العلاقات المصرية ـ الإيرانية.. زواج ملكي وطلاق جمهوري

من صراع الشوارع.. إلى حرب الأفلام

لافتة قديمة لا تزال تحمل اسم الشاه الراحل بهلوي («الشرق الأوسط»)
TT

«شارع الإمبراطور بهلوي».. كانت تلك إجابة العم جاب الله حارس إحدى البنايات، والرجل الوحيد في الشارع الذي نجح في الإجابة عن سؤال حول الاسم السابق لشارع محمد مصدق، رئيس الوزراء الإيراني الراحل. معظم القاطنين في الشارع الذي يقع غرب القاهرة وسط حي الدقي الراقي لم يتمكنوا من الإجابة، لكن معظمهم في المقابل يعرفون من هو محمد مصدق. شادي المأمون، 26 عاما، قال بتلقائية، «كان رئيس وزراء إيران في الخمسينات، وكان رجلا عظيما وقف ضد رغبات الشاه محمد رضا بهلوي»، بينما قال المهندس هشام مجدي أن مصدق «هو من أمم البترول الإيراني، ووقف في وجه الأميركان، لكنهم قهروه فيما بعد». بينما يعتبره جمال الحديدي أحد أبطال التأميم الذين تأثر بهم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في تأميمه قناة السويس عام 1956.

ورغم وجود لافتة قديمة ووحيدة لا تزال تحمل اسم الإمبراطور بهلوي على جدار إحدى الفيلات المهجورة في الشارع، إلا أن أحداً من السكان أو المارين في الشارع لا يلتفت إليها، حتى شباب توصيل طلبات المطاعم إلى المنازل، أولئك الذين يعدون خبراء في معرفة أي عنوان ترغب في الوصول إليه، حتى أنهم وبسهولة يمكنهم إعطاء معلومات أكثر تفصيلا مما يطلب المرء، كرقم الشقة والدور الذي تقع فيه مثلا، بل وأشياء من قبيل لون الباب وأصيص الزرع الموجود أمامه، وهم بالفعل أفضل من يدلونك على عنوان في القاهرة، إلا أنهم لا يعرفون شيئا عن الاسم القديم لشارع مصدق ولا حتى رأوا اللافتة من قبل. المصريون يشعرون بدهشة بالغة من مواقف طهران حول مصر ورموزها. وحتى بعد مرور 28 عاما على وفاة الرئيس الراحل أنور السادات، السكان في شارع مصدق لا يفهمون سر إصرار إيران على مهاجمة السادات عبر إطلاق اسم أحد قاتليه على شوارع العاصمة الإيرانية، أو ذلك الفيلم الذي يحكي قصة مصرعه، مثيرا عاصفة من الاستياء، الأمر الذي أدى إلى توحد المصريين ووقوفهم صفا واحدا للذود عنه بشكل لم يسبق له مثيل. «السادات كان قائدا عظيما وسياسيا بارزا، واستطاع أن يرى قبل 35 عاما ما لا يراه كثير من الناس حتى اليوم». هكذا بادر أحمد شعلان أحد القاطنين في شارع مصدق بالقول، معتبرا أن إطلاق أسماء الرموز الإيرانية على شوارع مهمة في القاهرة يعكس تقدير مصر لحضارة إيران وثقافتها العظيمة. لكنه سرعان ما تساءل «لماذا يتعمد النظام الحالي في طهران اهانة رموزنا القومية وتبجيل أعداء الأمة المصرية عبر إطلاق أسمائهم على شوارع طهران أو عرض خستهم في أحد الأفلام المشبوهة في سياسة تبدو حمقاء وتفتقر للمنطق.. أنظر ماذا نفعل وماذا يفعلون». في المقابل، ووسط استعداد ضخم من ممثلين ومنتجين وفنيين مصريين للمساهمة المجانية في الفيلم كي يكون في نهاية المطاف ردا قويا على إساءات فيلم «إعدام الفرعون»، قرر عدد من المثقفين المصريين تبني حملة مضادة لإيران وموقفها من السادات عبر تقديم فيلم سينمائي يهاجم آية الله الخميني زعيم الثورة الإيرانية، لتتحول علاقات مصر وإيران أخيراً إلى حرب شوارع وأفلام تديرها وسائل الإعلام هنا وهناك. ففي هذه الأيام يتم إعداد سيناريو الفيلم الجديد «الخميني إمام الدم» للكاتب محمد حسن الألفي عضو لجنة الإعلام بالحزب الوطني الديمقراطي الحاكم ورئيس تحرير الصحيفة الناطقة باسم الحزب.

وبعيداً عن فيلمي الموسم الإيراني والمصري، فإن العلاقة بين البلدين تبدو فيلماً في حد ذاتها، وإن كانت أغلب مشاهده درامية للغاية. كانت البداية سعيدة بالزواج الملكي بين الشاه محمد رضا بهلوي وشقيقة الملك فاروق الأميرة فوزية، لكن سرعانَ ما دب الخلاف بين الزوجين ومن ثم بين المملكتين. ويظهر الرئيس جمال عبد الناصر بعد الثورة إعجابا بمحمد مصدق رئيس وزراء إيران، لكنه لم يستسغ الشاه (الملكي)، الذي ظل بعيدا عن مصر إلى أن جاء الرئيس السادات عام 1970، ليبدأ شهر عسل مصري ـ إيراني سرعان ما عرفت المأساة طريقها إليه، إذ تقوم الثورة الإيرانية ويخرج الشاه طريداً، ويستقبله السادات ويغضب ملالي إيران على مصر ورئيسها. ويسقط السادات بيد الغدر، فترى إيران الفرصة سانحة للانتقام منه عبر الاحتفاء بقتلته. ويجري حديث لم ينقطع منذ سنوات عن ضرورة تحسين العلاقات بين الدولتين، لكنها تشهد ـ كما تاريخ العلاقة ـ منحنيات للصعود والهبوط على نحو درامي يشبه كثيرا الأفلام الهندية التقليدية. «إنها كارثة» هكذا وصف الروائي المصري جمال الغيطاني المنحنَى الذي وصلت إليه العلاقة بين القاهرة وطهران، معتبرا أنه من الضروري التفريق بين الدور الإيراني في المنطقة وبين الشعب والثقافة اللذين ساهما في بناء الحضارة الإسلامية. وأضاف «لي تحفظات على السياسة الإيرانية، وأرفض سعيها لتأجيج الصراع بين السنة والشيعة في العراق وأماكن أخرى من العالم العربي، لكن أحمدي نجاد في نهاية المطاف ليس هو الشعب الإيراني».

الغيطاني غاضب ممن انبروا للدفاع عن السادات عبر لغة قاسية نعتت الشعب الإيراني المسلم بأنه «مجوسي»، واصفا ذلك بأنه «نوع من الجهل التاريخي والثقافي والسياسي»..، ويكمل «هناك أقلام حسنة النية غضبت للرئيس الراحل وهي على حق، لكن هناك مَنْ يتعامل مع الأمر عبر دور مرسوم يجد في التباعد المصري ـ الإيراني هدفا له. ويرى الغيطاني أن الشعب الإيراني صاحب حضارة موازية للحضارة المصرية، اعتنق الإسلام وساهم في نشره في بلاد ما وراء النهرين، ولا يجب اختزال ذلك كله في دور سياسي يلعبه نجاد وإدارته، متسائلا أين نجاد من الرئيس السابق محمد خاتمي». تجتمع لجنة خاصة بأسماء الشوارع في أية مدينة مصرية بصفة دورية لتعديل أسماء شوارع الحي بما يتناسب وأي ظروف جديدة قد تطرأ، مثلا أن يموت مفكر كبير أو سياسي بارز أو بيروقراطي عتيد، فيتم تغيير اسم الشارع الذي كان يقطن فيه ليحمل اسمه تكريما له. لكن في أحيان كثيرة يكون اسم الشارع القديم مناسبا ومألوفا للسكان والزائرين أكثر من التسمية الجديدة التي تختزل في لافتات زرقاء جديدة فقط، فالحس الشعبي تجاه الأشخاص الذين يشغلون أسماء الشوارع هو من يقرر التسمية التي تشيع وتنتشر، ربما تكون الشخصية الجديدة غير محبوبة فلا تجد على ألسنة الناس سبيلا، هكذا يعاقب المصريون من يسيئون إليهم. وربما تكون التسمية السابقة أقوى من الجديدة فلا يمكن حينئذ تغييرها سوى في الأوراق الرسمية وكشوف الكهرباء والمياه والغاز فقط.

مصطفى صبحي، أحد مسؤولي حي الدقي، يقول إن القيادة في مصر لديها وعي بمشاعر الشعب الإيراني، فبعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979 ووفاة شاه إيران، قامت المحافظة بتغيير اسم الشارع من الإمبراطور بهلوي الذي أطلق في السبعينات تكريما لزيارة شاه إيران إلى مصر، لكنه تحول بعد ذلك إلى شارع مصدق، في اعتراف بقيمة الرجل وانعكاس واضح لحسن النوايا والشعور بالمسؤولية.