«رمضان كريم».. بطاقة محبة على ألسنة المصريين

طقس يتجدد يوميا

فوانيس رمضان تزين أحد المحلات التجارية في القاهرة («الشرق الأوسط»)
TT

بمجرد إعلان المفتي بدء دخول شهر رمضان، تتغير القاهرة وتتبدل كائناً آخر، بل يتبدل معها الناس، إذ تكسر المدينة الأكثر ازدحاما في الشرق حدة الملل عبر استقبال شهر مختلف كلية عن باقي أشهر السنة. ففي رمضان يترك المصريون التقويم الميلادي ويبدأون في الحساب بالتقويم الهجري، ويمكن أن يدعوك شخص للإفطار في منزله قائلا «الإفطار عندي يوم الخامس من رمضان، أو الثاني عشر من رمضان»، ويسير الجميع على هذا التقويم الرمضاني طوال الشهر، حتى وزارة الثقافة التي تعلن عن برامجها الثقافية في وسائل الإعلام تستخدم نفس التوقيت الذي يبدو وكأنه توقيت الدولة الرسمي في الشهر الكريم.

وفي رمضان أيضاً ترتدي مساجد مصر حلة جديدة استعدادا لاستقبال المصلين الذين يحرصون على أداء الصلوات الخمس وصلاة التراويح في المسجد. ويقوم الأزهر الشريف بتعيين أئمة للمساجد الكبيرة وتسيير قوافل دينية في القرى والمدن لنشر صحيح الدين وعقد الندوات الدينية، ويتسابق المصلون للذهاب إلى المساجد التي تشتهر بمشاهير القراء للاستمتاع بتلاواتهم والصلاة من خلفهم، إذ يزدحم أقدم مساجد العاصمة مسجد عمرو بن العاص وغيره من المساجد الكبرى بالعاكفين والركع السجود منذ بداية الشهر طمعاً في التماس ليلة القدر وحضور ختمة القرآن التي تحظي بأهمية خاصة لدى القاهريين. يواكب الإعلان عن رمضان في مصر هذا السيل المنهمر من أغاني الترحيب به، تراث غنائي كامل لا يمكن تصور قدوم رمضان دون الولوج إليه. يستعيد الكبار عبر صوت المطرب الرحل محمد عبد المطلب بصوته الأجش الجميل «رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه...أهلا رمضان» لحظات الطفولة البعيدة، وبهجة الإفطار مع العائلة والفانوس والمسحراتي والسحور في منطقة الحسين التاريخية، بينما ينهمك الصغار في مشاهدة القنوات الفضائية التي تعلن الترحيب برمضان لكن على طريقتها الخاصة. طقوس رمضان تتجدد يومياً لدى المصريين لتضفي على الشهر الكريم رونقا يميزه عن باقي أشهر العام، وتبدأ مفردات هذه الطقوس مبكراً، فمنذ أواخر شهر شعبان تتزين الطرقات والمحلات والمساجد، وتنشط حركة البيع والشراء على نحو استثنائي في المتاجر والأسواق التي تشهد إقبالا كبيرا للتزود من المواد الغذائية والياميش الذي يشهد رواجاً خاصاً في الشهر الكريم.

والحكومة من جانبها تستعد لرمضان عبر خطة مشتركة بينها وبين القطاع الخاص لضمان استقرار الأسعار وتوفير كافة السلع الاستهلاكية التي يزيد الطلب عليها مثل اللحوم والدواجن والأسماك والخبز والخضروات والفواكه في المجمعات الاستهلاكية والمنافذ العامة والشوادر. وفي رمضان هذا العام سيتم زيادة كميات هذه السلع بمقدار 25% عن العام الماضي، فضلا عن تعديل مواعيد تشغيل المخابز البلدية لمراعاة توفير الخبز المدعم بسهولة قبل وجبتي الإفطار والسحور، ومن جانبها تمدد هيئة النقل العام ساعات العمل حتى الواحدة صباحاً. وفي الليلة الأولى لرمضان يبدأ المصريون في الاتصال ببعضهم البعض للتهنئة التي تعد طقسا لازما من طقوس الدخول في أجواء رمضان، أفراد الأسرة، زملاء العمل، أصدقاء قدامى، وكأنها فرصة لإنعاش العلاقات الإنسانية وجبر التقصير فيها، في خضم اللهاث المتجدد طوال أيام السنة. ويتفنن البعض في إبداع رسائل «محمولية» تتميز بالتجديد والابتكار وخفة الظل المعروفة، تعزف أحيانا على الوتر السياسي، لكن بروح رمضانية طيبة. ومن منطقة إلى أخرى تختلف مظاهر فرحة المصريين برمضان، ففي القاهرة التاريخية، يفوح عبق الشهر الكريم ويمتزج في هذا العبق تراث الماضي بالحاضر، على إيقاع رمضاني يتميز بالبساطة والصفاء، وتزدحم المقاهي القديمة بزوارها أمام المشهد الحسيني والغورية، ويتوزع الزائرون ما بين العروض التي تحرص وزارة الثقافة على تقديمها طوال الشهر في وكالة الغوري، وحديقة الأزهر، وقصر بشتاك، وبيت الهراوي وغيرها من الأماكن التي تحيي ليالي رمضان عبر استضافة مدارس متنوعة من الفن الشعبي والغناء الديني الذي يجد متنفسا كبيراً له في الشهر الكريم.

وفى الأحياء الشعبية تتسم فرحة رمضان بمذاق وطعم آخر، حيث تشع البهجة في عيون الفقراء والبسطاء، وتكثر الإضاءة في الشوارع وتعلق نماذج كرتونية مصغرة للمساجد والفوانيس على أبواب المنازل. كما يخرج الصغار حاملين الفوانيس يطوفون في الحواري والأزقة وهم يرددون تلك الأغنية الأثيرة «وحوي يا وحوي.. رحت يا شعبان جيت يا رمضان». وهناك لا يزال يمكن رؤية «المسحراتي» بطبلته، وهو يطوف شوارع وأزقة الحي وهو يقرع على طبلة مردداً «اصح يا نايم..وحد الدايم.. وحد الرزاق .. رمضان كريم» وينادي على من يعرفه باسمه حتى يستيقظ لتناول طعام السحور وصلاة الفجر.

ولرمضان صخبه الخاص أيضا، يمكن رؤيته في ضجيج الشارع بعد الإفطار، إذ تتحول منطقة وسط القاهرة إلى كرنفال رمضاني يزدحم بالعائلات والشباب والزوار الأجانب الذين يقضون على المقاهي والمطاعم الليل انتظاراً لتناول السحور في أجواء احتفالية يندر رؤيتها في غير أيام رمضان.

وفي المناطق الراقية لا يختلف الحال كثيراً، إذ تزدان الشوارع والمنازل والشرفات بالفوانيس، وتعد المقاهي والمطاعم الفاخرة خاصة المراكب النيلية العدة لاستقبال زوارها وإعداد قوائم طعام خاصة بالإفطار والسحور، حيث تفضل الشركات والهيئات إقامة حفلات الإفطار السنوي على متن هذه السفن حيث هواء النيل العليل خاصة مع مجيء رمضان قرب الصيف هذا العام. ومن المظاهر الجميلة المرتبطة بشهر رمضان حتى هذه الأيام، اهتمام القادرين بمد موائد الإفطار، أو بتعبير المصريين (موائد الرحمن)، إلا أنه من المرجح هذا العام أن تشهد موائد الرحمن انحسارا لما كانت عليه في الأعوام الماضية، خاصة بعد أن انطلقت قبل حلول شهر رمضان بأيام قليلة دعوة شبه رسمية في عدد من المحافظات المصرية مثل القاهرة والإسكندرية والبحيرة والدقهلية لتقنين موائد الرحمن بالتركيز على إرسال مساعدات مالية أو عينية للأسر الفقيرة في صورة «شنط» تحوي عدداً من السلع الغذائية لتصل هذه المساعدات إلى مستحقيها في أفضل صورة، وبشكل يحافظ على مشاعر المتعففين منهم، هذه الفكرة لاقت ترحيبا واسعا من قبل بعض المحافظين والمجالس الشعبية والمحلية في تلك المحافظات وأيضا قبولا واستحسانا من جانب رجال الأعمال والمتبرعين للإنفاق على هذه الموائد وكذلك أهل الخير والجمعيات الأهلية، ومنظمات المجتمع المدني والعلماء المسلمين، الذين يرون أن موائد الرحمن تشهد إسرافا وسوء تنظيم، غير أن آخرين يتمسكون بضرورة الإبقاء على الموائد بموازاة المساعدات العينية ورفضوا إلغاء هذه الموائد، وطالبوا بتقنينها فقط بحيث لا يحرم منها من هم على سفر، أو العمال الذين يتواجدون في أعمالهم وقت الإفطار.

لكن أجمل ما في رمضان كلمة «رمضان كريم» والتي تعد بمثابة ميثاق وعرف اجتماعي يعني التسامح والتكافل والتراحم بين المصريين بشتى انتماءاتهم ومشاربهم الاجتماعية.