برلين تلعب دورا محوريا في تشكيل علاقة الغرب بروسيا عبر الاقتصاد

36 مليار دولار صادرات ألمانيا لروسيا

خط تجميع محركات الديزل في ياروسلافل التابع لمجموعة «غاز» الروسية الذي تأسس عام 1916. ويقام الى جواره مصنع حديث يعتمد اعتمادا كبيرا على المعدات الألمانية («نيويورك تايمز»)
TT

أثناء اشتعال أزمة جورجيا في أغسطس (آب) الماضي سافرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى روسيا لتحذر من تبعات تجدد النزعة العسكرية. وبعد يومين، كانت في جورجيا تعرب عن تأييدها لانضمام جورجيا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).

وجاء فصل الخريف، وهدأت المشاعر. وفي بداية شهر أكتوبر (تشرين الأول)، عادت ميركل لزيارة روسيا مجددا، لتشاهد شركة إيه أون الألمانية وشركة الطاقة الروسية الحكومية العملاقة غازبروم توقعان اتفاقية مهمة في سان بطرسبرغ، لتمنح الشركة الألمانية حصة في حقل يوجنو ـ روسكوي العملاق للغاز الطبيعي في سيبيريا.

وساعد تغير اهتمام ميركل على تذكر الدور المحوري الذي تلعبه ألمانيا في تشكيل علاقة الغرب مع روسيا. وهي أكبر شريك تجاري لروسيا وأكبر اقتصاد في أوروبا وأقرب الحلفاء لأميركا. ولكن لم يكتف موقف موسكو القوي بإعادة روسيا، القوة المسلحة بالطاقة النووية، إلى محور الانتباه السياسي الجغرافي، ولكنه سحب ألمانيا إلى دائرة الأضواء أيضا.

وبينما تحاول الولايات المتحدة إعادة تعريف علاقتها بحكومة تستعيد نشاطها وأحيانا تكون عدائية في موسكو، تجاهد ألمانيا من أجل حماية علاقاتها التجارية والثقافية والدبلوماسية مع روسيا، والتي أقامتها معها منذ نهاية الحرب الباردة، وفي بعض المجالات ترجع العلاقات بينهما إلى فترة أبعد من ذلك.

وسيتضح مدى اتساع هوة الخلاف في الأسبوع الحالي، عندما يجتمع وزراء خارجية الناتو في بروكسل. وتختلف برلين وواشنطن حول كيفية تناول حصول جورجيا وأوكرانيا على عضوية الناتو، وهو الخلاف الذي يكمن صميمه في كيفية التعامل مع روسيا.

وبينما تهدف الولايات المتحدة في الأساس إلى مواجهة القوة العسكرية الروسية المكتشفة حديثا، تفضل ألمانيا التقدم لتنمية روسيا اقتصاديا وضمان استقرارها السياسي. وترى ألمانيا أن مسؤوليتها هي إرشاد روسيا وليس احتواءها.

وربما تجد إدارة أوباما الجديدة، التي تعهدت باتخاذ طريق جديد لوقف مطامع إيران النووية بالإضافة إلى أهداف سياسية خارجية تتضمن روسيا، أن أحد الطرق التي تؤدي إلى موسكو تمر عبر برلين. وعلى أدنى تقدير، ومن المرجح أنه سيكون عليها التقرب من مصالح ألمانيا الكبرى في روسيا.

تقول أنجيلا ستينت، التي كانت مسؤولة عن شؤون روسيا في مجلس الاستخبارات القومي في الحكومة الأميركية من عام 2004 إلى 2006 وتوجه الدراسات التي تجرى عن روسيا في جامعة جورج تاون: «هناك خلافات خطيرة بين واشنطن وبرلين يمكن أن تستفيد منها موسكو فقط إذا لم يكن هناك تنسيق أفضل. ويجب أن تعمل إدارة أوباما مع الألمان بينما تعيد تقييم السياسة الأميركية تجاه روسيا».

ويتعجب بعض السياسيين الألمان، الذين يشعرون بالقلق من المحاضرات الأميركية التي تتناول حقيقة أن 36 في المائة من الغاز الطبيعي الذي يغذي المنازل في ألمانيا قادم من روسيا، من كيفية قلق الأميركيين بشأن هذا الاعتماد على الغير في الطاقة أكثر من قلقهم لما يفعلونه هم.

يقول كارشتين فويغت، الذي يعمل على التنسيق بين العلاقات الألمانية ـ الأميركية في وزارة الخارجية الألمانية الذي كان يدير المجموعة البرلمانية الألمانية ـ الروسية في البرلمان الألماني: «يعتقد الكثير من الألمان أن بوش غزا العراق فقط من أجل البترول، ويعتقد الكثير من الأميركيين أن سياسة ألمانيا تجاه روسيا يحددها الغاز الطبيعي. ومنذ السبعينات على الأقل، كانت كل حكومة ألمانية تحاول توثيق علاقات روسيا، وقبل ذلك كان الاتحاد السوفيتي، مع أوروبا».

وصرح سيرغي كوبريانوف، ممثل شركة غازبروم: «لقد بدأ التعاون بيننا أثناء الحرب الباردة»، مشيرا إلى صفقات، عارضتها الولايات المتحدة، لتوصيل خطوط أنابيب بين روسيا وألمانيا في السبعينات. وأضاف: «كان سور برلين ما زال موجودا. ومقارنة بما كان لدينا في ذلك الوقت، تعتبر قضية جورجيا قليلة الأهمية».

ويرى الألمان أن ذلك ليس مجرد اعتماد على روسيا ولكنه اعتماد متبادل. وتبلغ نسبة استثمار الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في روسيا 80 في المائة من حجم تراكم الاستثمار الأجنبي، وهي الحقيقة التي تم الكشف عنها بوضوح، لو كان الكرملين قد نسيها، عندما توقف الضخ المالي بعد أزمة جورجيا.

وقد جمد الأوروبيون بغضب، بعد أزمة جورجيا، مفاوضاتهم مع روسيا حول عقد اتفاق شراكة جديد. وبالكاد بعد 10 أسابيع، قرروا استكمال المباحثات. ويقول ألكساندر راهر، مدير البرنامج الروسي الأوروآسيوي في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية: «لا يمكننا أن نؤسس بناء أوروبيا ضد روسيا أو بدون روسيا، ولكن مع روسيا».

وبينما تحتاج ألمانيا إلى المواد الخام الروسية وتسعى إلى سوق مهمة هناك من أجل معداتها الدقيقة، تعتمد روسيا كذلك على الاستثمار الأوروبي لتنوع اقتصادها، وهذه الحقيقة أصبحت واضحة للغاية حاليا أمام الروس حيث تسببت الأزمة الاقتصادية في انخفاض أسعار الطاقة.

وفي مدينة ياروسلافل، ما زالت إحدى شركات السيارات وهي مجموعة غاز، تصنع محركات شاحنات تعمل بالديزل في مصنع أنشئ في أيام ضعف حكم القياصرة في 1916. وتذكّر نماذج الإنتاج بفترة الاتحاد السوفياتي، بدءا بوضع الحديد في المسابك وصناعة العمال لمحرك كامل من البداية.

وعلى مقربة، بعد أشجار البتولا، يوجد مكان حوله حزام من الإسمنت والمعدن وسقف مموج من الحديد. إنها بداية مصنع حديث ينتج محرك الشركة الجديد، وهو المشروع الذي تقدر قيمته بـ 442 مليون دولار.

ويقع المصنع على بعد عدة ساعات من موسكو، ولكن تبدو أسماء الموردين وكأننا نسرد أسماء في الصناعة الألمانية، حيث تورد معظم الماكينات الحديثة وخطوط الإنتاج شركات ألمانية مثل غروب فيرك، وتيسين كروب كروز.

يقول روسلان غريكوف مدير مشروع المحرك الجديد في ياروسلافل: «تتميز ألمانيا بالخبرة في مجال التكنولوجيا، والمهارة في صناعة السيارات. وبالطبع، تختلف ألمانيا عن روسيا. والاختلاف جيد».

ربما تبدو هذه المشاعر مفاجئة، بل وصادمة، في دولة، كانت، في عصر السوفيات، تحط من قدر النازيين في الأفلام التي تتناول الحرب.

وقد هدأت العلاقات من الجانب الألماني بسبب الشعور بالذنب لأحداث الحرب العالمية الثانية والامتنان لإعادة الوحدة الألمانية.

وقد نشر التراجع الاقتصادي العالمي في الوقت الراهن مخاوف في جميع أنحاء روسيا من إمكانية تكرار ما حدث في انهيار الروبل عام 1998. وقد خفض البنك الدولي توقعاته للنمو الروسي في العام المقبل إلى النصف، ولكنه ما زال يبلغ 3 في المائة، بينما من المتوقع للاقتصاد الألماني، الذي يعاني بالفعل من الركود، أن ينكمش، مما يزيد من أهمية روسيا مع ازدياد تسريح العمالة في ألمانيا.

وقد نما حجم التبادل التجاري بين روسيا وألمانيا بنسبة 25 في المائة ليصل إلى 46.3 مليار دولار في النصف الأول من العام. وتعد روسيا من أسرع الأسواق التي تورد لها ألمانيا اتساعا. وفي العام الماضي، بلغ حجم الصادرات الألمانية إلى روسيا 36 مليار دولار، وهو أكثر من خمسة أضعاف مبلغ الـ6.7 مليار دولار قيمة الصادرات الأميركية إلى روسيا.

ولا يكتف رجال الأعمال الألمان بالعمل في مكاتب المبيعات في موسكو أو الاستثمار في حقول البترول أو الغاز الثرية في البلاد. ولكنهم يستثمرون 13.2 مليار دولار في 4600 شركة تمتد من سيبريا إلى ييكاتيرينبرغ إلى سان بطرسبرغ، ويبنون مصانع ويجلبون ماكينات إلى الروس الذين يطمحون في أن يصبحوا أكثر من مجرد سوق لبيع السلع الخام التي تنتجها دول أوروبا المجاورة.

في الوقت الحالي، تمد شركة سيمنس روسيا بأول قطار فائق السرعة من إنتاجها، المعروف باسم فاليرو روس. وتبلغ قيمة العقد 758 مليون دولار لصالح سيمنس، نصفها من أجل القطارات، ونصفها لتقديم الخدمة.

وقد أعلنت مؤسسة قطب الصناعة رومان ابراهيموفيتش للإنشاءات إنفراستراكتورا في العام الحالي أنها طلبت أكبر معدات حفر في العالم من الشركة الألمانية هيرينكنيخت لحفر أنفاق في موسكو وبالقرب من سوشي استعدادا لأولمبياد الشتاء عام 2014.

وصرح إيغور يورغينز، رئيس المجلس التنفيذي لمعهد التنمية المعاصرة في موسكو، وهو المعهد الذي يرأس مجلس إدارته الرئيس ديمتري ميدفيديف، أن ألمانيا كانت شريكا إستراتيجيا وأكثر المستثمرين صبرا في مستقبل روسيا.

وعندما هدد ميدفيديف بعد الانتخابات الأميركية بوضع منصات صواريخ جديدة في كالينينغراد، كان الموقع رمزا إلى العلاقة المؤلمة المعقدة بين روسيا وألمانيا. تلك الجزيرة التابعة للأراضي الروسية، وهي محاطة ببولندا وليتوانيا الدولتين المنضمتين إلى الناتو، كانت محل مدينة كوينسبيرغ الألمانية قبل أن تسقط في أيدي السوفيات في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولكن في إشارة إلى الفرص المتاحة عبر المثلث الروسي ـ الألماني ـ الأميركي، كان وزير الخارجية الألماني فرانك ـ فالتر شتاينماير، الذي ينتمي إلى الديمقراطيين الاشتراكيين الذين غالبا ما يعتبرون روسيا صديقة، هو من أعرب عن أقسى رفض لميدفيديف. وقال شتاينماير في اليوم التالي إنها «إشارة خاطئة في التوقيت الخطأ».

ويقول المسؤولون الألمان في هدوء إن إدارة أوباما الجديدة يجب أن تنتبه. وكما أشار تراجع ميدفيديف منذ ذلك الحين، يبدو أن الروس قد انتبهوا.

* خدمة «نيويورك تايمز»