إيزيس نصار تروي حكاية «الحروب والكوارث الطبيعية والتنوع الثقافي»

ريشة ترسم وحدة الإنسان في المأساة

لوحة «نازحو حزب الله 2006 لبنان»
TT

اللافت في اعمال الفنانة اللبنانية الاصل ايزيس نصار هو أن الزائر يحتار على ماذا يركّز، أعلى مقدّمات اللوحات أم على الخلفيات؟ لا فرق ما دام الاثنان مشغولين بتأنّ ورفق.

حكاية «الحروب والكوارث الطبيعية والتنوع الثقافي»، ترويها نصار في معرضها الذي يقام في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت، وهي تضم 32 لوحة و7 أعمال تجهيز اتخذت المآسي مادة لها. غاصت فيها الى أعلى درجات الالوان رغم سواد الموضوع. جعلت الانسان، أيا تكن هويته او عرقه، محورها بملامحه وقامته وأعضائه. فالمهم انه انسان. ولذلك هامت في بلدان مختلفة. من لبنان اتجهت الى فيتنام قبل ان تنعطف صوب القارة السمراء وتحديدا نحو مالي، توغو، مدغشقر، بينين. غيّرت الامكنة انما المأساة واحدة.

لكن هذا الاهتمام بالانسان لا يعني اهمال الخلفيات، لانها حازت هي ايضا درجة عالية من العناية. وليس خفيا ان ريشتها منهمكة في رسم الاماكن وفي إيلائها المكانة التي تليق بها: انها «صدر» الخلفيات والخشبة التي تدور عليها «احداث» اللوحة. أما «أبطالها» فهم البائسون الذين يتلقون الكوارث ويتحمّلون عواقبها من دون فغر أفواههم. كأنهم محكومون بالصبر من دون التشكّي، لكنّ عيونهم تشي بما في دواخلهم. وكأنها فوّهات تنبعث منها حمم العذاب.

افتتحت نصار معرضها بثلاث لوحات نموذجية تؤرشف حرب يوليو (تموز) 2006 الاسرائيلية على لبنان وفيها تختصر ابرز محطاتها. الاولى لقطة لمصنع مدمّر، فيما الثانية من ضاحية بيروت الجنوبية والثالثة لـ«نازحي حزب الله». وما سمح بكسر قتامة هذه المشاهد هو تنوع ألوانها. إذ من الواضح أن ملونتها ليست بالزاهدة أو المتقشّفة، فهي لم تمتنع عن استخدام أي من الالوان. ولم تستسهل اللجوء الى الالوان الترابية. هذا لا يعني انها خففت حدّة المأساة أو قلّلت من شأنها وهولها، بل طوّعت الالوان لتجعل «مسرحها» متحرّكا، نابضا، حيا. لعلّ ذلك يعود الى أن جرح ذاك الصيف لم يندمل بعد، او الى الذاكرة التي لم تبهت بعد.

أرادت ان تعكس بكل ما أوتيت من إحساس، حقيقة تلك المأساة. أتت بالالوان وبضربات الريشة المضطربة الهائجة، وبالاشياء المبعثرة المكسّرة، ببقايا البيوت والابنية وحتى بالحصى وبقطع الزجاج المشظّى وأتقنت دمجها في اللوحة. ببساطة ان الفوضى «حقيقية». الركام يملأ المكان الذي يتصاعد غباره ليظلّل ما تبقى من زرقة السماء. وفي الوسط الاعلى للوحة يجلس رجل بلباس عسكري وبيده بندقية وكأنه من «المقاومين».

في اللوحة الثانية، تنقل نصّار زوّارها الى الضاحية الجنوبية بعدما تعرّضت للقصف المركّز، هنا تكثر قطع الاثاث. سلالم وابواب مقتلعة، كأنها ترمز الى العائلات المشرّدة. البيوت لم تعد تصلح للسكن لانها ببساطة سوّيت بالارض. سيارات محترقة حالها حال الأبنية. والدخان لا يزال متصاعدا في الخلفية. وفي الاسفل ثلاث نساء باللباس الاسود. عباءاتهن تسارع الى التعريف بالمكان.

الى اللقطة الثالثة، نتجه. هنا استخدمت تقنية «الكولاج». وزّعت لوحتها اقساما. كشريط يعيد الى الواجهة ومضات من تلك الايام الـ33. انه «الاجتياح الثالث». ولتضفي بعدا اكثر واقعية، أتت بقصاصات الجرائد. جمعتها بإتقان. وزيّنت بها اعلى اللوحة. وفي الوسط، وضعت احداها. نجحت في جذب العين. كتب عليها: «واشنطن لن تضغط لوقف اطلاق النار...» هذا ما يعنينا، وسط كل تلك اللقطات. نحن في ما يشبه موقف سيارات تحوّل إلى ملجأ. فيه ينام الرضّع، تسهر الامهات القلقات، فيما الرجال مصابون بالارق. وفي الاعلى هناك صورة لاناس يسيرون في تشييع ثلاثة شهداء سقطوا في ضاحية العاصمة. من لبنان تنطلق الى رحاب العالم. تغيّرت الامكنة، تبدّلت الوجوه، عدّلت التفاصيل انما الحكاية واحدة. خلال هذه الجولة نتعرّف الى ثقافات متعددة، الى القبائل الافريقية والشعوب الشرق آسيوية. العائلة حاضرة بشكل شبه ثابت. اشخاص يتقدّمون اللوحة كما يتقدّم الاسى ملامحهم. انه الاسى الممزوج بشيء من الطمأنينة والسلام. لوحة تلو اللوحة، يكتشف الزائر ان نصّار مولعة برسم الملامح الثقافية، من الالبسة المزركشة الى الاواني البدائية، الى الوجوه. وللوجوه مكانة خاصّة لديها. كأنها تحاكي «ولع» غوغان برسم الشفاه والعيون والملامح الافريقية. لكن الجمال لا يعني ريشتها المأخوذة برسم المرارة، حتى ان وجوه الاطفال نضجت قبل اوانها. اختمرت ملامحهم في سنّ باكرة. واذا تأملنا الاجسام نلاحظ انها مقزّمة بفعل المعاناة... ايزيس نصّار، عبرت عن وحدة الانسان بالالم وبالتالي وحدة تطلعاته، اياً يكن وحيثما يكن.