«عربة الفول».. متعة الصباح في شوارع القاهرة

أصبحت ملاذا لإفطار الطبقة الوسطى

الفول الذي يصفه المصريون بأنه «مسمار البطن» («الشرق الأوسط»)
TT

«شوية حار.. من فضلك».. عبارة قصيرة لكنها تعني الكثير في مفردات الصباحات القاهرية، فبمجرد الانتهاء من قول هذه العبارة، يجد الزبون أمامه طبق فول بالزيت الحار، وطبق سلطة خضراء، وفلفلا أخضر و3 أرغفة من الخبز البلدي اللدن، ليتناول وجبة إفطار سريعة على قارعة الطريق، تقدمها له عربة فول صغيرة في أحد شوارع القاهرة.

عربة الفول في العاصمة المصرية تعد إحدى الإشارات المهمة، على أن صباحا جديدا بسط ضياءه على المدينة التي لا تنام. ففي كل صباح تنتشر عشرات من عربات الفول الصغيرة، التي تنزوي في أحد الأركان أو تحت إحدى البنايات أو بالقرب من الميادين العامة، لتبدأ مهمتها في تزويد عشرات المصريين بالوجبة الصباحية الأشهر والألذ.. «الفول».

هذا المشهد الطازج لم يغب عن حس الكاتب المصري الشهير إحسان عبد القدوس (1919 ـ 1990)، ففي إحدى قصصه يحكي عن رجل عاش متعبا وفقيرا وشريدا، يتعامل معه الناس بكل قسوة وإهمال، ثم يموت هذا الرجل، وتأتي إليه الملائكة كي تبشره بالنعيم بعد طول صبر ومشقة، وتسأله عما ترغب فيه نفسه، فيجيب بلا تردد «طبق فول بالزيت الحار، ورغيفين من الخبز البلدي».

الفول الذي يصفه المصريون بأنه «مسمار البطن»، هذه الدلالة الشعبية الطريفة، يجسدها بإيقاع آخر أحمد صبري مدير مكتب دعاية، فهو يعترف بأن انجذابه لعربة الفول كل صباح في أحد شوارع الدقي غرب القاهرة، أشبه بانجذاب الدراويش في رقصة التنورة الشهيرة. صبري يمارس طقوسه الصباحية بعد أدائه صلاة الفجر في احد المساجد، ومن ثم الخروج مع أول خيوط الشمس لعربة «رمضان» الرابضة على خط التماس بين منطقة المهندسين الراقية وحي بولاق الدكرور. يبتسم رمضان وهو يؤكد أن الأستاذ أحمد من زبائنه القدامى، الذين لا يتغيرون مهما تغيرت الظروف.

عربة الفول هذا الاختراع المصري العبقري، لا تزال رغم الصعوبات تحتل مكانة مميزة في الإفطار الصباحي لعشرات الموظفين الحكوميين والصناع، الذين يخرجون من منازلهم مع أشعة الشمس. هشام فتحي موظف في وزارة التضامن الاجتماعي، لا يستطيع تناول أي شيء في البيت صباحا، إذ يكتفي بالسيجارة الافتتاحية، وهو يهم بالخروج من المنزل ويقول «أجد صعوبة في تناول أي طعام عند الاستيقاظ، ويظل الإفطار بالنسبة لي أزمة يومية ومسألة معقدة، ماذا يجب أن آكل قبل الذهاب إلى العمل؟ لكن بعد خروجي إلى الشارع، وبمجرد اقترابي من العربة ومشاهدة زبائنها منهمكين في تناول الطعام، تنفتح شهيتي على الفور، وأبدا في اختيار أرغفة الخبز أثناء إعداد رمضان لطبق الفول بالبيض المميز».

ومثل كل المهن، فإن لعربة الفول كودها الخاص، وألفاظها المميزة، بل ثقافتها الأليفة التي لا يدركها سوى الزبائن القدامى، فالفول في لغة العربة هو «طبق اللوز»، بينما يمكن أن يصيح أحد الزبائن على «ولعة» صبي المعلم طالبا منه «قرن غزال» وهو ما يعني قرن فلفل أخضر ملتهب، وآخر قد يعلن عن احتياجه لقنابل مسيلة للدموع لفتح الشهية، وسرعان ما يقذف إليه الصبي بعدة «بصلات»، أو يقترح رمضان ذاته على زبون عزيز لديه، بأن يلتقط أعوادا من «فياغرا الغلابة» وهو ما يعني الجرجير. يقول المعلم رمضان صاحب العربة، إن زبائنه يضمون شرائح محترمة، مثل موظفي البنوك والوزارات والهيئات التي تقع مبانيها في محيطه. موضحا أن هذه الشريحة هي الأهم بالنسبة له، كونهم لا يمانعون في دفع الحساب بعد الزيادات، التي حدثت في الشهور الأخيرة في قائمة أسعار العربة، بنسبة تقترب من 30%. يعترف رمضان أن ارتفاع الأسعار الأخير، أثر على مبيعاته اليومية، وبعد أن كان يبدأ العمل منذ الفجر وينتهي في العاشرة صباحا، أصبح ينتظر حتى الواحدة ظهرا لإنهاء اليوم. باسل كمال الموظف بمصلحة الضرائب، يعتبر أن عربة الفول «هبة القاهرة لمواطنيها»، فعلى الرغم من ارتفاع الأسعار مؤخرا، إلا أن وجبة الفول الصباحية الأشهر، ما زالت في متناول كثير من الناس، فمقابل جنيهين(أقل من نصف دولار) يمكن أن يتناول المرء طبق فول، وسلطة وفلفلا وخبزا ساخنا. ويضيف كمال إن السندويتش الآن في المطاعم أصبح ثمنه جنيها، ولكنه صغير، لكن العربة نظيفة وأكلها جيد وتنوع الوجبات، إضافة إلى أن قربها من محل العمل يجعلها الخيار الفوري الأمثل لعشرات من موظفي الحكومة والقطاع الخاص. أما مصطفى عدوي (محاسب) فيرى أن عربة الفول، صارت ملاذ الطبقة الوسطى الكادحة، مؤكدا أنه في الصباح يقصد عربة فول في وسط المدينة، وينعم بصحبة صحافيين ومحامين وموظفين محترمين للغاية، يأكلون هناك. ويضحك عدوي قائلا: «على العربة يصبح الجميع أصدقاءك، من عساكر المرور وموظفي البلدية، وأصحاب المحلات القريبة، وحتى البهوات، حيث لا مكان للخجل من تناول الطعام في الشارع، وسط إمكانية لإنشاء صداقات بحكم المصاحبة اليومية على العربة، بل إن هناك، والكلام لعدوي، من يركن سيارته ويقترب من عربة الفول حتى «يفوِّل» خزان جسده في الصباح.