الانتخابات الأميركية ـ الأميركيون السود يترقبون لحظة العبور إلى البيت الأبيض

سكان هارلم يروون قصصا عن التمييز العنصري ويتخوفون من المحيطين بأوباما.. ونواب سود في الكونغرس مطمئنون

TT

«زنوج للبيع. الزنجي بـ 1200 دولار. بنيتهم قوية ويمكنهم رفع أغراض ثقيلة وجرّ العربات».. الى جانب هذه العبارات المكتوبة على لوحة تعود الى العام 1880، صورة لرجل أسود عاري الصدر، حافي القدمين، يغطي أسفل جسده برقعة بيضاء ملفوفة حول خصره، يجر عربة كبيرة محملة بعلف الحيوانات. في هذه اللوحة الموضوعة في اطار زجاجي ومرفوعة على حائط محل حلاقة للرجال في هارلم، في مدينة نيويورك، رسمت صور أخرى لثلاثة رجال سود، يلفون أجسادهم بخرق بالية ممزقة، يحملون أدوات ثقيلة على رؤوسهم وأكتافهم. داخل محل الحلاقة حيث ترتفع الصورة، كان مالكولم منشغلا بقص شعر أحد زبائنه، فيما جلس ثلاثة شبان في زاوية المحل، يتسامرون بانتظار زبائن جدد يبحثون عن قصة شعر. كانوا يتبادلون تعليقات عن مباراة كرم قدم وتعرض صديق مشترك لهم لحادث سير. ولكن الحديث سرعان ما انتقل بهم الى موضوع أكثر جدية: الانتخابات الاميركية. «لن نكون في سلم أولويات ماكين إذا ما فاز في الانتخابات. أعتقد ان اوباما سيحدث تغييرا بالفعل، ولكن لا ادري أيضا اذا ما كان المجتمع الاسود سيكون في سلم اولوياته»، يقول كليف، وهو شاب في السابعة والعشرين من عمره، إن والداه لم يتمكنا من إدخاله الى جامعة، وهو أراد أن يعمل ويصبح مستقلا... وهكذا بدأ العمل في صالون الحلاقة عندما انهى دراسته المدرسية. يرد عليه لاري، وهو شاب في الثالثة والعشرين من العمر، مثل كليف لم يرتد الجامعة لاسباب شبيهة. يقول وهو يهز كتفيه علامة اللامبالاة: «لا يهم. المهم أنه أسود. سأشعر بفخر كبير اذا ما فاز في الانتخابات. نعاني الكثير من التمييز كل يوم، اذا فاز شقيق لنا بالانتخابات سيكون يوما عظيما».

في هارلم، يتحدث الاميركيون السود عن المرشح الديمقراطي للانتخابات الاميركية باراك اوباما بشغف وفخر ولكن... بحذر وترقب. هارلم التي كانت تعرف يوما بانها عاصمة الاميركيين السود، والواقعة في منطقة مانهاتن، تعاني من إهمال مزمن. شوارعها تغيب عنها المحلات الراقية التي تشتهر بها وسط مانهاتن. هنا، سيارات الاجرة التي تفوق أعدادها اعداد السيارات العادية في أحياء أخرى، تعتبر ظواهر نادرة. الباصات وسائل النقل البديلة. وعلى الارصفة الممتدة في شارعها الرئيسي، الطريق 125 المعروف ايضا بطريق مارتن لوثر كينغ جونيور، تجلس مجموعات من النساء او الرجال، يمحصون المارة ويمضون الوقت. أمام باب ضيق مقشور عنه الطلاء، على الطريق الرئيسي، تجمعت اربع نسوة ترتدين أثوابا فضفاضة زاهية الالوان. اثنتان منهما كانتا تجلسان على كرسيين قديمين، فيما واحدة تقف على المدخل وأخرى تربعت على الرصيف العريض بالقرب من صديقاتها. كن ينتظرن زبونات لتجديل شعرهنّ. «لا نعمل كثيرا هذه الايام... نقضي اوقاتنا بانتظار الزبائن هنا»، تقول امادو، بلغة انكليزية مكسرة. وعندما تسألهن ما اذا كن سيصوتن في الانتخابات ولمن، تأتي الاجابة سريعة من الشفاه الاربع، ومن دون تردد: «طبعا... أوباما». أمادو التي قدمت من مالي منذ ثماني سنوات، وفتحت محلا لتجديل الشعر، تشتكي اليوم من قلة العمل. ولكن عندما تسألها ماذا تتوقع من اوباما ان يفعل ليساعدها، ترفع يديها وحاجبيها علامة الحيرة.

بالنسبة للبعض في هارلم، الامور بهذه البساطة. اوباما يشبههم. وهذا كاف. ولكن بالنسبة لآخرين، فالامور أكثر تعقيدا. ديشانا، امرأة في الخمسينات من العمر، هي أم لخمسة أولاد، ولدت في نيويورك. تجدها كل يوم صباحا جالسة على حافة من الاسمنت في شارع هارلم الرئيسي. ليس لديها الكثير لتفعله خلال النهار. فقدت عملها منذ حوالي عشرة أشهر بعد ان اقفلت الشركة حيث كانت تعمل، ولم تتمكن بعد من إيجاد عمل آخر. زوجها اجرى عملية في ظهره العام الماضي على حساب الضمان الصحي الذي كان يؤمنه لها رب عملها. ومع مرض زوجها الذي لم يعد بامكانه ان يعمل، وعجزها عن ايجاد عمل لها، أصبحت تعيش من المبالغ الزهيدة التي تحصل عليها من نفقة الدولة. تشكر الله ان اربعة من اولادها بالغون، ولم يبق لديها الا ابنة واحدة تبلغ من العمر ست سنوات، لإعالتها، ترسلها الى مدرسة رسمية مجانية. تتذكر ديشانا عهد الرئيس بيل كلينتون وتقول ان الاوضاع بالنسبة للاميركيين السود كانت افضل في عهده. «كان يتقرب منا كثيرا حتى انه فتح مكتبا له هنا، في هارلم» تقول ديشانا. هي ايضا ستصوت لاوباما ولكنها غير واثقة من امكانياته. «هو لا يزال شابا فتيا... ولكن نواياه حسنة. لا نعرف ماذا هو قادر على ان يفعل... فلننتظر ونرى» ولكنها تضيف: «سيكون حدثا تاريخيا بالنسبة لنا... فمنذ اربعين عاما لم يكن يحق لنا الجلوس إلا في المقعد الخلفي للباص...».

ديشانا وغيرها الكثيرون من الاميركيين السود في عمرها، يعتبرون ان ما حققوه في سنوات «قليلة» تاريخي. فالسود في الولايات المتحدة حصلوا على حقوقهم المدنية في العام 1964 وعلى حق التصويت في العام الذي تلاه. واليوم، بعد اقل من 45 عاما، قد يصبح رئيس الجمهورية «واحدا منهم». ولكن حتى بعد 45 عاما من حصولهم على حقوقهم، لا يزال السود في الولايات المتحدة من أكثر الفئات الاجتماعية التي تعاني من الفقر. وقد اظهرت دراسة صدرت عن جامعة نيويورك بعد أزمة المصارف، ان الاميركيين السود واللاتين هم من اكثر الشرائح الذين تأثروا بأزمة الديون العقارية من بين المدينين غير الثابتين. وبحسب احصاءات رسمية صادرة في العام 2006 عن مركز التعداد السكاني التابع للحكومة الاميركية، 10.3 بالمائة من الاميركيين البيض يعانون من الفقر مقابل 20.6 بالمائة من الاميركيين اللاتين و24.3 بالمائة من الاميركيين السود. ونتيجة ذلك، لا يتمكن الكثيرون من الاميركيين السود من دخول الجامعات، ومقابل كل طالبين من البيض يدخلون الجامعة، هناك طالب اسود واحد تقريبا. وبحسب احصاءات من المركز الحكومي نفسه، 31 في المائة من الطلاب البيض هم من خريجي الجامعات مقابل 18 في المائة فقط للسود. لذلك، من الطبيعي ان يتوقع الاميركيون السود ان يوليهم رئيس أسود اهتماما خاصة، نظرا لحالاتهم الاجتماعية المتردية مقارنة مع باقي الفئات. رامان مثلا، شاب يبلغ من العمر 32 عاما، قوي البنية، أصلع الرأس، ذراعاه مغطيان بالاوشام، يعتبر انه من واجب رئيس اسود ان يهتم بالسود اكثر من باقي المجموعات. كان رامان يقف امام محل للاوشام في الشارع الرئيسي لهارلم، وفي الخلفية يتردد صوت مارتن لوثر كينغ وهو يلقي خطابه «لدي حلم»، عبر مكبرات للصوت صوبت نحو الطريق. «ما زلنا نعاني من التمييز... فقط بسبب لون بشرتنا. نشعر بان علينا ان نناضل طوال الوقت. واوباما يجب ان يكون افضل من اي رئيس بالنسبة لنا، ولكن علينا ان نراقب ما سيفعله ولا ان نصدق فقط ما يقوله». في صوت رامان، أمل حذر. فبقدر ما يتوقع من رئيس أسود، ان يساهم في انهاض مجتمعه، يبدو وكأنه لا يتجرأ على الامل بأن حقوق السود وتحسين طريقة عيشهم، ستكون في اولويات الرئيس الاسود.

فالشعور بالتمييز العنصري لا يزال يرافق المجتمع الاسود في الولايات المتحدة، وكثيرون ما زالوا يروون قصصا عن تعرضهم للتمييز بسبب لون بشرتهم. كليف، الشاب الذي يعمل في محل الحلاقة في هارلم، يقول انه تعرض لعدة حوادث لانه اسود. ويروي: «الاسبوع الماضي كنت في وسط مانهاتن اقف على جانب الطريق والوح لسيارة اجرة. ثلاث سيارات اجرة مرت بالقرب مني، ولم تتوقف، على الرغم من ان لوحتها كانت مضاءة. لم يتوقفوا على الرغم من انهم محكومون بفعل القانون بالتوقف لاي راكب... هذه التصرفات تجعلك شخصا غاضبا... وتؤلم بعمق!».

صديقه لاري كانت لديه قصة أيضا: «كنت اقود سيارتي هنا في هارلم، فلحقتني سيارة شرطة. أمرني رجلا الشرطة بالنزول من السيارة ووضع يدي على الغطاء الامامي. فتشوني واخذوا أوراقي وطلبوا مني الانتظار. تركوني في هذه الوضعية لاكثر من ربع ساعة، عادوا بعدها وقالوا انهم ظنوا أنني شخص آخر لانني اقود السيارة نفسها! سيارتي هي فولفو واغن! هناك عشرات السيارات المطابقة لسيارتي! هي من اكثر السيارات شعبية هنا... لم يعتذروا حتى!».

وبين قصص التمييز وعدم المساواة في الفرص المقدمة لهم، يشعر الاميركيون السود بأن رئيسا أسود هو الاقدر على تفهم قضاياهم. ولكن على الرغم من ذلك، يبدو ان الكثيرين منهم غير واثق من قدرة اوباما على إحداث التغيير الذي يريدونه، ويبدون وكأنهم ما زالوا لا يجرؤون على الامل. شون مثلا، وهو شاب تخرج من الجامعة ويحمل شهادة في العلوم السياسية، يقول انه يؤمن بان اوباما سيحقق التغيير ولكنه لا يدري اذا ما كان السود سيكونون في اول اولوياته. «تحركاته ستكون مقيدة بالفريق الذي يحيط به. في عهد بيل كلينتون شعرنا بنسمة امل ولكن ان يكون لنا شقيق اسود في البيت الابيض امر مختلف... فهو سيكون عليه ان يستمع الى المحيطين به ويفسر الانفاق...» يقول شون.

ولكن قادة بارزين في المجتمع الاميركي الاسود، يبدون اكثر اطمئنانا، ويقولون ان اوباما سيولي الفئات المحرومة جميعها اهتماما خاصا وهذا بالتالي سيطال السود. دونالد باين، وهو نائب اسود عن ولاية نيوجيرسي، واثق بان المجتمع الاميركي سيتحسن بكامله، في حال فوز اوباما ويقول: «اعتقد انه سيساعد الجميع، لا يهم لونهم، بيض ام سود، هو ملتزم بان يحسن المدارس مثلا وهذا امر مهم».

ويقول اد تاونز، نائب أسود من ولاية نيويورك، ان اوباما في حال فوزه سيعانق الطبقة الوسطى، «فهو يفهم مشاكل السود لانه عاش تجربتهم، واعتقد انه سيكون عادلا ولكنه لن يضع السود قبل الفئات الاخرى بل سيعمل للجميع». وعلى الرغم من ان الاميركيين السود يشعرون بفخر واعتزاز كبير لوصول اوباما الى هنا، الا انهم لا يعتبرونه «رئيس السود»، كما تقول النائبة ماكسين ووترز عن ولاية كاليفورينا. وتضيف انهم لا ينتظرون منه شيئا إلا المساواة والعدل، «واذا تمكن من تحقيق ذلك، فهو يكون بذلك قد رد حقوق هذه الفئة التي تركت في المؤخرة لفترة طويلة». ما يتوقع السود من اوباما هو ان «يصحح الظلم الذي لحق بجميع الفئات التي حرمت من الضمان الصحي والتعليم والوظائف» تقول ووترز، «وفي بعض المناطق الزراعية هناك بيض يعانون من الامر نفسه الذي يعاني السود، لذلك اذا صحح اوباما هذه الامور للجميع وحكم بعدل، يكون قد رد للسود حقوقهم». ووترز واثقة من ان اوباما سيكون رئيسا يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية.

إلا ان مهمته قد تكون اصعب مما يتصور البعض. فهو منذ بداية حملته لم يحمل قضية الاعراق والعنصرية كعلم يلوح به في كل الاوقات، وهو حرص على ان يبني لنفسه صورة على انه رئيس للجميع وليس للسود او الاقليات فقط، وقد يكون اختياره لجو بايدن، كنائب له، دليلا على ذلك. فبايدن هو قبل ان يكون سيناتورا يتمتع بخبرة طويلة وقوية في السياسة الخارجية، هو رجل ولد في سكرانتون، في ولاية بنسلفانيا المعروفة بانها تضم طبقة عاملة بيضاء. وبايدن يعتبر من ابناء هذه الطبقة التي يجد اوباما صعوبة بالتواصل معها.

تقول البروفسورة فاليري سانكلير، من مركز دراسات السياسة الاميركية الافريقية في جامعة روشستر، «ان على اوباما ان يتودد الى فئات ليس على المرشحين الاخرين ان يتوددوا اليها بالدرجة نفسها، لانه اسود. وهو مثلا لم يذهب الى اماكن لها دلالاتها التاريخية بالنسبة للسود خلال حملته، مثل ممفيس حيث قتل مارتن لوثر كينغ، في حين هيلاري كلينتون وجون ماكين المرشح الجمهوري ذهبا الى هناك». وهذا الضغط الذي يتعرض له مرشح اسود اكثر من غيره، يدفع سانكلير الى الاعتقاد بان اوباما في حال فوزه لن يعين في ادارته الجديدة الكثير من الاميركيين السود في المناصب العامة، رغم اشتكاء الاميركيين السود من ان الادارات المتعاقبة تتجنب تعيين عدد كاف منهم في هذه المناصب. ولكن سانكلير تتوقع ان يعوض اوباما عن ذلك بتعيين اميركيين سود ضمن فريقه الشخصي الذي لا يطل على الاعلام، وبتعيين عدد كبير من النساء ومن الاقليات الاخرى في ادارته، فيوازن بذلك شكل الادارة الجديدة.

وإذا كان اوباما مقيدا بقوانين وميزانيات وطاقم عمل، وهي عوامل كلها قد تحد من ارادته على مساعدة الاميركيين السود، فإن ذلك قد يؤدي الى خيبة آمال هذه الفئة، برئيس منهم، لم يستطع ان يقدم لهم اكثر ما قدمه لهم اسلافه. ولكن سانكلير تقول ان «الاميركيين السود عملانيون ويفهمون بانه اذا انتخب اوباما سيكون مقيدا بالقوانين وبميزانية محددة»، ولكنها تضيف ان الامل هو أن يتحدث بالقضايا الاساسية التي تهمهم، مثل التعليم، كونه واحدا منهم ويعرف معاناتهم اكثر من باقي السياسيين. وتأمل ان يتمكن اوباما من تحقيق على الاقل، ما حققه بيل كلينتون لهم خلال عهده. وتضيف: «لا يمكنه ان يعالج مشاكل المجتمع الاسود فقط بفوزه بالرئاسة، ولكن هذه الخطوة ستكون الاولى على طريق تحقيق المساواة».

وهذه الخطوة، على الرغم من انها الخطوة الاولى، فهي من دون شك تاريخية. سيكون «يوما عظيما» لاميركا، بحسب ما وصفه النائب اد تاونز، «يوما، نقول فيه للعالم ان العنصرية اصبحت وراءنا». وكما قال النائب دونالد باين «ستجعل الاميركيين كلهم فخورين، بيض وسود... وستجعل السود يشعرون كما شعر الاميركييون الايرلنديون عندما انتخب جون كينيدي رئيسا للجمهورية». وستكون كلمات روبرت كينيدي التي قالها قبل 46 عاما، في العام 1962، قد تحققت: «الايرلنديون لم يكن مرحبا بهم هنا. والان هناك رئيس ايرلندي كاثوليكي في البيت الابيض. لا مجال للشك انه بعد اربعين عاما يمكن للسود ان يصلوا الى المركز نفسه».

الصورة التي يعلقها مالكوم، صاحب محل الحلاقة في هارلم، على حائطه، والتي تعود الى أكثر من قرن من الزمن، تروي عمق الندوب التي ما زال الاميركيون السود يحملونها من تاريخ العبودية الذي عاشوه. والاحاديث التي كانت تدور بين الشبان داخل محل الحلاقة تدل على انهم بقدر ما يشككون بقدرة اوباما على تحقيق حاجاتهم، فهم واثقون من ان انتخابه سيكون الخطوة الاولى الصحيحة لاستكمال المسيرة.

* غدا: الصوت اللاتيني