«جمع طوابع البريد».. من هواية الملوك إلى حافة النسيان

«البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي»

جمال مدبولي يستعرض ألبوماته
TT

«البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي».. أغنية جميلة للراحلة ليلى مراد لا تحرضك ـ فحسب ـ على الغضب الرشيق من الحبيب العاق، وإنما تنعش ذاكرتك بأشياء جميلة انقرضت أو تكاد بفعل الزمن وخبرة البشر والحياة.

من هذه الأشياء هواية «جمع طوابع البريد» التي تعد من أنبل الهويات الإنسانية، ويطلق عليها أصحابها وعشاقها في مصر «هواية الملوك».

الطريف في هذه الهواية أنها تكتسب في حالات كثيرة طابعا فطريا، فغالبا ما يتوارثها الأبناء أبا عن جد.. يؤكد هذا جمال مدبولي أحد أشهر ثلاثة تجار لطوابع البريد في القاهرة بجانب الأرمني «هاجوب باغوص هاجوبيان» وهشام عيد رمضان .. مدبولي بدأ كهاو، ورث حب جمع الطوابع عن والده الذي كان أكبر تاجر لها في مصر، وبمرور الأيام تحول هذا الهوس إلى نوع من الاستثمار يعتبره «مجزيا نسبيا» خاصة مع توسع تجارته وإقبال السائحين الأجانب والسفارات على ألبوماته.

يتذكر مدبولي قصة والده مع الطوابع فيقول: «شاهد أبى ذات مرة طابورا طويلا من المصريين والأجانب أمام أحد المحلات، وعلى عادة المصريين شده الفضول فقرر أن ينضم للطابور واكتشف أنه لشراء «طابع الزفاف» الذي كان ثمنه وقتها جنيها واحدا، وهو ثمن كبير آنذاك، وبالفعل اشتراه ثم باعه بعدها بقليل بجنيه وخمسة وعشرين قرشا. فأعجبته اللعبة وبمرور الوقت تحولت إلى تجارة وخبرة وأصبح من أكبر خبراء هذا المجال وبمجرد النظر لأي طابع بريد حتى لو أجنبي يحدد قيمته وثمنه رغم أنه لا يعرف القراءة والكتابة».

يعمل مدبولي في تلك المهنة منذ 35 عاما، ومن واقع خبرته يؤكد أن ندرة الطابع هي السبب في ارتفاع ثمنه «أغلى المجموعات التي بحوزتي الآن مجموعة «بورفؤاد» التي كان ثمنها في بداية طبعها 5 مليم ثم وصل الآن إلى 12 ألف جنيه، ولا يصح بيعها إلا بموجب شهادة دولية صادرة من إحدى جمعيات هواة جمع الطوابع المسجلة حتى لا يتم تزويرها». ومن أبرز الطوابع النادرة الأخرى بحسب مدبولي «مجموعة الكشافة»، والطوابع التذكارية للشخصيات المعروفة بالإضافة إلى طوابع فترة السبعينات كلها لأن المطبوع منها كان قليلا.

وطبقا لقانون الندرة فإن أخطاء الطباعة من الممكن أن تتسبب في ارتفاع أثمان الطوابع، «لكن حاليا وفي ظل عدم الإقبال على شراء طوابع البريد بشكل يومي والاعتماد على المراسلات الإلكترونية قل المطبوع منها فازداد ثمنها» هكذا ختم مدبولي كلامه وهو يستعد لعرض أحد ألبوماته على سائحة يابانية.

في إحدى بنايات القاهرة العريقة بشارع عبد الخالق ثروت يتقابل هواة جمع الطوابع أسبوعيا بمقر الجمعية المصرية لهواة جمع الطوابع، يعقدون مزادا على الطوابع ويستكملون مجموعاتهم من بعضهم بعضا، وقد يسافر أحد الأعضاء لمعرض دولي في أوروبا ويصحب مجموعات زملائه معه، ويعود حائزا ميدالية ذهبية أو فضية أو مذهبة.

الجمعية لم يزد عدد أعضاؤها منذ سنوات، وبحسب الدكتور إبراهيم شكري وهو طبيب عيون شهير في مصر وأحد أعضاء الجمعية القدامى فإن «زيادة عدد هواة جمع الطوابع دليل على ثقافة ورقي المجتمع، ففي فرنسا عددهم 55 ألف شخص وفي مصر 500 فرد فقط، والهوة واضحة بالطبع».

يقول شكري: «جمع الطوابع هواية الملوك وملكة الهوايات، ولكنها للأسف بدأت في الاندثار في مصر ويكفي أن تعلم أنه من بين كل أعضاء الجمعية لا يوجد احد دون الخمسين من عمره».

ومثل جمال مدبولي ورث حب جمع الطوابع عن والده، الذي كانت قصة ارتباطه بتلك الهواية غريبة بعض الشيء ، يحكي شكري: «أصيب والدي بذبحة صدرية عام 1937 ونصحه الأطباء بالراحة لشهرين والتسلية بجمع الطوابع ليخفف من الضغوط النفسية، وبمرور الوقت تعلق بتلك الهواية وأورثها لي». شكري العائد لتوه من معرض طوابع في باريس أكد أنه أعجب بشدة بطوابع ألمانيا النازية رغم أنها «لم تعد لها قيمة الآن خاصة أن المطبوع منها بالملايين، مثلها مثل طوابع الدول الشيوعية».

يقول شكري: «الطوابع من الممكن أن تخلق ثروة بالمعنى المادي، ويكفي أن أحد هواة جمعها واسمه إبراهيم بك شفتر باع طوابعه واشترى بثمنها فيلا في منطقة سموحة الراقية بالإسكندرية».

شكري يهتم بجمع الأظرف التاريخية، كما أعد دراسة قيمة عن «تاريخ البوسطة الطوافة في مصر»، وتعني ركوب أحد الموظفين على دابة حاملا أختام البريد والطوابع والخطابات يوزع الخطابات على أصحابها ويبيعهم الطوابع في الوقت ذاته «مكتب بريد متنقل على دابة».

بحسب دراسة شكري فإن هذه المهنة لاتزال موجودة إلى الآن في بعض المناطق النائية بمصر، رغم انها بدأت منذ عام 1889، «كانوا بيصرفوا 3 جنيهات كمرتب للموظف ، ومثلها للحمار» هكذا علق شكري ساخرا، وعندما بدأت آثار الابتسامة في الذهاب تابع قائلا «أنا تعلمت أشياء كثيرة من تلك الهواية، ولا أكون مبالغا لو قلت إنني عرفت تاريخ مصر الحقيقي من دراستها». أسامة الخياط مهندس نسيج في العقد الرابع من العمر، آخر الوجوه التي انضمت لجمعية هواة جمع الطوابع، تاريخ انضمامه يعود لعام 1984 «فمن وقتها لم ينضم أحد للجمعية»، قرر التخلص مؤخرا من كل مجموعاته لعدم تفرغه لمتابعة الجديد وإن كان يحافظ أسبوعيا على موعد السبت «المقدس» موعد لقائه بأعضاء الجمعية ليتابع حركة الطوابع.

يقول الخياط: «بدأت تعلقي بالطوابع وأنا في السابعة، ومثل أي طفل كنت مبهورا بألوانها الزاهية، وشجعني والدي على ذلك لأن الأمر كان يزيده طمأنينة فهو يعرف أين أنفق مصروفي».

بحسب الخياط فإن جمع الطوابع له منطلقات مختلفة «فهناك من يهتم بجمع الطوابع التي تخص محطات السكة الحديد مثل مجموعة محطة مصر، وآخرون مولعون بالمجموعات الصادرة من مكاتب البريد التي كانت موجودة في السفن قديما الموجودة في الفنادق وهكذا».

تحدث الخياط عن فوائد عديدة لجمع الطوابع «فالبحث والدراسة والسعي وراء الجديد يخفف الضغوط ويغير المزاج للأفضل»، ولكنه يعترف بأن «هذا الزمن لم يعد زمن الطوابع في ظل الانترنت وألعاب الفيديو، والطابع السريع للحياة على عكس فترة شبابي التي كانت فيها الدنيا أكثر هدوءا وإمتاعا وكانت الطوابع والقراءة هما متعتي».