السياح يمشون على خطى مشاهد الفيديو كليب في لبنان

عندما يتحول الفن لخدمة السياحة

TT

«الجميزة»... «البردوني»...«فاريا وثلجها»... «بحيرة عيون السمك»... «تلفريك حريصا»...«صخرة الروشة»... «وسط بيروت». هذه الاسماء تعود الى أماكن شكلت بعضاً من المناطق التي جذبت اهتمام السائحين الى لبنان من خلال الفيديو كليب لأشهر الفنانين والفنانات. ذلك ان المشاهد المرافقة للأغنيات الناجحة تجاوزت وظيفتها في الترويج للعمل الفني لتلعب دورا مضاعفا وتكرس بذلك ما يسمى «السياحة الفنية» من خلال الكلمة والصورة. قد يعتبر البعض اننا نتحدث عن تسويق من نوع آخر. لكن الاقبال الجماهيري على أغنية مصورة يؤدي بتلقائية الى أهداف أبعد، تحمل في طياتها معطيات كفيلة بنقل صورة تخدم في المجال السياحي. لكن، وقبل اطلاق الأغنيات صوتا وصورة، كان للأغنيات اللبنانية بكلامها الوصفي المتقن في زمن الفن الجميل والراقي، دورها لتنقل هذه الصورة من خلال إطلاق العنان لمخيلة المستمع ليعرف البلد، لا سيما من لم تطأ قدماه أرض لبنان. من فيروز وصباح الى وديع الصافي وزكي ناصيف...كلها اسماء نجوم تمكنوا من خلال اغنياتهم نقل الرسالة، وتحديدا عندما يتناول موضوع الاغنية حالة وجدانية، فلا يرتبط بفعل التسويق المباشر. من «عالبنان لاقينا اشتقنا وطالت غيبتنا» الى «قمر مشغرة» ويا «جبل الشيخ يا قطر الندي، حبيبي بكير لعندك غدي» و«يا حجل صنين بالعلالي ويا حجل صنين يا حجل. خبّر الحلوين على حالي خبّر الحلوين يا حجل»، وصولا الى «جايين يا ارز الجبل جايين اشتقنا لجبل نيحا لجبل صنين»... الى «يا قلبي لا تتعب قلبك وبحبك علطول بحبك. نروح كتير ونغيب كتير وبنرجع على ادراج بعلبك». ولم يغب التراث عن هذه الأغنيات التي أطلقت العنان لتعداد الطقوس اللبنانية ولا سيما منها الفلكلور والدبكة التي غنى لها وديع الصافي «عالدبكة قوموا...».

كذلك في ايام عزّ السينما اللبنانية والمصرية في القرن الماضي كان لبنان رمزا للحظات السعادة وتمضية شهر العسل... لترتبط السعادة وسيرة الحب والعواطف الملتهبة بشجرة صنوبر من هنا وأرزة من هناك وبحر ونوادٍ ليلية ورقص وفرح ومازات لبنانية... وطبعا بحضور المعالم والمواقع الاثرية التي مثلت مجتمعة بطاقة تعريف سياحية بلبنان ومناطقه. فلبنان لطالما كان محطة تحبها الكاميرا وتسعى الى مشاهد يليق بها تصوير أجمل مقاطع الأفلام العربية ولا سيما المصرية منها. ولم يقتصر الامر على الفن العربي، فالاخوة «لوميير» من أهم رواد السينما العالمية، حضرا وصورا وتحدثا عن لعبة الضوء والظلال في المناطق التي تتميز بجمالها. ولا ننسى ان غالبية كبار الفنانين في الزمن الجميل وجدوا في ربوع لبنان خلفية مكملة لأغنيات ومشاهد درامية لا تزال قيد التدوال، من عبد الحليم حافظ ونادية لطفي و«الهوى هوايا» في «أبي فوق الشجرة» الى عمر الشريف وفاتن حمامة في «نهر الحب» الى فريد الاطرش وميرفت أمين وزبيدة ثروت وأكثر من فيلم وأغنية، اشهرها «حبينا» مع كيغام وفرقة «كركلا» الاستعراضية، مرورا بالجيل الأقرب مع حسين فهمي ونجلاء فتحي في «دمي ودموعي وابتسامتي»، وما الى ذلك من أفلام لا تعد ولا تحصى أدى فيها الممثلون أدوارا متنوعة في مناطق لبنانية مختلفة. وكان الهدف منها دائما تصوير لبنان على انه بلد الحياة والفرح الدائم الذي يستحق الزيارة وتمضية أجمل الأوقات فيه. تطوّر الفن وتغيّرت موازينه ولكن المكان بقي نفسه من دون تغيير أو تبديل، هو لبنان الذي بات أرضا خصبة تحتضن الكاميرات من كل العالم العربي لتترك بصمة طبيعته على جمال الصورة والمشهد. واليوم صارت المناطق اللبنانية الحاضر الأبرز في معظم الأغنيات المصورة التي جال مخرجوها على عاصمة لبنان وشماله وجنوبه وجباله ليتسابقوا على اصطياد الموقع الملائم لتصوير مشاهد الأغنيات فيه. منذ أن بدأت هذه الظاهرة وكانت المناطق اللبنانية محط أنظار المخرجين والمطربين على حد سواء. حتى أن التقاط المناطق الملائمة للتصوير صار من المهمات الصعبة التي تتطلب دقة في الاختيار بغض النظر عن ارتباط كلمات الأغنية بالوطن أو عدمها.

اغنية بعد أغنية، ازداد الطلب على المكونات الفنية الطبيعية التي تغني عن أحدث تقنيات الاضاءة، كما يشير المخرج سعيد الماروق الذي أخرج عشرات الكليبات في كل المناطق اللبنانية. ويقول:«اضافة الى طبيعته الجميلة، يعتبر لبنان استديو مفتوحا بتغير طقس فصوله الأربعة، التي يتميّز كل منها بطبيعة مختلفة ومميزة تعطينا أنقى صورة وأفضل اضاءة طبيعية. من البحر والجبل والثلج والنهر والبحيرة والسماء الصافية في الربيع وأوراق الأشجار الصفراء في الخريف... كلها ايحاءات تترك روائعها صفاء وجمالا في الصورة». ويؤكد الماروق أنه رغم تصوير مئات الكليبات في مختلف الأراضي اللبنانية لا تزال هناك أمكنة ومناطق مجهولة توازي بجمالها أهم المناطق العالمية، وهذا ما يكتشفه في كل مرة يبحث فيها عن مواقع جديدة لتصوير فكرة فيديو كليب. ويذكر حادثة حصلت معه في تصوير أغنية «احساس جديد» لنانسي عجرم حين طلب من الفريق المسؤول عن مواقع التصوير أيجاد بحيرة لتصوير المشاهد، وكان له ما تمنى، اذ وقع الاختيار على «بحيرة عيون السمك» في شمال لبنان، حيث صوّرت اجمل المشاهد التي ساهمت الى حد كبير في نجاح الأغنية. أما الغريب في الأمر، أنه اضافة الى الاستفسارات التي تلقاها الماروق من لبنانيين وعرب على حد سواء عن مكان هذا الموقع الرائع، كانت المفاجأة ان الأمن العام اللبناني رفض الموافقة على الكليب بحجة أن هذه المشاهد صورت في الخارج لأنه ليس هناك مثل هذه البحيرة في لبنان، الأمر الذي دفعه الى احضار أوراق رسمية من البلدية في المنطقة تثبت ان هذه المشاهد صورت على بحيرة في منطقة لبنانية شمالية ليحصل على موافقة الامن العام. ويشير الماروق الى أن صغر مساحة لبنان وقرب المناطق من بعضها التي تسهّل عملية الانتقال من موقع الى آخر في وقت قصير هما عامل اضافي ساهم في تسهيل هذه المهمة، ويقول:«لا نبالغ في القول اذا شبهنا لبنان باستوديو هوليوودي. من البقاع الى الشمال والجنوب اضافة الى المحميات الطبيعية ووسط بيروت الذي لم يبقَ فنان لبناني وعربي الا صوّر فيه مشاهد لأغنياته... كلها مواقع مميزة صوّرت فيها عشرات الكليبات ونجح المخرجون في اظهار كل مشهد على أنه مختلف ولا يمت الى الثاني بصلة». ويلاحظ المراقب لهذه الأغنيات المصوّرة في لبنان أنها لم تكتف بالاستفادة من المناطق لنقل صورة لبنان، بل ان أبرز ما دخل على الخط هي التراث والتقاليد اللبنانية من الأعراس والعلاقات العائلية التي تصوّر في بعض مشاهد الأغنيات، لا سيما الفلكلور والدبكة التي بدت فصولها واضحة مثلا في أغنية «علوّاه» للفنان اللبناني ملحم زين الذي جال بأعضاء فرقة الدبكة مرتدين الشروال اللبناني في محمية الأرز ومتفرعات شارع الحمرا، الذي كان بدوره عنوان أغنية الفنان اللبناني فارس كرم «شفتك بشارع الحمرا» حيث صوّرت ايضا بعض مشاهدها. ولا يختلف رأي المخرج عادل سرحان عن رأي زميله الماروق في نظرته الى أهمية الكليبات في الترويج الى السياحة في لبنان ويقول:«المناطق اللبنانية تبقى هدف المطربين العرب الذين يأتون الى لبنان لتصوير أغنياتهم». ويضيف:«تناسب الطبيعة اللبنانية محور الفكرة بغض النظر عن موضوع الأغنية وكلماتها. ليصبح همّ الفنان الوحيد الظهور في مناطق جميلة وخارجية. وخير ما يلبي لهم هذا الطلب هي المناطق اللبنانية التي تجمع بين الطبيعة الخضراء والبحر والثلج... وهنا تبرز حرفية كل مخرج ومهنيته في التفنّن والتقاط الصورة. لكن رغم ذلك يبقى أن هناك مناطق وأمكنة معينة رائعة الجمال وفريدة من نوعها نكتشفها يوميا في لبنان ولا تزال تنتظر أن يلقى الضوء عليها والتصوير فيها». ويعتبر أن جمالية الصورة اللبنانية تظهر كاملة ولا تحتاج الى عناء العمل على الاضاءة، بل ان صفاء الصورة التي تظهر عبر الشاشة هو ليس من صنع الاشخاص انما يعكس قدرة الخالق في تركيبة هذه الألوان الطبيعية الصافية. ويشير الى أن ذروة جمالية التصوير في المناطق اللبنانية تكون في فصل الربيع حين يكون الطقس معتدلا والطبيعة صافية، الأمر الذي يدفع الفنانين والمخرجين الى التهافت على اصطياد المواقع والتصوير في أماكن مميزة».

ولا يحصر سرحان أهمية المواقع اللبنانية في منطقة دون اخرى، ويقول:«كل منطقة لها خصوصيتها، لكن تبقى مناطق معينة لها ألفتها الخاصة مع الصورة وتفي بالغرض المطلوب اكثر من غيرها. أهمها البقاع بشكل عام وبعلبك وعنجر والارز وعيون السيمان والجبل، لا سيما بحمدون وصوفر وعاليه، من دون ان ننسى وسط بيروت والجميزة اللتين كانت لهما حصة الاسد في تصوير الكليبات». من جهتها تؤكّد المرشدة السياحية اللبنانية بيتا أبو جودة أهمية الافلام والأغنيات المصورة في لعب دور بطاقة التعريف عن لبنان، وتقول «معظم السياح العرب الذين يقصدون لبنان بهدف السياحة يطلبون منا زيارة المناطق التي شاهدوها عبر الشاشة ولا سيما في الأفلام والأغنيات المصوّرة، وأهم تلك الامكنة هي منطقة وسط بيروت التي يصرون على تسميتها سوليدير، خاصة في السنوات الاخيرة بعدما كانت هذه المنطقة محط أنظار الاعلام والفن على حد سواء. وتحظى مغارة جعيتا ومنطقة الروشة والتيليفريك في منطقة جونية التي لا يغادر السياح لبنان من دون أن يعرّجوا اليها على اعتبار أنها المنطقة التي صوّر فيها عبد الحليم حافظ ونادية لطفي مشاهد من فيلم «أبي فوق الشجرة». من دون أن ننسى طبعا كل المناطق والمعالم الأثرية التي لطالما ظهرت في افلام عربية وأغنيات مصورة اضافة الى مناطق الثلج، خاصة الأرز وفاريا».