عادات الأجداد تستعيد بريقها.. مع الأحفاد

مهرجانات «العولة» في تونس.. تنتقل من الريف إلى المدن

تسعى العائلات القاطنة في المدينة إلى تكليف بعض النساء العارفات بخفايا المأكولات التقليدية بغية إحضار «العولة» بأصنافها («الشرق الاوسط»)
TT

مع بداية موسم حصاد القمح والشعير، الذي عادة ما ينطلق مع نهاية شهر يونيو (حزيران) من كل سنة، تستعيد الجدات الكثير من نشاطهن وتبحثن في ثنايا البيت عن مجموعة التجهيزات التي ستستعملها في صناعة «العولة» بشتى أصنافها. والعولة ظاهرة اجتماعية صيفية تعرفها المناطق الريفية على وجه الخصوص، إلا أن هذه العادة امتدّت الآن إلى الأوساط الحضرية، بعدما استشرت أمراض العصر وأصبح البحث عن الغذائي المصنع بطريقة يدوية يلقى الكثير من الحفاوة في المجتمع التونسي. ولذلك تسعى العائلات القاطنة في المدينة إلى تكليف بعض النساء العارفات بخفايا المأكولات التقليدية بغية إحضار «العولة» بأصنافها، وقائمة المواد الغذائية التي يمكن تحضيرها وتصبيرها ثم تخزينها طويلة، وهي موجهة بالأساس لمجابهة أيام العسر والاعتلال وضمان قوت العيال خلال أيام الشتاء القارسة البرودة.

البداية تنطلق بجمع الصابة ـ أو الغلة ـ والمحصول الزراعي في المخازن المعدة سلفاً لذلك، وهناك من يستعمل الطرق النظيفة في الخزن، بصنع ما يسمى بـ«الخصّ» وهو عبارة عن بقايا سيقان الشعير التي ترصف إلى جانب بعضها البعض، ثم تشد من أحد جوانبها مستقيمةً إلى الحائط، فإذا بها لا تختلف كثيرا عن الخزان توضع فيه صابة الحبوب بأصنافها كلا على حدة. وتعول العائلة التونسية على القمح، الذي يصنع منه الكسكسي باعتباره الأكلة الشعبية والأكثر استهلاكاً من قبل معظم العائلات، وكذلك خلى الشعير، كما تهتم العائلة التونسية بإعداد الشربة التي لا تخلو منها طاولة تونسية خلال شهر رمضان. أيضاً تستغل العائلات فرصة الوفرة من الإنتاج الزراعي الصيفي من خضار وفاكهة، فتعمل على تخزين أكبر نصيب منها، وتضم القائمة الطماطم والفلفل والتوابل بمختلف أصنافها، والفاكهة مثل السفرجل والتين والمشمش، ولكل منطقة خصوصياتها التي تعمل على حسن استثمارها.

وإذا رجعنا إلى الكسكسي، باعتباره الأكثر شيوعاً، فإن العملية تنطلق مباشرة بعد جمع الصابة، فتخرج الرحى التقليدية ذات الشكل الدائري من مكمنها. وتحتاج العملية لامرأة واحدة أو امرأتين تتداولان على الرحى، وغالبا ما تكون فترة الجرش او الهرس بالرحى مرفقة بأغاني بدوية، وكثيراً ما تستعين النسوة بعضهن ببعض لأداء المهمة التي قد تتواصل لأيام.

وتبتلع الرحى حبات القمح التي تتدحرج من الفك الأعلى من الرحى، ويقبض الفك الأسفل بدوره على الحبات الذهبية، فإذا بها قد تحولت إلى سميد شهي، حتى قبل أن تجرى عليه بقية العمليات. ويغربل السميد لإزالة مجموعة الشوائب التي رافقت عملية الرحى، وخاصة من الأنسجة الواقية لحبات القمح والمعروفة باسم «النخالة» التي تقدم بدورها طعاماً للكلاب. وتأتي النسوة بدلاء الماء الصافي، الذي يخلط بالضرورة بالملح كطريقة للتصبير، ثم توضع القصاع الكبيرة، ويوضع فيها السميد ثم يخلط بقليل من الماء مع مراعاة ألا يتحول إلى عجين، ومن ثم يمر الخليط بعد ذلك على الغربال و«الممضة» ـ وآلة هي شبيهة بالغربال، إلا أنها أقل عياراً ومنها أنواع توصي بها المرأة ـ وذلك لاستخراج الكسكسي سواء من الصنف الرقيق أو الخشن. أما ما يعلق من السميد الذي تحوّل تحت ضغط الأيادي إلى كسكسي، فإنه يدخل في باب «المحمصة» وهي كذلك من بين أهم الوجبات التي تعتمد عليها العائلة التونسية، باعتبار أنها تطبخ مع الخضار الشتوية المختلفة من جزر ولفت وبصل وسلق وعدس وحمص، فتكون بتركيبتها العجيبة إحدى الوجبات الواقية من برد الشتاء، خاصة في المناطق الريفية والجبلية أساساً. بعد ذلك يوضع السميد الممزوج بالماء المالح، الذي حركته الأيدي بحرفية ومعرفة دقيقتين كي تحافظ عليه من الانقلاب إلى عجين لا يصلح لشيء، فوق قدر كبير من الماء ليأخذ نصيباً من البخار قبل أن ينزل من عليائه ويحوّل إلى أسطح المباني، وهنا يصار إلى تشميسه تحت أشعة الشمس الصيفية أو الخريفية الساطعة. ثم يخزن بعد ذلك في جرار كبيرة تحافظ عليه من الرطوبة، وبالتالي يُلجأ إليه كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وتستعمل المرأة التونسية خبرتها وحنكتها في توزيع ما توفر لديها من مخزونات غذائية على مدار السنة، أي إلى حلول موسم الحصاد الموالي. ولئن عوّضت الرّحى التقليدية التي يمتد عمرها إلى قرون من الزمن، بالطاحونة العصرية، فإن عادة الاستفادة مما وهبته الأرض من خيرات، لم تفقد بريقها لدى العائلة التونسية خلال العقود الماضية، حتى وان تخلّت العائلات الشابة عن هذه العادة بعض الشيء. فإن الفوائد العميمة التي ظهرت لهذه المأكولات والربح المادي المهم الذي تؤمّنه للعائلة وضمان تزويدها بالكثير من حاجياتها مندون التفكير في الأيام الصعبة، جعلت هذه العادة الشعبية تستعيد موقعها من جديد. حول هذه العادة وأهميتها في ضمان قوت العائلة خلال الأيام الصعبة، قالت الجدة رمضانة بن موسى «إن العولة رحمة من الله للناس. فهي عملية بسيطة في ظاهرها، لكنها كبيرة في منافعها، إذ لم يكن تصيبنا الأمراض نفسها التي نلاحظها لدى أناس اليوم رغم أننا نأكل ما توفر لنا من أكلات بسيطة. فقد اتضح أنها مهمة ولها انعكاسات ايجابية على الصحة وعلى المصروف العائلي». وتضيف «أدعو جميع التونسيين إلى الاهتمام بهذه العادة الطيبة، فالأيام تتوالى ولا ندري ما الذي تخفيه لعائلاتنا، وعلينا على الأقل أن نضمن لها جزء مهماً من قوتها».

وتؤكد فاطمة الهمامي بدورها على أهمية «العولة» فتقول إنها «عملية توفر غذاءً نظيفاً للناس بعيداً عن ملوثات العصر.. وأنا أصنع بيدي ما سآكله وأنا مطمئنة البال، ولا يهمني إن أغلقت الفضاءات التجارية أو واصلت نشاطها، فلدي ما يجعلني مطمئنة على قوت العائلة بتكاليف زهيدة وعلى مدار السنة».

ويقول فتحي القاسمي المهتم بالتراث «للعولة مهرجانها السنوي وهو فسحة لتمتيع النظر ولإكرام البطون، وتغذية العقول التي تروم الانفلات من تعب الحياة والعودة، ولو لحين، إلى المعتّق من عاداتنا والأصيل من تراث الآباء والأجداد في مهرجان سنوي بهيج».

وهكذا فإن «العولة» ـ التي يسميها البعض في المشرق العربي «المونة» ـ ظاهرة غذائية لا تزال قائمة منذ العهد القرطاجي. وهي اليوم تتحول إلى عملية حضارية بالأساس، يتنافس من خلالها الأصيل مع الوافد من عادات غذائية تعتمد على السرعة في كل شيء. ومن الإيجابيات المشجعة أنها تجد من يهتم بها من العائلات التونسية، وهي تتقدم بسرعة ملحوظة في زحف تدريجي نحو المدينة.