محطة سكة حديد مصر .. شيّدها الخديوي إسماعيل ليباهي بها أوروبا

على أرصفتها قصص وحكايات توجع القلب

محطة سكة حديد مصر («الشرق الأوسط»)
TT

«الحياة أماكن وذكرى ومحطة سكة حديد».. لا أتذكر في أي من الروايات الأدبية قرأت هذه العبارة القابعة في ذاكرتي، لكنها تقفز إلى ذهني في أماكن عدة. ومن أكثر هذه الأماكن محطة سكة حديد مصر، أو «باب الحديد» أو «محطة رمسيس» كما يطلق عليها المصريون. لكن هل يعلم كثيرون أن موقع المحطة الحالي للمحطة كان يمر فيه نهر النيل؟ وكان ينتشر به السقاؤون حاملين القرب المملوءة بالماء؟ وكان النيل آنذاك محاطاً أيضاً بالمصانع والترسانات والأساطيل التي بناها السلطان صلاح الدين الأيوبي لمحاربة الصليبيين؟ كان ميدان رمسيس المكان المختص بعصر الزيوت، وعرف باسم «باب البحر»، ثم بعد ذلك بـ«باب الحديد» لأنه كان محاطاً ببوابة حديدية. وبرغم زوال تلك البوابة حوالي عام 1798 م، فإن الاسم التصق بالمحطة.

وبعد الثورة وفي خمسينات القرن الماضي نقل تمثال ضخم لرمسيس الثاني لينتصب أمام المحطة حارساً مهيباً للزمن، واكتسبت المحطة بفضله اسما جديد هو «محطة رمسيس»، والطريف أنه بعد ذهاب البوابة والتمثال ظل الاسمان لصيقين بالمكان، ولم يفارقا بعد وعي المصريين. «ابتعد عن القاهرة فهي مدينة الناموس والبعوض». هذه العبارة سمعها الخديوي إسماعيل، حفيد محمد علي والي مصر، فشعر بالغضب وقرر أن تصبح القاهرة أجمل مدن العالم. وعلى الأثر طلب من الإمبراطور الفرنسي نابوليون الثالث أن يتولى المهندس الفرنسي العالمي البارون جورج ـ أوجين هاوسمان، مخطط باريس، تخطيط القاهرة، وكانت إحدى أهم مفردات تلك النهضة تطوير أداء السكة الحديدية الذي أسست في عهد الخديوي سعيد عام 1854 من الإسكندرية، لكنها حسنت ووسعت في عهد إسماعيل، وجرى اختيار مكان محطة باب الحديد محطة رئيسية لها. وبذا أصبحت القاهرة إحدى طليعة مدن العالم التي أسست فيها محطة قطارات، أما مصمم المحطة فكان المعماري البريطاني آدون باتر عام 1855.

«قناوي.. كان هنا» قالها وهو يجر ـ على رصيف المحطة ـ خطواته المكدودة وسنين عمره التي جاوزت الثمانين.. حين اقتربت منه سألته: تقصد فيلم «باب الحديد» للراحل يوسف شاهين؟. أجابني «إيوه هو الفيلم ده». وحين دعوته للجلوس قليلا، أشاح بوجهه عني «مش قادر أتكلم وما فييش نفس»، لكن ظهره المحني أعادني إلى فيلم يوسف شاهين وشخصية «قناوي» المخبول التي أداها شاهين ببراعة. الفيلم الذي أنتج عام 1958 ولا يزال يثير الأسئلة التي أثارها حول مشاكل «الشيالين» (أي العتالون أو الحمالون)، وبخاصة من يعملون بمحطة السكة الحديد، وحقهم في نقابة مهنية، تحميهم، وتؤمن حياتهم ضد مشاكل العجز والمرض والبطالة! تركت الشيخ العجوز إلى حاله وذهبت، وعرفت من آخر كان يراقب الموقف.. أن اسمه «العم رفاعي» شيخ الشيالين، عمره 85 سنة وما زال يعمل!!. وعندما عرف جمع الشيالين بمهمتي انفضّوا من حولي بشكل غريب فسألتهم «لماذا ابتعدتم!؟».

فردوا: «لا نريد مشاكل». وفي أثناء ذلك انقض عليهم رجل ونهرهم: «ممنوع الكلام مع الصحافيين وأغلظ لهم القول».

القطارات لا تنقطع.. وأنا أكاد لا أصدق نفسي.. كيف يعمل في هذه المهنة من هو في هذه السن وأحنى العمل ظهره بهذا الشكل؟.. على رصيف آخر اقتربت من أحد الشيالين، عرفته من خلال زيه الأزرق والشارة النحاسية، ولم يكن موجوداً في الجمع السابق، لذا فهولا يدري عن مهمتي شيئاً. سألته عن قطار أسوان فقال: «اسألي هناك فأنا شيال». قلت: «عندك كم سنة يا حاج؟» فأجاب: «64 سنة». وعرفت منه أنه يعمل هنا منذ 40 سنة، وكان قد جاء من سوهاج في جنوب مصر ورمته لقمة العيش على رصيف المحطة على حد قوله. ومع مرور السنين تكيّف مع المكان ومتاعبه، وخلالها حمل صليب نصر الله، المواطن القبطي، حقائب وأثقال الكثيرين من الناس.. أجانب، عرب، مصريين، لكنه تعب يريد أن يستريح: «ليس لنا مرتب أو معاش برغم تقديمنا ملفاً فيه كل الأوراق .. مثلنا مثل أي مواطن يعمل في الدولة، وكشفنا كوميسيون طبي بمستشفى السكة الحديد لكننا لن نخرج للمعاش أبداً بل نعمل حتى النهاية مهما كانت الأمراض والمتاعب حعيش منين أنا؟!» تركني صليب نصر الله. وبدأت دمعة حارة تنحدر من عيني وذهب بصري بعيداً إلي سقف المحطة الواسع الشديد الارتفاع الذي يوحي بالرهبة، وتأملت صورة العمارة الإسلامية بزخارفها وعناصرها الجميلة. إنها جدارية جميلة تقاوم فجاجة الروح والزمن. تتعانق معها جدارية أخرى كبيرة من الموازييك، تزين واجهة المبني الإداري للمحطة صممها التشكيلي المصري اللامع صلاح عبد الكريم. لكن لماذا يفضل المصريون القطار برغم الحوادث المروعة التي حدثت في السنوات الأخيرة والارتفاع العالي في أسعار التذاكر؟ معالي أحمد، موظفة في شركة عصائر، تقول: «مازال القطار أكثر وسائل السفر أماناً والحوادث فيه قليلة بالنسبة إلى غيره». يوافقها محمد عبد العزيز تمام، أحد الركاب يعمل بالتجارة مشيراً إلى أن «حوادث القطارات عارضة وطفيفة، والسفر بالقطار هو الأسرع والأكثر راحة».

وكالعادة في التغني بالأشياء الحميمة احتفى المصريون طرباً بالقطار وبمحطة السكة الحديد. فعفاف راضي تخاطب القطار في أغنية جميلة، تقول فيها:

«يا وابور الساعة اتناشر يا مقبل ع الصعيد حبيبي قلبه دايب وانت قلبك حديد» وفي الذاكرة رائعة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب «يا وابور قل لي رايح على فين .. تطلع كوبري تنزل كوبري». كذلك لم يسلم القطار ومحطته من سخرية المصريين ومزاحهم، فأطلقوا عليه سيلا من النكات الطريفة: «قطر ساب المحطة وراح الصيدلية يحط قطرة».

لم أكد أضحك لهذه النكتة حتى استوقفتني داخل المبنى الإداري للمحطة لوحة من الرخام عليها بضعة أسطر رثاء مؤثرة جاء فيها: «الدكتور المهندس سيد عبد الواحد مدير عام سكك حديد وتلغرافات وتليفونات الحكومة ومدير المواصلات سابقاً توفي على مكتبه مساء الأربعاء 29 أكتوبر 1952 الموافق 10 صفر 1372». قال لي أحد العاملين في السكة الحديد ورفض ذكر اسمه: لقد مات على مكتبه وهو يعمل مساء، ويقولون إنه كان متيماً بحب محطة السكة. نسيت أن أقول أنني عندما لا أجد صحيفة أو مجلة مصرية أو أجنبية، أو عربية إلا وأجدها في محطة رمسيس؛ حيث تزخر المحطة بالعديد من أكشاك الصحف. أغادر المحطة، أغادر عالماً منفرداً بذاته، قادراً على التناغم مع من حوله، والتصالح مع متناقضات كثيرة، ربما يحلها الزمن .. ومن بعيد لا يزال صوت القطارات يصدح ..

«صفر قطر المحطة فكّرني بالحبايب لقيت البال مسافر ولقيت القلب دايب»!