متحف محمود مختار.. وجهة السياح الأجانب وطلبة الفنون

بعد تحديث وتطوير متحف صاحب «نهضة مصر» و«الخماسين»

محمود مختار
TT

نفحة من الجمال والنور تسري في أوصالك حين تدلف إلى متحف مثّال مصر محمود مختار (1889 ـ 1934) بالقرب من ضفتي النيل في أرض الجزيرة بالعاصمة المصرية القاهرة.

فبرغم حياة مختار القصيرة، التي لم تتجاوز 43 سنة، استطاع هذا الفنان المبدع أن يلخّص بفنه فترة تعد من أهم وأثرى فترات نهوض مصر في تاريخها الحديث. وكان إبداعه رافداً أساسياً لتيار التنوير الذي جسدته كوكبة من المبدعين في عصره من أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد وابراهيم المازني وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وسيد درويش.. وغيرهم. للوهلة الأولى يبدو «متحف مختار» المواجه لمبنى الأوبرا المصرية انعكاساً لحياة الإنسان المصري في القرية والمدينة عبر ما يقرب من 87 تمثالا تصور حياة مصر القديمة، وارتباطها بالنيل والأرض، ومصر الأحدث عهداً المنادية بـ«الاستقلال والحرية والعدالة والدستور» في وجه الاستبداد والديكتاتورية.

وبعد وفاة مختار قرّر الدكتور طه حسين جمع أعماله في معرض خاص به، وذلك بعد استعادة جملة من أعماله التي صنعها في باريس ليفتتح المتحف في ركن مستقل من حديقة الفن الحديث في شارع قصر النيل بوسط القاهرة في مارس (آذار) 1952.

وعام 1962 حرص الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة المصري آنذاك، على تأسيس متحف خاص لمختار، هو الذي تولّى تصميمه الفنان رمسيس ويصا وحاول فيه التعبير عن العلاقة التي ربطت مختار بأسلافه الفراعنة، فجاء البناء على شكل هرمي، يحوي بداخله رفات المثال المبدع وكنوزه الفنية على غرار الأهرام التي شيّدها الأجداد ليدفن فيها الملك مع كنوزه وآثاره.

وقبل فترة قصيرة، أجرى قطاع الفنون التشكيلية أعمالا لتحديث وتطوير للمتحف. وهنا تقول هناء سعد الدين، نائب مدير متحف مختار، إن المتحف «تحوّل أخيراً إلى مركز ثقافي وتنويري بعد إنشاء قاعة للندوات والنشاطات الفنية، كما طوّرت صالات العرض بوضع نظام خاص للإضاءة والتكييف المركزي، وإجريت تغييرات شاملة لحوائط خلفيات التماثيل وألوانها لمزيد من التناسب والتنسيق». وتــضيف سعد الدين أن «السياح الأجانب هم الفئة الأبرز من زوار المتحف كونه ضمن برنامج زيارات القاهرة، ثم يأتي بعدهم طلبة كليات الفنون الجميلة، فضلا عن طلبة المدارس الإعدادية المتوسطة الذين يدرسون حياة مختار ضمن مقرّراتهم الدراسية». وتوضح سعد الدين أن «الزوار الأجانب يشعرون بقيمة فن مختار من خلال تماثيله المعروضة في المتحف كونها تمزج بين الفن الفرعوني القديم والروماني بالفن الحديث في روعة وذوق عال».

الواقع أن مختار كسر عرفاً توارثته الأجيال هو أن تماثيل الميادين والشوارع العامة مقصورة على طبقة الحكام والنبلاء، وهكذا اختار أن يمجّد الإنسان المصري العادي وزعماءه الوطنيين ... ومنهم «زعيم الأمة» سعد زغلول، الذي أنجز له تمثالين أحدهما موجود على بعد خطوات من متحفه، والثاني في مواجهة البحر بميدان الرمل في مدينة الإسكندرية. أما عمله الأشهر، وهو تمثال «نهضة مصر»، فيربض أمام حرم جامعة القاهرة، وتبدو فيه فلاحة مصرية مستندة بيمناها إلى ماضٍ متحفز يهم بالنهوض ممثلا بأبي الهول في حين ترفع بيسراها حجاباً لتنظر إلى أفق غير محدود. حكاية هذا العمل الفني الكبير الذي واكبت فكرة إنشائه انتفاضة الشعب في ثورة 1919 التي بدأت على أثرها حركة تبرعات شعبية لتغطية تكاليف تشييده. وحقاً استجابت فئات الشعب المختلفة وتحمست الجماهير، وتبرعت نساء بحليهن، وظهر بين رجال الأزهر وخطباء المساجد من يدعون لإقامة التمثال وجمع التبرعات عقب صلاة الجمعة، حتــى بلغ مجموع التبرعات 6500 جنيه مصري، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت.

وفي عام 1928 تزاحم سكان القاهرة والأقاليم في ميدان السكة الحديد الرئيسي لمشاهدة الملك أحمد فؤاد، ملك مصر يومذاك، وهو يزيح الستار عن تمثال «نهضة مصر» في فرحة عارمة، بينما وقف مختار فرحاً بتحفته التي لم يتقاض عليها قرشاً واحداً. ثم عام 1955 نقل التمثال إلى مكانه الحالي.

«نهضة مصر كان تعبير مختار عن انتمائه للفراعنة وإعلان انتمائه للريف الدائم الهوية الممتد، حيث وقفت مصر شامخة القــامة والهامة والكرامة»، هكذا عبّرت الكاتبة نعمات أحمد فؤاد عن إبداع مختار لنهضة مصر، مضيفة أن مختار أحب الرمز لمصر بالسيدة التاريخية المعطأة بلا حدود، وكان أن صنع لهذه الفلاحة تماثيل كثيرة، «تمثال الفلاحة العائدة من السوق»، وتمثال «الفلاحة تحمل جرة الماء»، و«تمثال الفلاحة بائعة الجبن» وغيرها من التماثيل التي يمتلئ بها متحفه الصغير.

مزج مختار بين المحلي والعالمي في فنه، ووضح ذلك جليا في تمثالي «نهضة مصر» و«سعد زغلول» حيث التعبير بالكتلة واستخدام عناصر الجمال الرياضي في اللغة التشكيلية، ثم توالت بعد ذلك تماثيل «الفلاحة والجرّة» و«إيزيس» و«عروس النيل». كما عالج مختار مواضيع تنوعت بالحركة وملامح الخطوط والتفاصيل الدقيقة مثل تماثيله «المكفوفون الثلاثة» و«حارس المزرعة» و«شيخ البلد».

كان مختار، وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره يخرج كل صباح إلى النيل ليداعب بأنامله الصغيرة طميه الأسود الراقد قرب الضفة، مشكلا منه حسناوات الريف من حاملات الجرار وشيخ البلد وزوجته في طرح ساذج وبرئ سرعان ما يذهب بها إلى فرن الدار ليسوّيها حتى تجف وتبقى شاهداً على عبقريته البدائية.

بعدها رحل مختار عن الريف قاصداً القاهرة ليستمد من شوارعها ومآذن مساجدها وبيوتها القديمة مفردات النبوغ. وفيها التحق بمدرسة الفنون الجميلة لدى إنشائها عام 1908 وتخصص في فن النحت وبات أول فنان معاصر يلتقط الأزميل من يد آخر فنان فرعوني ويبعث تقاليد فن الأجداد بعد طول انقطاع.

وتخرج مختار عام 1911 وسافر إلى فرنسا على نفقة الأمير يوسف كمال، مؤسس مدرسة الفنون الجميلة. وهناك تجاوز مختار النموذج الإغريقي ـ الروماني في النحت، منتبهاً إلى القيم الفنية في تراث النحت في الحضارة الفرعونية الغنية بنماذج وتماثيل من عصور مختلفة. ولقد نظر إليه الفرنسيون هناك بوصفه مصرياً يمتد نسبه إلى الملك رمسيس الثاني عندما سأله نحات فرنسي شهير.. «لماذا جئت إلى باريس وتركت التراث المصري الغزير؟».

في العاصمة الفرنسية باريس التقى مختار بمصطفى عبد الرازق ومحمد حسين هيكل ومحمد صبري السربوني ونخبة من أبناء مصر مثلت بأفكارها وإبداعها زخماً مهد الطريق لثورة الشعب في عام 1919. وفي باريس أيضاً تولى إدارة متحف «جريفين»، وعندما طُلب منه تصميم تمثال لألمع فنانة مصرية اختار أم كلثوم وهي في بداية مشوارها الفني عام 1925 ليصنع لها تمثالا من الشمع بالحجم الطبيعي فاز عنه بجائزة معرض صالون باريس، علماً بأن مختار كان أول مثال «عربي» يقيم معرضاً شخصياً لأعماله التي انطلق بها فن النحت الحديث في البلاد.

غير أن سيرة هذا الفنان الكبير بلغت نهايتها بعيد عودته إلى مصر حيث أصيب بمرض في ذراعه اليسرى ليموت في مارس (آذار) عام 1934 قبل أن يكمل حلمه في نحت تمثال للإسكندر الأكبر والزعيم المصري أحمد عرابي.