ندوة أصيلة: تباين المقاربات إزاء ثلاثية «النخبة والسلطة والديمقراطية»

هيمن على مناقشاتها دور النخبة في العمل الديمقراطي

جانب من الجلسة الختامية لندوة «النخبة والسلطة والديمقراطية في الوطن العربي» مساء أول من أمس (تصوير: عبد اللطيف الصيباري)
TT

تباينت مقاربات المتدخلين في آخر جلسات ندوة «النخبة والسلطة والديمقراطية في الوطن العربي»، التي اختتمت أشغالها مساء أول من أمس بأصيلة المغربية، بصدد ثلاثية «النخبة» و«السلطة» و«الديمقراطية»، حيث تم التركيز، بشكل كبير، على دور النخبة في العمل الديمقراطي في الوطن العربي.

وذهبت بعض وجهات النظر إلى أن المراجعة النقدية لخطاب النخب العربية حول المطلب الديمقراطي تتطلب إعادة تصور العقد الاجتماعي لدفع وتحرير حركية الصراع الاجتماعي السلمي شرطاً لتحديث المجتمع العربي ونقله من ديمقراطية الإجماع الغائم الوهمي إلى ديمقراطية القطيعة والتجاوز، وإعادة تصور مبدأ السيادة في اتجاه الانفتاح على حركية صياغة وتجسيد القيم الإنسانية الكونية المشتركة، التي هي شرط انتزاع الحقوق وضمان الفاعلية في العالم، وإعادة تصور مبدأ التمثيل والانتخاب، الذي قد يتحول، خارج السياق الثقافي الانتخابي الليبرالي والتنويري، إلى تقويض الشروط الموضوعية للديمقراطية.

وقدم عبد الرحيم منار سليمي، الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، مجموعة ملاحظات، بصدد «التعميم»، فرأى أنه يتم الحديث في العالم العربي عن الديمقراطية كتجربة واحدة، بينما هي مجموعة تجارب، وقال: «إننا يمكن أن نصنف العالم العربي، سياسيا، في أربعة أنماط، لها تجارب مختلفة، وتعيش تحت أوضاع متباينة، وأننا نتحدث دون أن نحدد حديثنا زمنيا، إذ ظلت الكتابات السياسية، طيلة قرنين، تجيد الرواية التاريخية دون قدرة على توظيف التاريخ بطريقة مستقبلية».

ورأى سليمي أن النقاش لا ينطلق من نقطة الصفر، متسائلا: «هل ننطلق من الديمقراطية ونسير نحو المجتمعات العربية، أم العكس»، مشيراً إلى «اننا نتحدث عن الديمقراطية، دون القيام بعملية افتحاص، ودون أن نضع مسافة كافية مع المصطلح».

ودعا سليمي إلى التمييز في الحركات الإسلامية بين الحركات المتصوفة والمعتدلة والمتطرفة، وهي حركات قال إن علاقاتها بالسياسة والديمقراطية مختلفة، ملاحظاً أن هناك تسويقاً للخوف من الإسلاميين.

وطرح سليمي أربعة تساؤلات: هل العالم العربي استثناء في عملية الدمقرطة؟ وهل البلدان العربية لا تنتج إلا التطرف، وأشكالا من قبيل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، كما تذهب إلى ذلك كثير من الكتابات الغربية؟ وهل ان الأنظمة السياسية العربية استطاعت أن تمتص ضغوطات الإصلاح، وتتحول إلى نوع من السلطوية الحديثة، والتكيف مع متغيرات وضغوطات النظام الدولي، وتوظيف التناقضات الدولية؟ وتناول سليمي ثلاث قضايا، تروج الآن، الأولى بصدد النخبة الاقتصادية والنخبة السياسية في العالم العربي، والتي رأى أن الحديث عنهما يتم كما لو أنهما جنسان مختلفان، مع ملاحظة أن النخبة الاقتصادية هي نفسها النخبة السياسية. والثانية هي القضية الآيديولوجية، إذ لأول مرة تلتقي مطالب اليساريين مع مطالب الإسلاميين، ففي الميدان يلتقي اليساريون والإسلاميون، لكن الفرق أن الإسلاميين لهم القدرة على نقل المطالب إلى المجال السياسي في الوقت الذي يجد فيه اليساريون صعوبة في ذلك. والثالثة، هي قضية المثقف، حيث تساءل «من هو المثقف في العالم العربي؟ هل من يكتب نصا أدبيا هو مثقف؟ أم هو من يحمل قضية؟».

وعدد سليمي خمسة أصناف من المثقفين: المثقف الحزبي، والمثقف المعولم ـ الخبير لدى المنظمات الدولية، والمثقف في خدمة السلطة، والمثقف المعارض المنذر بالكوارث، والمثقف المهيج ـ الداعية. ثم تساءل «لمن نكتب؟»، حيث لاحظ أن الجسم العربي يعيش نوعاً من التباين على مستوى الهوية، ومقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يتم تهييجه من طرف هيفاء وهبي ونانسي عجرم، وقسم يهيجه بن لادن والظواهري، وقسم تهيجه المسلسلات التركية وغيرها. ليطرح، بعد ذلك، سؤال: «هل أصبح المثقف بدون قضية؟»، ملاحظا أن الزمن، حاليا، هو زمن اهتزاز وصراع الشرعيات، وبالتالي فالنخبة المثقفة هي في حاجة إلى البحث عن شرعيتها، ملاحظاً أن مفهوم الديمقراطية لم يتم إنزاله إلى الأرض بعد.

وانطلق محيي الدين اللاذقاني، الكاتب والصحافي السوري، من جملة «لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين»، ملاحظا أننا نتعامل في العالم العربي، في الغالب، مع السلطة كإرادة قهر لا كإرادة تنظيم مدني، يقوم على الاختيار الحر، وأنه ليست لدينا سلطة بالمفهوم المتعارف عليه نظرياً، بل إرادات مفروضة لمجموعة من النخب، على مستوى قبلي أو عسكري، وأننا، حين نتحدث عن النخبة السياسية والنخبة المثقفة، ننسى النخبة الاقتصادية، مشيراً إلى أن نخبتنا الاقتصادية، مثل نخبتنا السياسية، تقنع بالقليل وتقدم التنازلات. واختار الأديب المغربي أحمد المديني أن يتناول محور النخب والممارسات الديمقراطية، من خلال عنوان «الكاتب في المغرب، بين الوعي وسقوط المثال»، حيث قال إننا «نختار الكاتب، أو الكتاب بوصفهم يمثلون إحدى الشرائح المتميزة والقديرة والتي شغلت في مختلف المجتمعات مواقع متقدمة، وعبرت في مراحل حاسمة من تاريخ الإنسانية عن مواقف مؤثرة، سواء بإبداعاتها، أو بما نادت ودافعت عنه من قيم دفعت عنها الثمن الباهض، مما يعزز هذا الاختيار عندنا ارتباط هذه الفئة شبه الدائم بموقع الريادة التي تروم التغيير أو الإصلاح، وتنشد التجديد في مجالها الخصوصي، بانسجام مع أفق فكري وحياتي يريده للمجتمع، أيضا».

وتحدث المديني عن ارتباط وعي النخبة في العالم العربي بخطين متتاليين تاريخيا، ومتفاعلين فكريا وآيديولوجيا، واتخاذ الكاتب تدريجيا موقعا موجها ومؤثرا بينهما، أمكنه أن يتعزز مع تزايد انتقال الثقافة الغربية وتعبيراتها الحداثية المختلفة.

وتحدث المديني، في مرحلة تالية، عن «غربة الكاتب المغربي وعجزه عن تحقيق الوضع الاعتباري المحلوم به»، وأنه «لم يبق له إلا مجاله الأصلي، كتابته يغذيها ويتغذى بها روحيا»، الشيء الذي «ساعد على اغتناء الأدب المغربي وخريطة الثقافة المغربية عموما، غدا معه النص المجال الوحيد تقريبا للتفوق ومطمح النخبوية، وانصرف إليه الأديب والفنان وهو واع بأن المسافة بين التخييل والوهم والواقع تكاد تنمحي. في الآن عينه وجد نفسه ينفصل عن الجذر الاجتماعي الأول لنتوجه، وتخفف كثيرا من «عبء الالتزام».

وخلص المديني إلى القول إن الكاتب في المغرب انتقل من «الالتزام» إلى «الاغتراب»، وهو يحس أن الجميع تخلى عنه، ولا أحد مستعد للتعاطي معه بجد، أولهم مجتمع عزوف عن القراءة، وطبقة حاكمة وسياسية إن اعترفت بالكتاب والمثقفين فلتسخيرهم وتدجينهم، خاصة ان قسما كبيرا منهم إما رفعوا راية الاستسلام أو انكفأوا على كتاباتهم يرون فيها الملاذ والبديل عن كل شيء».

ورأى حسن إبراهيم، الاعلامي السوداني، أن الديمقراطية في الغرب جاءت نتيجة مسار طويل من التطور والتضحيات، في وقت نحاول نحن في العالم العربي أن نقفز بالزانة للوصول إليها، منتقدا النخبة العربية، التي قال عنها، إنها نخبة كسولة تتعالى على الجماهير، مشيرا إلى أن التغيير الذي يراد له أن يأتي من الخارج سيأتي بثمن.

وتوقف السيد ولد أباه، الكاتب والمحلل السياسي الموريتاني، عند ثلاثة محددات، هي التصور التعاقدي لفكرة الدولة، والتصور الإطلاقي للدولة، والتصور التمثيلي للديمقراطية، فبصدد التصور الأول، قال إنه ينطلق من قراءة مشوهة واختزالية للتجربة الأوروبية، حيث الديمقراطية ليست تجسيدا لعقد اجتماعي ثابت، بل هي تنظيم سلمي لصراعات اجتماعية دائمة ليس لها سقف معياري ولا خلفية عقدية أو آيديولوجية سابقة، تؤطر هذا الصراع القائم. والتصور الثاني ينظر للدولة بصفتها هوية وأساس الكيان الجماعي، ومن تم تحميلها مسؤولية كلية شاملة تتأرجح بين الحد الأدنى، الذي هو احتكار العنف المشروع والحد الأقصى، الذي هو صياغة الشخصية الوطنية، وقيادة عملية التحديث والتنمية. والتصور الثالث يختزل الديمقراطية في آلية الانتخاب، التي تبقى آلية إجرائية ضرورية في المسلك الديمقراطي، بيد أنها تقوم على مصادرة قدرة الميكانيكا الانتخابية في التعبير عن الإرادة الجماعية المشتركة.

وختم ولد أباه مداخلته بالقول إن المراجعة النقدية لخطاب النخب العربية حول المطلب الديمقراطي تتطلب إعادة تصور العقد الاجتماعي لدفع وتحرير حركية الصراع الاجتماعي السلمي شرطاً لتحديث المجتمع العربي ونقله من ديمقراطية الإجماع الغائم الوهمي إلى ديمقراطية القطيعة والتجاوز، وإعادة تصور مبدأ السيادة في اتجاه الانفتاح على حركية صياغة وتجسيد القيم الإنسانية الكونية المشتركة، التي هي شرط انتزاع الحقوق وضمان الفاعلية في العالم، وإعادة تصور مبدأ التمثيل والانتخاب، الذي قد يتحول، خارج السياق الثقافي الانتخابي الليبرالي والتنويري، إلى تقويض الشروط الموضوعية للديمقراطية، التي كان الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا قد حذر من ميلها للانتحار والتدمير الذاتي.

وطرح محمد سبيلا، الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، تساؤلات فلسفية ومنهجية حول مفهوم النخبة، وقال إن النخبة مفهوم تقريبي تعميمي مطاطي، الشيء الذي يجعله محط التباسات، ملاحظاً أن «النخبة» تستعمل كمسلمة واضحة، في حين أنه تكتنفه العديد من الالتباسات، فهو كمفهوم ضيق المدلول وواسع المشمول.

كما تحدث سبيلا عن التباس العلاقة بين النخبة والجماهير، وقال إن موضوع النخبة ليس محط تسليم كامل من طرف كل الاتجاهات، فهناك المدافعون عن النخبة الذين يرون أن الجماهير لا تفكر. وهناك اتجاهات سياسية، تدافع عن هذه الجماهير وتمجدها، وعلى رأسها الماركسية. وهناك توجه ثالث، يصطلح عليه فلسفة التشكيك، ورثت معطيات التحليل النفسي والماركسي، تشكك في خطاب الفاعل السياسي، وفي حسن نيته ومصداقيته.

وتعرض سبيلا لمسألة التصنيف على مستوى مفهوم النخبة، وقال إن أبسطها التصنيف القطاعي (نخبة اقتصادية ـ نخبة عسكرية)، مضيفاً التصنيف الوظيفي، الذي يقسم النخب من خلال تعددها (نخب الثروة ـ نخب القوة ـ نخب المعرفة ـ نخب الاستحقاق، التي تكتسب تميزها وريادتها من أفعالها ولا ترثها، أي أنها تنتزع التميز ببطولات رياضية وفنية وعسكرية أو شهادات).

ورأى سبيلا أن آليات تشكل النخب، صنفان: آليات تقليدية بالتوارث والمصاهرة والنسب والخدمة والولاء، وآليات حديثة تقوم على اكتساب الخبرة.

وركزت ندى المطوع، الباحثة في مركز الدراسات الاستراتيجية المستقبلية في جامعة الكويت، على علاقة العولمة بالديمقراطية، ودور القوى الناعمة (الفضائيات وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات) في التأثير على مسلسل الإصلاح السياسي، في دول الخليج، مركزة على دور المدونات ودور الإعلام في التحفيز على الديمقراطية.

وتحدثت فاطمة الصائغ، الأستاذة الجامعية الإماراتية، عن خصوصية دولة الإمارات العربية المتحدة، من جهة كيفية تعامل السلطة مع النخبة، متحدثة عن وضعية الرفاه التي جعلت الحراك الاقتصادي يهمش النخبة السياسية والنخبة الثقافية، مشددة على أن الحاجة تستدعي الاستناد إلى كل النخب وليس تهميش بعضها لصالح البعض الآخر.

وتحدث مصطفى الخلفي، رئيس تحرير جريدة «التجديد» المغربية، عن أربعة إشكالات كبرى، هي «النموذج» و«الفاعل» و«الخارج» و«الكيف». فبصدد النموذج، رأى أن السلطة ترفع منطق الخصوصية، في حين ترجع النخبة إلى منطق مستنسخ من قبيل فصل الدين عن الدولة. وبصدد الفاعل، تحدث عن منطق خاص للسلطة يقوم على ثلاثية الإدماج والاستبعاد والتجاهل، ورأى أننا نعاني أزمة الفاعل لأن جزءا منه فقد البوصلة، وأن قطاعا من النخبة تحول إلى آلية تبريرية في مواجهة الحركات الإسلامية. وبصدد الخارج، لاحظ أن كل المبادرات التي تدخل ضمن هذا الشق اصطدمت بواقع أن السياسة الأميركية مثقلة بأولويات أخرى، الشيء الذي جعل النخبة، التي كانت تراهن على العالم الخارجي، في وضعية يُتم. وبصدد الكيف، تحدث الخلفي عن خطأ العلاقة بين الديمقراطية والتنمية، مشدداً على أن الديمقراطية هي شرط التنمية، وليس العكس.