذا المصمم أنه لا يزال يؤكد لنا في كل موسم انه لا يزال في جعبته الكثير مما يسعد المرأة، أينما كانت. مرة اخرى، اختار المصمم كريستيان لاكروا مركز بومبيدو ليقدم تشكيلته للشتاء القادم على الساعة الثالثة والنصف بتوقيت باريس. ويمكننا ان نقرأ ان التعود على المكان يشير إلى تعود لاكروا على اسلوب معين لم يحد عنه منذ مواسم. لا أحد ينكر انه مصمم فذ، ومن القلائل الذين يفهمون اصول الـ«هوت كوتير»، لكن عشقه للجنوب الفرنسي والثقافة الاسبانية يسكنه إلى حد يجعله يزورهما كثيرا. فقد كانت هناك، مرة اخرى، مجموعة من الفساتين المستوحاة من كونتيسات اسبانيا في الزمن الجميل، كما كانت هناك بنطلونات وجاكيتات «بوليرو» قصيرة مستوحاة من مصارعي الثيران إلى جانب فساتين فخمة تستحضر بلاطات القصر الفرنسي في القرن الثامن عشر. لكن لحسن الحظ أن عاشقات لاكروا لا يعشقنه لتصميماته المدهشة فقط، بل لروح الفنان بداخله التي يتنفسها من خلال الالوان. نعم، فلا أحدَ يمكن ان يجادل هذه الحقيقة. فهو ليس كغيره يتعامل مع الألوان، بل يخترعها ليخلق مظاهر وإطلالات لا يتقنها سواه، حيث تتحول المتناقضات على يده إلى سيمفونيات حالمة، والفوضى إلى إبهار.

في تشكيلته القادمة، سنرى الكثير من الاسود، لكننا ايضا سنرى ألوان النيون الصادمة تتحول إلى لوحات فنية مريحة، تكاد تنافس لوحات مونيه أو ديفيد هوكني في جمالها. فانت تشعر عند مرور أي فستان أمامك، بأنه يتحداك، لوناً وتطريزاً وفخامة، ويؤكد لك انك لم تر له مثيلا ولن تراه. لاكروا لم يخفِ يوماً عدم حبه للون الابيض، فهو بالنسبة له لون ميت وباهت، وهذا بديهي فهو فنان، والأبيض بالنسبة للفنان ليس سوى أداة عملية تتمثل في كونها ارضية «كانفاس» لتلقي باقي الألوان. وهذا ما أكده أمس حتى عندما رسم لوحاته بالأسود.