الباعة المتجولون في البلقان.. ثورة ضد البطالة

بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة الإقبال عليهم قليل والمردود لا يكفي

بائع متجول يعرض بضاعته أمام أحد المحلات الصغيرة («الشرق الاوسط»)
TT

تراهم في كل مكان، في الشوارع، وفي المحطات وعند الجسور. ويخرجون إلى الأرياف ويدلفون للعمارات السكنية يطرقون أبوب الشقق ويستميتون في إظهار محاسن وأسعار سلعهم. وما أدراك ما الأسعار التي أصبحت مثل مؤشرات البورصة، بيد أنها في الارتفاع دائما دون انخفاض، ودون أن يوازي ذلك ارتفاع في الرواتب والأجور مما يزيد في اتساع رقعة الفقر، فهناك 50 مليون نسمة من مواطني الاتحاد الاوروبي، كما تقول الدراسات، مهددون بالفقر. وإذ كان الكثير من الموظفين والعاملين في القطاعات المختلفة يشعرون بالاختناق، وربما الانهيار الاقتصادي والعجز عن توفير مستلزمات الحياة بسبب الغلاء، فما بالك بجيوش العاطلين عن العمل، والمتقاعدين. هؤلاء هم الباعة المتجولون في البلقان تقدر بعض البيانات الرسمية عددهم بعشرة ملايين عاطل ـ من أصل 70 مليون نسمة هم عدد سكان البلقان بدون تركيا واليونان.

منهم ماهو بيكاش الذي كان يجلس القرفصاء وقد وضع بضاعته البسيطة على قارعة الطريق لعله يظفر بزبون وهو يلتقط أنفاسه بعد تجوال طويل بين المحطات والعمارات السكنية. لم يقبل في البداية الحديث، لكن ذلك لم يمنع «الشرق الأوسط» من طرح الأسئلة بعد إبداء التعاطف معه «رجل في مثل سنك يجب أن يقضي شيخوخة هانئة.. كم مضى من عمرك؟». نطق الرجل ونسي الممانعة «اسمي ماهو بيكاش من مواليد 1941 في فوتشا (شرق البوسنة) وأنا مهجر منذ 1994 وأعيش بالايجار مع زوجتي في فوغوتشا (شمال سراييفو) وليس لدينا مورد نقتات منه وندفع ايجار المنزل المتواضع فاضطررت لهذا العمل بدل أن أمد يدي بالسؤال». كانت البضاعة مجموعة من الجوارب، ومناديل المطبخ، والأحزمة الرجالية. قال إنه يشتريها من الشركات التجارية ليحصل على قيمة مضافة من خلال بيعها. يدفع بيكاش الذي جاوز67 عاما، مائة مارك بوسنوي، أي ما يعادل نحو 50 يورو، ايجارا لبيته مما يعني أن البيت مجرد كوخ صغير جدا وغير لائق للاستخدام البشري نظرا لغلاء أسعار الشقق في البلقان، فهي بين 300 و500 يورو في الشهر. وعن دخله اليومي من العمل أجاب «أحيانا 5 وأحيانا 10 ماركات». واشتكى «ماهو» كغيره من الباعة المتجولين من ملاحقة الشرطة لهم لأنهم لا يملكون ترخيصا لممارسة «التجارة». لكن ما هو أصعب من وضع «ماهو» الاجتماعي هو «العقوق» فالرجل كما أخبر «الشرق الأوسط» لديه ابنان في الخارج لا يساعدانه ولا يسألان عن أحواله.

جيلكا في الخمسينات من عمرها، ولكنها تبدو أكبر من ذلك بكثير، حسب ملامح وجهها المكفهر، والقلق الشديد الذي يبدو على تقاسيمه. قالت لـ«الشرق الأوسط» وهي تحاول أن تعدل من وقفتها قرب محطة القطار بقلب العاصمة الكرواتية زغرب، إنها كانت أستاذة جامعية، وإن لديها مشكلة في البيت لا تريد التحدث عنها. تريد جيلكا أن تستقل القطار إلى مناطق ريفية غير بعيدة لبيع ما لديها من بضاعة مكونة من حقائب يد نسائية بيضاء. سألتها «الشرق الأوسط»: لماذا كل الحقائب بيضاء فربما هناك أذواق تريد لونا آخر؟ أجابت «لا يغرك فكل شيء في هذه الحياة أسود، حتى هذه الحقائب البيضاء». ومضت تقول «راتبي التقاعدي 140 يورو، ماذا يكفي وماذا يسد من التزامات؟ لدي ابنة في البيت تريد أن تعيش مثل صديقاتها، وأنا حزينة لأني لم ألب لها رغباتها». تقول جيلكا إن «النساء يقبلن على شراء الحقائب لأنها رخيصة»، وخاصة مع ارتفاع الاسعار «لم يعد أحد قادرا على شراء الماركات العالمية.

الملابس المستعملة أصبح لها سوق كبير والبضائع الآسيوية تغرق أوروبا كلها ولا سيما عندنا في كرواتيا والبلقان لأنها رخيصة». وتبيع جيلكا الحقائب بأسعار تتراواح ما بين 5 و10 يوروات.

وعلى الرغم من حصولها على راتب تقاعدي الى جانب ارباح تجارتها، تقول جيلكا إن دخلها الشهري لا يفي بحاجاتها الضرورية «أصرف 200 يورو على الأدوية شهريا، فماذا يبقى للأكل والملابس والفواتير التي تزيد قيمتها باستمرار». من الملاحظ في البلقان أن أكثر الباعة المتجولين من النساء مثل سميرة (28 سنة) التي قدمت من بريبوي الصربية إلى سراييفو سنة 1998 بعد ان شعرت أسرتها بالتمييز الطائفي.

وقالت لـ«الشرق الأوسط» إنها تمارس عملها كبائعة متجولة لأنها لم تجد عملا في تخصصها، حيث أنهت دراستها في مجال الاقتصاد «هناك أسباب كثيرة تحول دون عملي في مجال تخصصي، ففي صربيا أنا مسلمة وفي البوسنة أنا أجنبية، وفي كلا الحالتين لا بد من واسطة قوية». أما ما تبيعه سميرة فهو الأحذية الرجالية والنسائية والجوارب والقمصان الداخلية.

ونفت سميرة تعرضها لأية مشاكل يمكن أن تهددها في نفسها وممتلكاتها وكررت ما ذكره آخرون من أن الشرطة هي المشكلة الوحيدة للباعة المتجولين في البلقان. كما اتفقت معهم على أن الإقبال قليل، بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة والمردود لا يوفر المستوى الأدنى للحياة، وأنه لا توجد موارد أخرى أو مساعدات اجتماعية. لكنها ذكرت بأنها تحصل على ما بين 20 و30 ماركا يوميا.