فيينا.. تترجم الأعياد في أسواقها المفتوحة

سحر خاص ورونق لا يقاوم

قصر بيلفيرير في فيينا تزينه اضواء أعياد الميلاد («الشرق الأوسط»)
TT

من بازل الى جنيف، ومن بروكسل، الى مدن هولندية عديدة، ومن نورمبرغ ببافاريا الى شوارع كولون، تبدع المدن الاوروبية، في الاحتفال بأسواقها المخصصة لأعياد الميلاد. لكن وبشهادة الكثيرين تظل اسواق العاصمة النمساوية فيينا، الاكثر رومانسية.

كتب التاريخ من جانبها، تشير إلى ان الامبراطور البرخت عام 1296، اصدر مرسوما يسمح لتجار المدينة بتنظيم سوق ديسمبر (كانون الاول) من كل عام، لتوفير احتياجات سكان مدينة فيينا "نوارة الامبراطورية وقرة عينيها" بكل ما يحتاجونه من مواد، استعدادا للاحتفال بأعياد الميلاد، ثم ومع الايام، زادت شهرة ذلك السوق، واصبح يعرف باسم  Christkindlmarkt ومع مرور الأيام والسنين توسع هذا السوق وانتشر، وتعددت معروضاته، الا انها ما تزال ملتزمة بحاجيات الاعياد، وترتبط بها.

 تبدأ تلك الاسواق عموما في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني)، بعد الرابع والعشرين من ديسمبر (كانون الاول) أي بعد عيد الميلاد مباشرة.

في احصاء اخير تبين أن اكثر من 55% من السياح الذين يزورون النمسا في فصل الشتاء، يعتبرون اسواق الميلاد اكثر المواقع السياحية رومانسية لقضاء فترة الاعياد. ومن جانبنا نبدأ بتقديم نصيحة مهمة للاستمتاع بتلك الاسواق. الا وهي الحرص على زيارتها بعد ان يتسلح الزائر بأسلحة ومعدات من نوع خاص جدا، وحتى لا تنصرف الاذهان بعيدا، فان تلك الاسلحة، لا تخرج عن كونها ملابس شتوية ثقيلة، من قمة الرأس لأخمص القدمين، فتلك الاسواق تقام عادة في ساحات واسعة مفتوحة، مع درجات حرارة تحت الصفر ورياح قوية. وفي الواقع يعطي البرد رونقا خاصا لتلك الاسواق المفتوحة خاصة عندما يتساقط الثلج، فلا بد من معطف يمنح الدفء ويوقيك الصقيع الذي يتسرب الى العظام، وقفازات، وقبعة، من دون أن ننسى الحذاء الشتوي المريح. وهنا تبدأ الرحلة الفعلية، فتلك الاماكن تعبق برائحة القرفة والقرنفل وعامرة بالحلويات والمخبوزات، والمشروبات الساخنة، وحيثما نظرت تجد امامك زينة تلمع، ووراءك لمبات مضيئة، وحولك اطفال فرحون، يغنون اغاني الميلاد، والحب يشعشع بين الجميع، واحساس جميل وهادئ بالراحة والاطمئنان، عندما تزور اسواق العيد ينتابك شعور بالغبطة ولو لم يكن هدفك من الزيارة الشراء، على عكس زيارة أي سوق آخر في أي وقت من أيام السنة، فأسواق العيد تتميز بأجواء جميلة أهمها الالفة والمحبة والفرح المرسوم على وجوه الزوار  .

تنظم في فيينا سنويا اكثر من 9 اسواق كبيرة في مواقع مختلفة، يمكن الوصول اليها عبر المواصلات العامة بسهولة، وتقدم الفنادق خرائط مفصلة تبين وجهة السير اليها، والجميل في الامر، قرب الاسواق من بعضها بعضا، لذا لن يحتاج الزائر الى سيارة.

كما توفر بعض الفنادق رحلات خاصة، بسعر معقول، لزيارة اكثر من سوق مع قضاء ليلتين بالمدينة، بالاضافة لتوفير زيارة لبعض المواقع السياحية الاخرى .

لكل سوق نكهة خاصة يكتسبها من موقعه وحجمه ومعروضاته ومنتجاته، وبالتالي وهذا من شأنه تحديد نوع الزوار.

هناك اسواق يقصدها السياح أكثر من اهل البلد، واسواق تفضلها النساء، وأخرى تناسب الشباب لانها تتميز بموسيقى صاخبة حديثة، أما بالنسبة للاطفال فسيفرحون في أي منها.

وعلى سبيل المثال فان اكبر الاسواق واشهرها على الاطلاق هو سوق المجلس البلدي، المقام بمبنى البلدية "الرات هاوس" واهميته تعود لأهمية الموقع وتاريخه ونوع زواره، خاصة وانه قد اصبح قبلة اوروبية للتجار الذين يقصدونه لشراء زخارف وحلويات اعياد الميلاد بالجملة. هذا السوق يتم افتتاحه اول سبت بعد 15 نوفمبر (تشرين الثاني) ويستمر حتى 24 ديسمبر(كانون الاول). يفتتحه كل عام عمدة فيينا ضمن حفل رسمي بصحبة كبار الزوار والدبلوماسيين والاهالي. وهذا الحفل الذي تنقله مختلف وسائل الإعلام يكون انذارا بحلول الاعياد وموسم البهجة المرافق لها.

في موسم العيد في فيينا تتحول اكبر ساحات المدينة، اي ساحة الرات هاوس لسوق عامر، كما تخصص البلدية اكبر قاعاتها لاستضافة فعاليات مختلفة ترتبط بالاعياد، مثل تحويل قاعة الاحتفالات، بكل ضخامتها وفخامتها وعراقتها وتاريخها وثرياتها وصورها ولوحاتها، الى مخبز كبير مجهز بكل اللوازم يتيح الفرصة امام الصغار للخبز والطهي.  ويتوسط السوق، شجرة عيد ميلاد خاصة جدا بكل المقاييس، يتم اختيارها سنويا بعد منافسة جادة بين اقاليم النمسا التسعة لاختيار اجمل شجرة يطلقون عليها اسم "شجرة القلوب"  لتصبح "الشجرة الاولى" او ملكة جمال اشجار النمسا، للاحتفال بأعياد الميلاد. وفي ذلك تتنافس الاقاليم بشدة، لتبرز خضرة ونضار وجمال اشجارها عارضة لأكثرها خصوبة، واطولها عمرا، وارتواء من مياه طبيعية، ما يعكس مدى اهتمام سلطات ومواطني كل اقليم بالحفاظ على غاباتهم، وثروتهم النباتية. شجرة هذا العام تم اختيارها من قرية فوستن هوف، منطقة شني بيرغ، بإقليم النمسا السفلى. طولها 27 مترا، وعمرها 170 عاما. ومسايرة واهتماما بضرورة الحفاظ على البيئة، والحد من اثار التغير المناخي، تم تزيينها هذا العام بـ 1500 مصباح، من نوع خاص لا يضر بالبيئة. ليس ذلك فحسب، بل تم التشديد ان تلتزم كل المحال التجارية، بتزيين واجهاتها بمصابيح مشابهة. من جانب آخر، تم الالتزام بما دأب عليه السوق منذ سنوات، بالحرص على عدم بيع اية العاب حربية للاطفال من زوار السوق، الذين ينتظرونه طيلة العام، ويزورنه اكثر من مرة، بل مرات متكررة مع ذويهم، وبصحبة مدرسيهم ورفقائهم، اذ تحرص المدارس، على عدم تفويت تلك الفرصة المحببة لتلاميذهم، بالاستمتاع بزيارته.  ويعتبر السوق، وهو عبارة عن اكشاك خشبية مميزة، بالإضافة لبعض الطاولات العالية "استاندز"، فرصة لتناول الاطعمة الشعبية من كل الاقاليم النمساوية، بالاضافة لعدد من الدول الاخرى، بما في ذلك دول مثل: الفلبين وتركيا، ونيجيريا، وباكستان والمانيا واندونيسيا، كما يوفر كذلك كميات مهولة من الحلويات والمشروبات الساخنة، بالإضافة لأطعمة تباع طازجة كالبطاطس المحمرة وانواع السجق المختلفة،  اذ تصاحبها اجواء شديدة البرودة، بالإضافة للرياح التي تهب من كل الانحاء لكونها مفتوحة لا تحيطه اسوار او حواجز. من جانب اخر يتمتع زوار السوق من الاطفال بالمراجيح ومختلف الالعاب الاخرى، ويستمتعون بأغاني العيد والموسيقى الصداحة في السوق. كما يوفر للجميع فرصا واسعة لشراء العاب، وهدايا خاصة بأعياد الميلاد بما في ذلك ادوات زينة، ومجوهرات، وقطع أثرية ومنحوتات خشبية، ومصنوعات زجاجية بأسعار معقولة جدا.       ومن اشهر الاسواق الاخرى، السوق الذي يقام من 22 نوفمبر الى 26 ديسمبر، بالساحة الامامية لقصر الشونبرون، الذي كان المقر الصيفي لاباطرة الهابسبرغ، وفيه عاشت الامبراطورة ماري انطوانيت، ابنة الامبراطورة ماريا تريزا التي يقال انها تمكنت من مصاهرة العائلات الاوروبية المالكة بفلذات اكبادها، وانجبت 16 طفلا، 11 منهم بنات و 5 أولاد ، اشهرهم ماري انطوانيت، التي نقلت لفرنسا نسخة من تصميم الشونبرون. وهذا هو السر في التشابه الواضح بين الشونبرون وقصر فرساي .

 يكتسب هذا السوق رونقا خاصا بحكم وجوده عند مدخل هذا القصر الرائع، ويستمد جماله من حديقته العامرة ونوافيره الانيقة، وتحرص العائلات على تخصيص يوم كامل لزيارته، يبدأ بزيارة حديقة الحيوانات، ثم جولة في القصر نفسه لتختتم اليوم بالاستمتاع بسوقه والحلة التي يلبسها بمناسبة العيد .

وهناك سوق آخر يستضيفه قصر البلفدير، بالمنطقة الرابعة. والبلفدير يعتبر من ارقى القصور بفيينا خاصة وانه اصبح موقعا معروفا لاستضافة الكثير من المعارض الخاصة باللوحات الفنية الخالدة.

ومن اكثر الاسواق هدوءا، سوقا منطقة ام هوف والفرايونق، وكلاهما من ارقى احياء المنطقة الاولى يعرضان المصنوعات الخشبية ومجموعات من الكتب النادرة، والعملات والمجوهرات والاواني المصنوعة من البورسيلين الصيني.

من جانب آخر يمتاز سوق منطقة سبيلبيرغ، بكونه موزعا بين ازقة المنطقة المتعرجة، وزقاقاتها الضيقة، وتفوح منه رائحة التاريخ والتقاليد، حيث مصنوعات السيراميك، والمخبوزات المنزلية. اما سوق منطقة كوبنزل على اطراف فيينا في حدود المنطقة 19،  فيقع مرتفعا وسط غابات فيينا الخضراء، رافعا شعار البقاء للطبيعة، حيث المنتجات العضوية صديقة البيئة، وحلقات الزحلقة التي تقام كل سبت، بالاضافة لكميات شهية من المأكولات والمشويات، والبضائع المنمنمة الملونة، والشمعية، واخرى مصنوعة من الازهار المجففة، وعصارات الورود للزينة، وللعناية بالجسد، ولتعطير المنازل وتزيينها وتبادلها كهدايا تبقى طويلا.