إيصال الفن إلى فئات شعبية واسعة عبر قطار

على قضبانه تمتزج حضارة النمسا بأصالة مصر

خطوط عربية تلتقي برسوم ذات ألوان صاخبة («الشرق الأوسط»)
TT

على قضبان قطارات السكك الحديدية الهرمة في مصر اختار الفنانان المصري المتخصص في الخط العربي وفن الجرافيك سامح إسماعيل ومعه النمساوي توماس موك، أن يعرضا إبداعهما للبسطاء، من خلال بث جرعات فن مركزة في تجاعيد العربات. إبداع تمرد على أسوار القاعات وأصر على أن يبقى جوالا يطوف مصر من أدناها إلى أقصاها بطول 800 كيلومتر هي المسافة التي يقطعها قطار الصعيد الذي حمل أمانتهما وارتضى أن يكون رسولهما الفني في أجواء المحروسة.

على عربات السكك الحديد رسم إسماعيل و«كوك» معرضهما المشترك برعاية المنتدى الثقافي النمساوي، والذي يأتي امتدادا لفلسفة «الفن للشعب وللشارع» سبق والتزم بها قبل ذلك فنانون كبار سخروا فنهم لتجميل الأماكن المهملة والفقيرة مثلما فعل محمد عبلة وعدلي السيوي في منطقة «كوم غراب» بوسط القاهرة.

«فلسفة تجميل المهمل حتى لا يقربه الإهمال مرة أخرى، كنت أريد أن أتمرد على أسوار (الجاليريهات) وقاعات الفنون لأنني مؤمن أن الفن لا بد أن يقدم لكل الناس».. هكذا برر سامح إسماعيل الفنان التشكيلي المصري لجوءه للرسم على قطار للسكة الحديد وتحويله ومعه زميله فنان الجرافيك النمساوي توماس موك المتخصص في (الجرافيتي) إلى تحفة متحركة تشع جمالا من القاهرة لأقاصي الصعيد.

يحكي سامح إسماعيل عن قصة رسمه على القطار منذ البداية ويقول «فكرت في البداية ان أرسم على قطارات المترو كي يتمكن أكبر قدر من البشر في القاهرة من رؤية ما أريد أن أعبر عنه، ولكني فوجئت بان السطح الخارجي لعرباته مباعة للرعاة كي تستخدم في لصق الإعلانات، وكان قطار السكك الحديدية هو الحل البديل، ووقع الاختيار على قطار النوم المتجه للصعيد لأنه يقطع المسافة الأطول في مصر وبالتالي ففرصة عرضه لأكبر قدر من الناس متاحة بشدة».

في ورش هيئة السكة الحديد قضى سامح 15 يوما مع توماس موك بعد أن سلمتهم وزارة النقل المصرية قطارا جاهزا ومطليا باللون الأبيض لبدء الرسم، بدأ العمل به في وبعد الاتفاق على (الاسكتشات) التي تخلط الجرافيتي بالخط العربي وظهرت النتيجة واضحة جلية في الاحتفاء الذي قوبل به معرضهما «حوار على القضبان».

يرى إسماعيل أن تجميل القطارات من الخارج له أكثر من هدف؛ فمن ناحية ينشر الوعي الفني وينقل القيم الفنية للناس ومن جانب آخر يعطي رسالة غير مباشرة لمن يشوهون الحوائط والممتلكات العامة بضرورة التحلي بالسلوك الحضاري والحفاظ على كل منظر جميل.

وينفي إسماعيل الاتهام الذي يوجهه البعض لأصحاب هذا الاتجاه من الفنانين بأنهم يزفون الواقع بتجميل الأشياء من الخارج والتغطية على الإهمال الداخلي الذي تعج به عربات السكك الحديد، وهو نفس الانتقاد الذي قوبل به فنانون آخرون ساهموا في تجميل مناطق شعبية فقيرة، وقال البعض حينها إن التجميل بالألوان لن يطعمهم ويسقيهم. يقول إسماعيل: «أنا أنظر للأمور من زاوية أخرى، فإذا كان هناك إهمال فلنبدأ بخطوة إيجابية، كما أنني لاحظت خلال وجودي في ورش هيئة السكك الحديد المصرية حركة دؤوبة لإعادة تأهيل عشرات العربات المتهالكة؛ فخلال عشرة أيام كنت أشاهد يوميا ما بين أربع إلى خمس عربات تخرج للخدمة في أفضل صورة، هناك جهد كبير يبذل الآن ومن الأفضل تشجيعه وليس الانتقاد بلا فائدة».

بحسب إسماعيل فإن توظيف الفن بعيدا عن قاعات العرض يعزز الانتماء للفنان «فإذا مر بميدان أو شارع يحتضن أعماله يشعر وكأن هذا المكان قطعة منه، وهناك مساحات ومناطق لم تستغل بعد فنيا».

التجربة برأي إسماعيل كلها إيجابيات «الناس توقفني في الشارع لتشكرني، كما أن وزيرة النقل النمساوية زارتنا أثناء العمل بالورشة ومكثت بجانبنا وقتا طويلا وناقشتنا في كل التفاصيل، وقالت إنها فخورة بما يحدث».

نجاح فكرة قطار الفن السريع بأصابع سامح إسماعيل وتوماس موك أغرى الجميع بتكرار التجربة، ويملك إسماعيل بداخله أفكارا ثرية منها تخصيص قطار كامل لشباب الفنانين مع 12 فنانا أوروبيا لتقديم إنتاج مشترك يثري الواقع الفني ويغيره للأجمل، كما تلقى دعوة للرسم على القطارات في النمسا بعد انبهارهم بما حدث في القاهرة وهناك بحسب تعبيره سينتهز الفرصة ويعبر عن ثقافة بلده وأصالتها وقيمها، «لتغيير الصورة النمطية عن مجتمعاتنا السمحة التي تشوهت بفعل عوامل عديدة».