بيومي يعيد أمجاد الخط العربي .. بأعواد من القش

تمزّق حبله الشوكي فوصله بحبال من الصبر

من أعمال بيومي .. البسملة على هيئة هدهد («الشرق الأوسط»)
TT

لم يكن الشاب محمود بيومي ليدري أنه سيطفو فوق سطح هذه الحياة بزورق من القش. فبعد شهر ونصف من زواجه بحبيبة قلبه، صعقته الكهرباء، وهوى من الشرفة بالطابق الثالث مثل طائر ذبيح، ليتمزق حبله الشوكي ويدخل في غيبوبة لمدة سنة، استفاق بعدها ليجد نفسه شاباً في السابعة والعشرين لا يستطيع حتى الجلوس. ومن أجل هذا الحق البسيط أجرى بيومي عدة عمليات جراحية.. يقول بيومي «مجرد أني أقعد نعمة كبيرة من ربنا، فأنا متعوّد على الشغل والتعب، وكنت أعمل في الصيف للاعتماد على النفس وتدبير نفقات الدراسة ومساعدة والدي الفقير. وبعد التخرج في مدرسة الصنايع ـ قسم زخرفة عملت في كل شيء وسافرت هنا وهناك للعمل». كان أقصى ترفيه لبيومي السفر إلى شرم الشيخ أو الغردقة للعمل في البناء والتشييد. كان يعتبر ذلك نزهة، فالذهاب لتلك الأماكن كان حلماً لا يقدر عليه. وقبل الحادث ببضع سنوات استقر على مهنة الحلاقة وفتح دكاناً.. «أنا كنت حلاقاً شاطراً زبائني كثر وكنت أعمل ليلا ونهارا، فكيف أنام هكذا بدون أن اعمل وبدون أن أشعر بفائدتي .. كنت أحبس نفسي في الغرفة وأبكي على حالي. وفي مرة قلت لنفسي أيه اللي انت عامله في نفسك ده والدنيا لو اتقفلت كل أبوابها باب ربنا دايما مفتوح!». أخذ بيومي يجرب أشغال الإبرة والتطريز لكنها لم تعجبه، واشتعلت في رأسه فكرة أوحت له بها علبة كبريت. فأخذ يقطِّع عود الكبريت ويشقه أجزاء ويصنع منه آيات قرآنية على الورق، وظل يجرّب الطريقة الجديدة، إلى أن قال له خاله «جرِّب قش الأرز.. إنه أفضل». وبالفعل نمت لديه الفكرة ونضجت، وأخذ يقسّم عود القش لأجزاء رفيعة ويكّون بها لوحات فنية وآيات قرآنية منمنمة من القش المتراص. كل يوم ينسج زورق حياته بأعواد جديدة من القش، مختصراً دورة الزمن راقداً أو جالساً على كرسيه المتحرك.

«لم يرزقني الله بأولاد وليس لي إلا هذه اللوحات أضع فيها جهدي وحناني وصبري.. فهذه الأعمال تحتاج إلى صبر رهيب، وأنا أشعر كأنها أولادي، أحايلها لكي لا تغضب. أتحمل الحر ولا أستطيع أن أشغل المروحة حتى لا يطير القش. ربنا رزقني بالصبر فعلاً».. وبين جملة وأخرى أسمع حمده لله ورضاه وقناعته إزاء كل شيء. بداية خروج بيومي إلى عالمه الجديد كانت عبر نادي الياسمين في إمبابة المخصص لذوي الاحتياجات الخاصة. ونظرا لصعوبة حالته كان يذهب مرة كل شهر. وهناك نالت أعماله إعجاب المسؤولين فساعدوه للاشتراك في معرض «سوق الشباب» وكانت مفاجأة له كبيرة فوزه بالمركز الثالث.. «كنت في حالة ذهول تتكلم معي قنوات التلفزيون، وحصلت على شهادة تقدير وجائزة مالية.. تكلم معي مسؤولون كبار لم أكن أحلم يوماً برؤيتهم، والحمد لله شعرت يومها أنني رجعت عضواً فعّالاً في المجتمع.. أنا اعمل أذاً أنا موجود». هذه الجملة الأخيرة كرّرها بيومي عدة مرات أثناء اللقاء. لكن للأسف توقف معرض «سوق الشباب» منذ سنتين ولا يعرف بيومي الآن أين يعرض أعماله. طبعا يحتاج للكثير من المصاريف، كما انه يحاول الادخار منذ سنتين لشراء كومبيوتر محمول يعمل على «الموبايل» يمكنّه من التواصل عبر الانترنت. فالمستشفى التي يوجد فيه ـ الوفاء والأمل ـ، وتدفع مصاريفه شهرياً فاعلة خير، لا إمكانية فيه لإدخال خط هاتف عادي لنفاد الخطوط.. «ما أرجوه هو المشاركة في أي معرض داخل أو خارج مصر لأدبّر نفقاتي وتصل أعمالي من خلاله للناس، وأشعر أنني أُسعِدهم. كما أنني أريد أن أعمل في أي مكان قريب من المستشفى ضمن النسبة المحددة في الحكومة لأضمن دخلاً شهرياً ثابتاً أعيش من خلاله ويحسّسني بالأمان. صعب على نفسي جداً الطلب من الناس، أنا طول عمري أعطي، لذلك أرجو من الوزير المختص أن يوظفني ضمن النسبة المسموح بها للمعاقين».

بينما كان يعرض أمامي صوره القديمة لم تتبدل نظرات الحزن في عينيه، لكن عندما امسك بصور أطفال العائلة كان ينتابه شيء من البهجة، وقرب نهاية مشاهدة الصور كان يدّخر أهم الصور، صورة أمه، التي كانت الداعم والمساند الدائم له.. فحتى في أصعب فترات مرضها كانت ترعاه وتهتم به وتلهمه الصبر والقوة، وتحدي الصعاب. كانت تطعمه، وتغير له ملابسه، وتمكّنه من عمل حمام، وغيرها من الأشياء العادية التي يستحيل عليه وحده القيام بها. لكن بعد موتها لم يستطع أخوته رعايته لانشغالهم بأمور حياتهم. طيلة فترة المقابلة لم يتوقف لسان بيومي عن ذكر الله والرضى بقضائه وقدره، والدعاء الدائم لأمه وطلب الرحمة لها حتى أننا توقفنا مرة لقراءة الفاتحة على روحها. وعندما سألته عما يريد، قال: «قبل الحادث وأنا سليم رزقني الله بعمرة وعندما شاهدت الكعبة اقشعر بدني وشعرت برهبة المكان فدعوت الله أن يجعل مصيبتي في دنياي ولا يجعلها في آخرتي، لكن في النهاية أنا المسؤول عما أصابني. وبعد الحادث، استضافتني الفنانة صابرين في لقاء تلفزيوني وشاهدت الحلقة الأميرة هيفاء بنت فيصل وتولّت نفقات الحج للجميع أنا وأمي وأبي، وكانت أمي ترى في منامها دائماً أنها عند الكعبة. وبعد أداء فريضة الحج بأشهر ماتت أمي رحمها الله، وما أرغب فيه وأريده من الدنيا أن يرزقني الله بزيارة أخرى لبيت الله الحرام ومسجد رسول الله فهي متعة ما بعدها متعة .. هذا ما أريده». أمام محمود بيومي لا تستطيع أن تشعر إلا بالاحترام لقوة تحمله وصبره وتحدي الصعاب وعزة نفسه.

عمره الآن حوالي 37 سنة، عالمه لا يتخطى غرفته الصغيرة بالمستشفى، يحمد الله كثيرا عليها، لكن عينيه المملوءتين أسى من أشياء كان يتمناها، أشياء لم يعشها وأخرى حرم منها، ولا يعوضه عنها إلا إيمانه بالله، فالبشر هم البشر في نهاية الأمر: «إخوتي وحشوني جداً وأولادهم محروم منهم، لا أحد يزورني، لكن من كرم الله انه رزقني باثنين مثل إخوتي بالضبط، والغريب أن لهما نفس أسماء أخوي محمد وأحمد». أثناء نطقه بجملته الأخيرة دخل أحد الممرضين ليخبره عن موعد ذهابه لمستشفى الشفاء بالعباسية لإجراء العملية. وعندما سألته أي عملية سيجريها؟ أجاب بأنها عملية لعلاج «قُرَح الفراش»، وتابع «أنا أجريت واحدة في رمضان الماضي وأحتاج لأخرى الآن.. اعذريني الدكتور منعني من الجلوس، ما فيش حل غير إني أكلمك وأنا نائم». وفهمت لماذا اعتذر لي عند دخولي وظل نائماً على المرتبة الهوائية ولم يبرحها.

تركته وأنا أكاد أجهش بالبكاء، وتذكّرت أنني قرأت أن هناك علاجاً للشلل الناتج عن تمزق الحبل الشوكي باستخدام الخلايا الجذعية. سألت الدكتور هشام عبد الحميد، مدرّس طب وجراحة الأعصاب بكلية طب قصر العيني، فقال: «إن الخلايا الجذعية تصلح أنسجة الجزء التالف من الجسم البشري، ليعمل من جديد بكفاءة أكثر. وهذه الخلايا تزرع في الجسم لتنمو مكان العضو التالف. والعلماء في الخارج اجروا هذه التجارب على الحيوانات وهناك أمل كبير في نجاح هذه العمليات قريبا جداً.

الأمر نفسه أكده الدكتور الجوهري محمد الجوهري، أستاذ طب وجراحة المخ والأعصاب، مشيرا إلى أن هذه التجارب كثيرة، لكنها كلها في طور التجارب لكنها تحمل أملاً قوياً لمرضى الحبل الشوكي وغيرها من الأمراض الميئوس منها حالياً.