قلعة كركوك.. لا أحد يعيرها اهتماما

رغم ادعاء الكل بأحقيته في المدينة

السور الخارجي لقلعة كركوك وعليه علم إقليم كردستان فيما العمال يشيدون سياجا إضافيا يحيط بالسور (تصوير: كامران نجم)
TT

لو كانت قلعة كركوك التاريخية الأثرية حقلا نفطيا لتهافتت عليه الاحزاب والقوى السياسية العربية والكردية والتركمانية من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، وادعى كل منها احقيته في ادارة وضم كركوك، ولئن كانت القلعة موقعا أثريا يجسد حضارة المدينة وسكانها الاصليين فلا احد يعيرها أي اهتمام ولا حتى يكلف نفسه الحديث عنها او ادعاء ملكيتها حتى صارت جدرانها ومناراتها وقبابها تتهاوى شيئا فشيئا لتغدو أطلالا.

بهذه العبارات المؤثرة والصادقة استقبل محمد امين الحارس الكردي لإحدى بوابات قلعة كركوك التاريخية فريق «الشرق الاوسط» الذي قصد ذلك الموقع الأثري الضارب في القدم لتسليط الأضواء على جانب من تاريخها السحيق وحاضرها المؤلم وشواخصها التي تحكي قصص شعب من أعرق وأقدم شعوب المنطقة بأسرها. فمن بابها الشرقي المطل على جسر الطبقجلي الشهير دخلنا القلعة التي بدت أجزاء واسعة من سورها العتيد وجدران مبانيها متهالكة وآيلة للسقوط قبل ان نمر بالبيوت القديمة المتراصة التي تظهر على جدرانها المهترئة الكتابات المسمارية والنقوش والزخارف القديمة التي تعود الى العهدين السومري والآشوري.

وفي أقصى القلعة الكائنة على مساحة تصل الى 5 كيلومترات مربعة وعلى قمة أعلى تلة في كركوك، هناك ضريح النبي دانيال عليه السلام والى جانبه مئذنة عالية يصل ارتفاعها الى 15 مترا تقريبا، لكن البحوث والدراسات الدقيقة التي أجراها الباحثون والمتخصصون في مديرية الآثار بالمحافظة أظهرت أن جثمان النبي دانيال لم يدفن في كركوك أصلا. وكان هذا الضريح الوهمي القديم قد رمم في عام 1997 من قبل المديرية العامة للآثار في كركوك، إلا انه تهالك من جديد بفعل عوامل المناخ والإهمال الشديد.

وفي الجهة المقابلة للجامع او الكنيسة السابقة هناك مرقد القبة الخضراء التي ترقد تحتها فتاة يقال إنها اذربيجانية او تركية تدعى (بغدة خاتون) توفيت في كركوك قبل سبعة قرون لدى عودتها من الحج. وهذه القبة التاريخية أعيد ترميمها ايضا مطلع الثمانينيات من القرن الماضي إلا ان غارات الطائرات الاميركية على كركوك عام 1991 عشية حرب تحرير الكويت ألحقت أضرارا بالقبة فتهاوى بعض أجزائها ثم أعيد بناؤها من جديد بعد الحرب أواخر التسعينيات، إلا ان غياب الصيانة الدورية تسبب في تهالك جدرانها مجددا. وفي الجانب الغربي من القلعة هناك جامع يدعى جامع (فضولي البغدادي)، وسمي الجامع باسم الشخص الذي بناه وهو فضولي باشا الذي كان من أحد أثرياء كركوك وعاش في بغداد وتوفي ودفن في اذربيجان، هذا بالاضافة الى سلسلة من البيوت التراثية التي يزيد عددها على عشرة بيوت يعود تاريخها الى 200 عام مضى. وأسفل القلعة هناك نفق طويل اكتشفه فريق من الباحثين في مديرية الآثار بكركوك عن طريق الصدفة اثناء قيامهم بإزالة انقاض احد البيوت القديمة المبنية فوق النفق تماما والذي تهاوى ليدمر جزءا من النفق في أسفله والذي صار واضحا للفريق الفني الذي اكتشف أن النفق المذكور كان خطا سريا لإيصال الامدادات والمؤن الى القلعة في أوقات المحن والحروب، ونتيجة لتواصل اعمال البحث والتنقيب اكتشف الفنيون والخبراء قيصرية قديمة اسفل القلعة التي تعود في تاريخها الى العهد السومري طبقا للكتابات التي وجدت في بعض أجزائها، والتي تضم 34 دكانا موزعا على صفين متقابلين بواقع 17 دكانا في كل صف يتوسطهما ممر واسع، وقد تولت مديرية الآثار إعادة ترميم وتحديث تلك الدكاكين التي غدت جاهزة لتكون سوقا تاريخيا وأثريا في حال تحويل موقع القلعة الى موقع سياحي او تجاري.

وفي الجانب الشمالي من القلعة هناك مقبرة واسعة تضم رفات أموات من مختلف القوميات في كركوك واغلبهم تركمانية وكردية، حيث كان الاعتقاد السائد لدى سكان منطقة القلعة القدماء يحثهم على دفن امواتهم قرب ضريح النبي دانيال عليه السلام ليحظوا برحمة الله وشفاعة النبي. وأوضح شيدا محمد امين المدير الفني في مديرية الآثار ان المديرية تخطط منذ فترة طويلة لتحويل القلعة الأثرية الى موقع سياحي لجذب السياح والزوار من خلال اعادة ترميم مباني ومرافق القلعة بشكل هندسي دقيق وطبقا لتصاميمها الاصلية التي بنيت عليها منذ الأزل، اضافة الى تحويل بعض من قاعاتها الى متاحف وأماكن للمناسبات والتجمعات الشعبية والرسمية، واضاف ان مديريته طلبت مرارا من وزارة السياحة والآثار العراقية التي ترتبط بها اداريا تخصيص اموال لتمويل مشروع اعادة ترميم القلعة التاريخية في كركوك، إلا ان الوزارة ما برحت تتجاهل ذلك المطلب ولم تخصص حتى الآن دينارا واحدا لهذا المشروع الحضري والوطني، متحججة في ذلك بضرورة تسليم المشروع الى المقاولين عبر المناقصة الاعتيادية، في حين ان إعادة ترميم تلك المباني الأثرية المطرزة جدرانها بالنقوش والزخارف المعقدة تحتاج الى مختصين بارعين في هذا المجال، حسب تعبير أمين، الذي اردف بالقول «ان هيئة تنمية الاقاليم في العراق خصصت نحو 500 مليون دينار عراقي لتمويل مشروع إعادة إعمار إحدى القاعات التاريخية القديمة في منطقة القشلة بكركوك عام 2006، إلا ان دينارا واحدا من ذلك المبلغ لم يصل الى المديرية لحد الآن».

ويؤكد أمين أن مباني ومرافق القلعة الأثرية تحتاج الى صيانة دورية كل بضع سنوات لأنها مبان قديمة جدا وغير قادرة على مقاومة عوامل المناخ. ويشدد أن تلك المباني باتت الآن معرضة للدمار والتهالك التام ما لم يتم إسعافها على نحو عاجل، وان المديرية قدرت تكاليف اعادة الصيانة بنحو 12 مليار دينار عراقي وان العمل في المشروع قد يستغرق نحو 5 سنوات. وعن دور حكومة اقليم كردستان في هذا الميدان، قال امين «حكومة الاقليم تعرض علينا المساعدة بين الحين والآخر، لكنها لم تتخذ خطوة عملية في هذا الاتجاه بعد». ونبه أمين الى خطورة المشروع الذي ينفذ في كركوك حاليا والمتمثل في مد الطريق الدائري حول المدينة بأكملها والذي يمر عبر منطقة اثرية غاية في الاهمية، داعيا الجهات ذات العلاقة الى وقف العمل في ذلك المشروع حفاظا على ذلك الموقع التاريخي الهام والثمين الذي يعتبر ثروة وطنية، مشيرا الى ان احد المستثمرين من اهالي كركوك عرض على المديرية فكرة ترميم القلعة وتحويلها الى موقع أثري سياحي على نفقته الخاصة، وقد رفعت المديرية الطلب المذكور الى وزارة السياحة والآثار في بغداد منذ عدة أشهر من دون الحصول منها على أي رد رسمي لحد الآن.