كل سنت إضافي في سعر الغازولين يكلف المستهلك الأميركي مليار دولار سنويا

شكل العالم حال وصول النفط لـ200 دولار للبرميل

TT

كلما ارتفعت أسعار النفط، ازدادت حياة «كاثرين كارفر» صعوبة حيث اضطرت بالفعل للتخلي عن الرحلات التي كانت تقوم بها أيام العطلات، وباتت تقضي غالبية عطلات نهاية الأسبوع في منزلها. كما تخلت عن عملها التطوعي الذي كانت تضطلع به مرتين شهرياً داخل محمية ماليبو للحياة البرية، جراء الارتفاع الهائل في تكاليف انتقالها من منزلها في «بالمديل» إلى هناك. والتساؤل الذي يراودها الآن: إلى أي مدى ستصل أسعار الوقود قبل أن تستقيل من عملها؟ في الوقت الحالي، تتكبد كاثرين ما يقرب من الف دولار شهرياً ـ ما يعادل خمس راتبها ـ في تكاليف المواصلات بين منزلها ومقر عملها، الأمر الذي دفعها للتفكير في طلب التقاعد عند بلوغ الخامسة والخمسين. وتجدر الاشارة إلى أنه منذ ثلاثة شهور عندما كانت أسعار النفط عند مستوى 108 دولارات للبرميل تقريباً، توقع بضعة محللين في بورصة وول ستريت وصول الأسعار إلى 200 دولار، ما رفضه الكثير من المراقبين باعتباره يعكس تأثرا مفرطا بارتفاع الأسعار، أو رغبة شركات الطاقة والمستثمرين في دفع الأسعار نحو مستويات أعلى. إلا أنه بتجاوز أسعار النفط 140 دولاراً للبرميل، بدأ المزيد من الخبراء في أخذ هذه التوقعات على محمل الجد، وساد بينهم خوف بالغ إزاء حالة الفوضى التي ستضرب الولايات المتحدة حال بلوغ أسعار النفط مستوى 200 دولار للبرميل. ويتوقع الخبراء أن يسفر ذلك عن إحداث تحولات جوهرية في أسلوب حياتنا وعملنا وكيفية قضاءنا أوقات الفراغ. في هذا السياق، أكد روبرت ويسكوت، رئيس «مركز أبحاث كيبريدج» للتحليلات الاقتصادية الذي يتخذ من واشنطن مقراً له، المعنى ذاته عندما قال «سنشهد تغييرات هائلة بمختلف قطاعات الاقتصاد، وبعض الأنشطة ستختفي تماماً».

إلى جانب التأثير الذي سيخلفه وصول أسعار الجازولين إلى 7 دولارات للجالون على الأفراد الذين يستقلون وسائل النقل وقائدي السيارات وشركات الطيران وأصحاب الشاحنات وشركات الشحن، فإن وصول أسعار النفط الخام إلى 200 دولار للبرميل سيسفر عن ارتفاع أسعار منتجات مختلفة واسعة النطاق، مثل المبيدات الحشرية، مستحضرات غسيل اليد، مستحضرات التجميل، المواد الحافظة للمنتجات الغذائية، كريمات الحلاقة، الزجاجات البلاستيكية، مواد اللصق المطاطية واقلام الكربون، وجميعها منتجات تدخل في تركيبها مشتقات النفط. ومن المحتمل أن يقع الضرر الأكبر على عاتق سكان جنوب ولاية كاليفورنيا المعروفة بطول المسافات التي ينتقل عبرها الأفراد باستخدام وسائل النقل وارتفاع تكاليف المعيشة. من جهته، علق مايكل وو، العضو السابق بمجلس مدينة لوس انجليس والعضو الحالي بلجنة التخطيط التابعة للمدينة، على الأمر بقوله «على امتداد تاريخنا، نشأنا بناءً على الافتراض بأن أسعار الطاقة ستبقى منخفضة، الآن مع تغير هذه الافتراضات، فإنها تغيرت معها الافتراضات المرتبطة بالإسكان والسيارات وأسلوب نمو المدن». وحذر من أنه حال ارتفاع أسعار الطاقة بسرعة، فإن ذلك سيكون بمثابة زلزال بالنسبة لسكان المدن. ونظراً لأن كل سنت إضافي في أسعار الجازولين تكلف المستهلكين الأميركيين حوالي مليار دولار سنوياً، فإن أية زيادة حادة في أسعار الطاقة ستنجم عنها «حوادث إفلاس وإغلاق متاجر كبرى»، حسبما يعتقد سكوت هويت، مدير شؤون اقتصاديات الاستهلاك بموقع موديز إكونومي على شبكة الانترنت (Moody"s Economy.com). أما إس. دافيد فريمان، مؤلف كتاب «السبيل إلى الفوز باستقلالنا بمجال الطاقة» الصادر عام 2007، فأكد أن: «القوة الشرائية للشعب الأميركي ستتأثر بشكل بالغ جراء وصول النفط لمستوى 200 دولار للبرميل بدرجة ستجعلهم عاجزين عن شراء كميات كبيرة من أي شيء». من ناحيتها، ذكرت مؤسسة بيغ سرتش بولاية أوهايو أن ما يزيد على نصف سكان كاليفورنيا قالوا خلال استطلاع أجري مؤخراً إنهم أصبحوا يعمدون إلى تقليص ساعات قيادتهم لسياراتهم بسبب ارتفاع أسعار الجازولين. وقال 42 في المائة منهم تقريباً إنهم قلصوا معدلات سفرهم لقضاء العطلات، بينما أشار 40 في المائة إلى تراجع إقبالهم على تناول الطعام خارج المنزل. وإذا كان هناك أي نمط من بائعي التجزئة يستفيد من هذا الوضع، فإنها المتاجر التي تعرض خدماتها عبر شبكة الانترنت، حيث أشارت دراسة أجرتها مؤسسة «هاريس إنتراكتيف» إلى أن ثلث البالغين اعترفوا بأن أسعار الجازولين المرتفعة زادت من احتمالات قيامهم بالتسوق عبر شبكة الانترنت لتجنب قيادة السيارات، ومن المحتمل أيضاً أن تستمر مبيعات السيارات في التراجع. جدير بالذكر أن مبيعات السيارات الجديدة والأخرى الرياضية والشاحنات الخفيفة انخفضت بالفعل بنسبة تجاوزت 18 في المائة داخل كاليفورنيا خلال الربع الأول من العام الجاري مقارنة بالعام السابق. ورغم أن الكثير من المستهلكين يبحثون الآن عن سيارات أصغر وأكثر ترشيداً في استهلاك الوقود، يفرض الكثير من التجار مبالغ إضافية على السيارات العاملة بالوقود المختلط، ما يقلص من الميزة المالية المترتبة على شرائها. وعلى مستوى الولايات المتحدة بصورة عامة، من شأن وصول النفط إلى مستوى 200 دولار للبرميل والجازولين إلى 7 دولارات للجالون إجبار الأميركيين على التوقف عن استخدام 10 ملايين سيارة على مدار السنوات الأربع القادمة، حسبما أشار جيف روبين، المحلل الاقتصادي البارز بمصرف سي آي بي سي في تقرير أصدره مؤخراً. أما بالنسبة لسوق العقارات داخل الولاية والمتردية بالفعل، تتراجع الأسعار بسرعة أكبر داخل المناطق التي تستلزم استخدام وسيلة نقل لمسافات طويلة، مثل لانكستر وبالمديل، عن الأحياء الواقعة بالقرب من المراكز التي توجد بها الشركات. وفي هذا الصدد، أوضح توم جيليجان، بروفسير التمويل بجامعة «يو إس سي»، أن أسعار الجازولين بالغة الارتفاع ستؤدي إلى إحداث تحول بالتوجهات داخل المجتمع، بحيث تتنامى قيمة القرب من مكان العمل.

ويعتقد الخبراء أن العمال الذين يضطرون إلى ركوب وسائل النقل لفترات طويلة سيتجهون بأنظارهم بصورة متنامية نحو وسائل النقل العامة. وبالفعل، تراجعت حركة المرور بالطرق المجانية داخل كاليفورنيا بنسبة 4% تقريباً في أبريل (نيسان) مقارنة بالعام السابق. وفي المقابل، ارتفعت أعداد الركاب في الكثير من خطوط مترو الأنفاق والحافلات التابعة لهيئة النقل الخاصة بمدينة لوس انجليس خلال الشهور الأخيرة. بيد أن تدفق أعداد ضخمة من الركاب على المواصلات العامة سينجم عنه ضغط كبير على بعض جوانب نظام النقل العام، خاصة أن الكثير من الحافلات باتت تعاني الآن بالفعل من ازدحام شديد في أوقات الذروة. ولن يكون من السهل إضافة المزيد من القدرات لتلبية احتياجات الركاب الإضافيين لأن الحافلات الجديدة تبلغ تكلفتها مئات الآلاف من الدولارات، ويستغرق الأمر عامين كي يتم تسلمها. ومن الصعب التكهن بأعداد سائقي السيارات الذين سيتحولون إلى ركاب داخل نظام النقل العام إذا ما بلغت أسعار النفط مستوى 200 دولار للبرميل، لكن هناك أعدادا هائلة من العملاء المحتملين. من ناحيته، أشار خبير شؤون النقل، ألان بيسارسكي، في تقرير أصدره عام 2005 إلى أن قرابة 87% من أبناء جنوب كاليفورنيا يتنقلون باستخدام السيارة، مقارنة بـ63% في نيويورك وضواحيها. ومن المتوقع أيضاً أن يزداد الازدحام لدى شركات خطوط الطيران وأن ترتفع تكلفة السفر جواً، على سبيل المثال، أعلنت شركة دلتا إيرلينز مؤخراً أنها خفضت رحلاتها الجوية من مطار لوس انجليس الدولي بنسبة 13% بهدف توفير الوقود. إلا أن ارتفاع تكاليف النقل ربما لا تشكل شيئاً يذكر مقارنة بارتفاع تكاليف الشحن عبر المحيطات إذا ما وصلت أسعار النفط إلى 200 دولار. وفي هذا الصدد، أعرب بعض الخبراء عن اعتقادهم بأن ارتفاع أسعار الطاقة تُحدث تحولاً في شكل التجارة العالمية وتسفر عن تباطؤ وتيرة العولمة. يذكر أن الحاويات التي تبلغ حمولتها 5 الاف حاوية تحتاج إلى حوالي 7 الاف طن وقود للانتقال من شنغهاي إلى لوس انجليس. وعلى امتداد العام ونصف العام الماضيين، قفزت تكلفة الوقود بنسبة 87% لتصل إلى 552 دولاراً للطن، وذلك تبعاً للأرقام الصادرة عن مجلس الشحن الدولي. وشرح روبين، من مصرف سي آي بي سي، الوضع بقوله: «من أجل توضيح الصورة، يمكن القول إن التكاليف الإضافية اليوم للشحن من شرق آسيا تكافئ فرض رسوم بقيمة 9% على السلع شرق الآسيوية التي تدخل إلى أميركا الشمالية. عند مستوى 200 دولار للبرميل، سترتفع الزيادة لتعادل تعريفة مقدارها 15%». من ناحية أخرى، يعتقد مسؤولو ميناء لوس انجليس أنه حال استمرار تحرك أسعار النفط نحو الارتفاع، فإن موانئ الساحل الغربي الأميركي ستشهد تنامي في مستوى الإقبال عليها لأنها تبعد عن آسيا بحراً مسافة مسيرة سفينة في البحر لـ10 أو 12 يوماً، مقابل من 18 إلى 20 يوماً بالنسبة لموانئ الساحل الشرقي. إلا أن الموانئ المحلية ربما تخسر النشطات التجارية التي تحظى بها حال خروج أسعار الشحن خارج نطاق السيطرة بصورة تضطر الشركات إلى الشروع في تحويل النشاطات الإنتاجية من آسيا إلى أميركا الشمالية، الأمر الذي بدأ بالفعل داخل صناعة الصلب. ومن الممكن أن تتغير أنماط التوزيع المحلية أيضاً، مثلاً، أشار ستيفن جاديس، الرئيس التنفيذي لشركة «باسيفيك تشيز» بكاليفورنيا، إلى أن أسعار الوقود المرتفعة ربما تدفع المطاعم ومحلات البيع بالتجزئة وجهات تصنيع المواد الغذائية للبحث عن جهات توريد أقرب لأماكن عملها.

من ناحية أخرى، ستجبر أسعار الديزل المشتعلة الشركات على إعادة التفكير بشأن ما إذا كان ينبغي أن تقيم مقار ضخمة مركزية أم تقدم على بناء أخرى أصغر بمختلف أنحاء البلاد. من جهتها، تقوم شركة باسيفك تشيز بالفعل ببناء مصنع تعبئة ضخم في تكساس بحيث يكون قريباً من جهات توريدها الكبرى وتتوقع أن تخدم عملاءها في جنوب غرب الولاية من هناك. ويعتقد المسؤولون بمجال الصناعات الغذائية والخبراء الاقتصاديون والمزارعون أنه في المستقبل القريب يتعين على المستهلكين أن يتوقعوا تحملهم التكاليف الأعلى لإنتاج الغذاء ونقله عبر مختلف أنحاء البلاد.

أما على صعيد العمل، ربما تتمخض أسعار النقل المرتفعة عن عصر جديد لا ينتقل فيه العاملون قط إلى أماكن عملهم، وفي هذا الصدد، أوضح روب إندرلي، المحلل لدى «إندرلي جروب» في سان جوز، أنه «نشهد في الوقت الراهن تحول شركات إلى إقرار أربعة أيام عمل فقط أسبوعياً، وتوجيهها اهتماما متزايدا بالعمل من داخل المنزل وإنشاء مكاتب صغيرة، أي شيء بإمكانه الحد من المسافات التي يتعين على عامليها قطعها للوصول إليها». وربما تحصل تقنية العمل من خلال الفيديو «كنفرانس» أخيراً على فرصتها الذهبية، بفضل التطور التقني والسعي لتقليص ميزانيات السفر والانتقالات. وأكد جوناثان سبيرا، كبير المحللين داخل شركة «باسيفك إنك»، وهي شركة أبحاث تجارية في نيويورك، أن الاتصال عن بعد بات أسهل في الوقت الحالي عن أي وقت مضى نتيجة انتشار وسائل الدخول إلى شبكة الانترنت بسرعات كبيرة، لكن جيليان لمح إلى أن العمال منخفضي الأجور عادة ما يتقلدون وظائف لا تحبذ الاتصال عن بعد، مثل البيع بالتجزئة والخدمات الغذائية. بيد أن تداعيات ارتفاع أسعار الطاقة لن تكون جميعها سلبية، ذلك أنها ربما تؤدي إلى ازدهار بعض الصناعات، ما يخلق عددا أكبر من الوظائف ويمد الخزينة العامة بالمزيد من الضرائب. على سبيل المثال، شهدت كاليفورنيا قفزة في نشاطات استخراج النفط في إطار محاولات شركات النفط استخراج المزيد من النفط من حقول الولاية. ويتوقع المسؤولون حفر اكثر من 4 الاف بئر نفط، ما يمثل رقماً قياسياً، خلال هذا العام. علاوة على ذلك، أسهمت أسعار الوقود المرتفعة في زيادة جاذبية السيارات العاملة بأنماط الوقود البديلة. وبدأت شركات داخل كاليفورنيا، مثل «تيسلا موتورز» في إنتاج سيارات رياضية تعتمد على الكهرباء بصورة كاملة ويبلغ سعرها 100 الف دولار، وربما تتحول هذه الشركات قريباً إلى جهات رائدة داخل هذه الصناعة الناشئة. ومن الممكن أيضاً أن تشهد المناطق السياحية الداخلية إقبالاً على صعيد السائحين المحليين، نظراً لإقبال الأسر الأميركية على البدائل الأقل تكلفة لقضاء الأجازات والأقرب إلى الوطن.

* خدمة «لوس انجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»