«البِشعة».. محكمة عرفية تنتشر بين البدو في مصر

المتهمون يلعقون الحديد المحمى لإثبات براءتهم.. والنار تأكل لسان من يكذب

أحد الأشخاص ينتظر تطبيق حكم «البشعة» بحقه («الشرق الأوسط»)
TT

حول ألسنة النيران التي تندلع وسط أكوام من الخشب المشتعل، وضع الشيخ الكبير قطعة حديدية طويلة في نهاية طرفها طاسة سوداء اللون قال إنها «البِشْعَة» وفي منتصف حلقة دائرية كان هناك شاب يجلس للعقها فور انتشالها من النيران ثلاث مرات لإثبات براءته في التهمة المنسوبة إليه.

والبِشْعَة (بكسر الباء وتسكين الشين وفتح عين) محكمة عرفية يلجأ إليها بعض المصريين للفصل في قضاياهم الخلافية بعيدا عن الشرطة والمحاكم، فإذا أصابت النار لسان المتهم كان مذنبا وإذا لم يحدث له شيء كان بريئاً. ويأتي اسم «البِشعة» من بشاعة الموقف حيث يقترب الحديد المتوهج من وجه المتهم وعليه أن يلعقه حتى ينال البراءة.

«الشرق الأوسط» حضرت إحدى جلسات «البِشعة» بقرية سرابيوم التي تبعد عن محافظة الإسماعيلية بنحو 30 كيلومترا جنوباً، حيث بدأت الجلسة داخل «عشة» من البوص وجريد النخيل بتكوين حلقة دائرية وكان الجميع يجلس على الأرض الرملية. وكما يجري خلال جلسات المحاكم العادية يصار إلى اختيار شخص أمين يتولّى تسجيل أسماء المُدَّعِين، والمُدَّعَى عليه، ونوعية التهم في سجل خاص بالمُبَشَعْ، وبعدما فشل المُبَشَعْ في الوصول إلى اتفاق بين الطرفين على حل المشكلة بالتراضي تم الاتفاق على اللجوء إلى البِشْعَة.

ونادى المُبشَعْ على المتهم الذي أطفأ سيجارته في الرمال التي كنا نجلس عليها عقب سماع اسمه، ثم نادى على شاهدين من طرف المتهم وشاهدين آخرين من طرف المدّعين. وبدأ بعض الحاضرين جمع الأخشاب وإشعال النيران فيها، ووضعت البِشْعَة داخل الخشب المشتعل الذي بدأت يتصاعد منه دخان كثيف. وانتظر الجميع احمرار الطاسة السوداء الموجودة في نهاية طرف البشعة، في حين قرأ المُبَشَعْ التهم المنسوبة إلى المتهم وهي تتضمن محاولة الاعتداء على شخص ودخول منزله عنوة بعد مشاجرة بينهما.

وفي ترقب وصمت بين جميع الحاضرين أخرج المُبَشَع «البِشْعَة» من النار لكنه لم يجدها تحولت بعد إلى اللون الأحمر بعد، فأعادها إلى النار مرة أخرى وهو يراقب التغيّرات التي تحدث لوجه المتهم، ويحذره من خطورة تعرض لسانه للحرق.

وبعد مرور بضع دقائق طالب المُبشَع من المتهم إخراج لسانه خارج فمه وغسله ثلاث مرات بالماء حتى يكون نظيفاً تماماً، وعلى جميع الحاضرين التأكد من أنه ليس عليها أية علامات.

وفي لحظة حاسمة انتشل المُبشَع «البِشْعَة» من النيران المتوهجة وقربها من وجه المتهم ليلعقها مرتين. ثم طالبه القاضي بلعقها مرة ثالثة صارخاً به أن يقفل فمه تماماً.

وانتظر الجميع بعد ذلك نحو خمس دقائق، قبل أن يطلب المُبشَع من المتهم، الذي كان يجلس في وسط الحلقة بمفرده، أن يخرج لسانه بشكل واضح أمام الجميع للتأكد من أثر النيران عليه. وهنا صرخ المُبشَع «هذا الرجل برئ» وعندها تبادل جميع الحاضرين التهنئة على براءته.

يقول المُبشَع عمير ـ أو عبيدة ـ، الذي يعمل في هذه المهنة التي توارثها عن والده منذ نحو 20 سنة، أن النار قد تصيب لسان المتهم إذا كان يكذب بعد قراءة تراتيل معينة لا يعرفها إلا القاضي العرفي «المبُشَع»، وهي تراتيل يتعلمها الأبناء عن الأجداد حتى لا يخرج سر «البشعة» عن العائلة الواحدة. فإذا ظهرت البثور على لسانه، فإن ذالك يعني تجريم المتهم، وإذا بقي لسانه سليماً فذلك يعني براءته من التهمه المنسوبة إليه.

ويقول إنه إذا ظهرت براءة المتهم يمكنه أن يطالب بعقد جلسة عرفية أخرى، ولكن مع قاض عرفي آخر للحصول على تعويض بسبب الادعاء الكاذب. وأما إذا كان مذنباً فيعقد له مجلس عرفي آخر، حيث تنظر القضية بواسطة ثلاثة قضاة عرفيين آخرين لإصدار أحكام قد تصل إلى ثلاثة ملايين جنيه في القضايا الكبرى.

ويقول «المبشع» عمير إن عدداً كبيراً من المتهمين يتراجعون قبل لحس «البشعة» والاعتراف بجريمتهم لرهبة الموقف. ويضيف «أنه يحاول أولا الفصل من دون بِشْعَة وذلك بالترهيب من مدى خطورتها وفرص الخصوم للتفاوض والتراضي في ما بينهم، ويحاول ربط خيوط القضية بعد التحدث مع كل فرد على حدة، مع أهمية التأكد من اقتناع الخصوم بالبشعة».

ومن أشهر القضايا التي فصل فيها أنه فوجئ في أحد الأيام بحضور 18 شخصاً إليه جميعهم سيواجهون نيران «البِشعة» في قضية سرقة دجاجة من أحد المنازل. ويضيف أنه طلب من الحاضرين دفع ثمن الدجاجة من دون الاحتكام إلى «البِشعة» لكنهم أكدوا له أن المشكلة ليست في الدجاجة، ولكن مع مَن دخل المنزل واعتدى على حرمته، حيث كانت تجلس فيه سيدات وقت السرقة.

وعن شروط اختيار «المبشع» يقول إنه يشترط فيه ألا يكون قد كذب ولو لمرة واحدة في حياته، وأن يجمع جميع أفراد قبيلته والقبائل المجاورة على ذلك ويرتضون بأحكامه. ويقول إن الذين يترددون على «البشعة» من كل الفئات المهنية والثقافية، وغالبا ما تلجأ إليها الأسر والعائلات وأصحاب العمل الذين يرغبون في حل مشاكلهم بعيداً عن محاضر الشرطة الرسمية نظراً لوجود علاقة أسرية بينهم. وتصدر «البشعة» أحكاماً في جميع الجرائم سواء السرقة أو القتل أو المخدرات أوالشرف.. وأحكامها نهائية ولا تقبل النقد أو الاستئناف، وهي إما أن تنتهي بالبراءة أو الحرق.

وبسؤال المتهم، واسمه علي غريب، الذي كان لا يزال يتلقى التهنئة ببراءته، عن مشاعره أثناء اقتراب النار من وجهة، قال انه كان واثقاً ببراءته تماماً، لذلك لم يشعر بالخوف إلا قليلاً.

ويرى علي كيلاني، وهو مؤرخ ورئيس مكتبة هيئة قناة السويس سابقاً، أن «البِشعة» «حقيقة لا يمكن إنكارها وتشاهد بالعين المجردة.. إنها ليست ضرباً من ضروب السحر والشعوذة، واقرب تفسير علمي لها، هو أن المتهم من شدة خوفه وارتباكه يجف لعابه، فإذا ما لامست الأداة الساخنة لسانه التصقت به وأحدثت به أثراً بالغاً يظهر للعيان، أما البريء المطمئن لبراءته، فإن لعابه يحول دون التصاق طاسة القهوة الحار بلسانه، شرط ألا تستمر الملامسة أكثر من اللازم وهنا تظهر المهارة الخاص.. وبالتالي الموضوع النفسي أكثر منه أي شيء آخر».

أما حسن وهبه، وهو ضابط شرطة سابق، فقال «إن الشرطة لا تعترض على جلسات «البِشعة» طالما أن الطرفين المتنازعين ارتضيا اللجوء إليها، وهي تنجح فعلاً في حل العديد من القضايا، خاصة بين أفراد الأسرة الواحدة أو الأقارب الذين لا يرغبون في الذهاب إلى الشرطة لحساسية الحادث».