سانت كاترين.. صومعة مفعمة بالسكينة

عنوان للراحة النفسية والتأمل

TT

جو من الروحانية والسكينة يغمرك حين تطأ قدماك دروبها الضيقة، ويتحول هذا الجو إلى أنشودة حين تتنسم طبيعتها الخلابة وتصعد جبلها العريق الذي كلم الله سبحانه وتعالى من عليه نبيه موسى عليه السلام.. أنت إذن في مدينة سانت كاترين المصرية الواقعة في قلب جنوب شبه جزيرة سيناء على بعد 300 كم من قناة السويس أحد أغنى وأكبر المحميات الطبيعية في مصر. توجت سانت كاترين هذا الجو بشهرتها الدينية العالمية، كما ساهمت هذه الشهرة في أن تتبوأ مكانها ضمن أفضل 30 منطقة للتراث الإنساني على مستوى العالم، لتصبح بذلك مصدر جذب دائم لآلاف السائحين يتوافدون عليها من شتى بلدان العالم.

هذه الأهمية السياحية والبيئية لمدينة سانت كاترين جعلت الحكومة المصرية تضعها على أجندة أولوياتها من حيث الدعم والرعاية. يقول محمد هاني متولي محافظ جنوب سيناء إن الحكومة أولت رعاية للمنطقة لتتناسب مع الأهمية السياحية والتاريخية والبيئية بها، وبدا ذلك في العديد من الخطط والمشروعات لتطوير المدينة. بدا هذا واضحا مع إقامة معرض عالمي دائم للمنتجات البيئية بسانت كاترين يتضمن المشغولات اليدوية للمرأة السيناوية والمنتجات الطبيعية التي تشتهر بها المدينة، أيضا تم أخيرا إقامة متحف للتاريخ الطبيعي بمدينة سانت كاترين بعد اختيارها ضمن أهم مناطق التراث الإنساني في العالم. وأضاف المحافظ إنه يقام بالمدينة حاليا مشروع زراعة أكثر من 25 صنفا من الأعشاب الطبية النادرة، ويساهم في تمويل هذا المشروع الاتحاد الأوروبي بعد أن أكدت الدراسات أن هذه الأعشاب غير موجودة في أماكن أخرى بالعالم. وكانت السلطات البيئية بمصر أعلنت منذ عام 1996 منطقة‏ ‏سانت‏ ‏كاترين‏ ‏الممتدة‏ ‏على ‏مساحة ‏4350‏ كيلو مترا‏، محمية‏ ‏طبيعية.

تحتوي محمية سانت كاترين ‏على العديد من الأشجار المعمرة، وبها تنوع‏ ‏نباتي‏ ‏يجذب‏ ‏السائحين‏ ‏حيث‏ ‏توجد‏ ‏أنواع‏ ‏نادرة‏ من النباتات الطبية، إضافة إلى واحة‏ ‏فيران‏ ‏التي ‏تتضمن ‏ما يقرب من 30 ألف نخلة. تتميز المحمية أيضا‏ ‏بكثرة‏ ‏وديانها‏، وبها ‏أول‏ ‏فندق‏ ‏بيئي‏ ‏نموذجي‏ ‏في‏ ‏مصر‏ ‏بوادي‏ ‏غربة‏، ‏وتنتشر‏ ‏بها‏ ‏آبار‏ ‏المياه‏ ‏العذبة‏، ‏وعدد‏ ‏من‏ ‏الثدييات‏ ‏النادرة‏ ‏والتكوينات‏ ‏الجيولوجية‏ ‏المتميزة‏.  تزخر منطقة سانت كاترين بالعديد من الحيوانات البرية مثل الثعالب والضباع والغزلان والوعول والأرانب البرية والذئاب والقنفذ العربي والفأر الشوكي والجربوع، والعديد من الزواحف مثل الطريشة ،وكذلك أنواع شتى من الطيور أهمها اللقلق والنسر والصقر والعقاب والعوسق والشنار والقطا المتوج والقمري وبومة بتلر والقنبرة والأبلق والتمير والغراب والعصفور والنعار والدرسة. تعد سانت كاترين أعلى الأماكن المأهولة في سيناء حيث تقع على هضبة ترتفع 1600 متر فوق سطح البحر، وتحيط بها مجموعة جبال هي الأعلى في سيناء بل في مصر كلها.أعلاها قمة جبل كاترين وجبل موسى وجبل الصفصافة وغيرها، ويعمل معظم سكان المدينة بالزراعة، وبعضهم بالرعي، والبعض الآخر يعمل بالسياحة سواء في المدينة نفسها أو في سياحة السفاري في الأودية والجبال المحيطة بها.

إضافة إلى كل هذا تعتبر سانت كاترين من المناطق الأثرية البكر في عرف العاملين في مجال التنقيب عن الآثار، وكما يقول الدكتور محمد عبد المقصود مدير قطاع الآثار المصرية: هناك بعثة تابعة للمجلس الأعلى للآثار المصرية تقوم حاليا بأعمال التنقيب عن الآثار بهذه المنطقة وتم بالفعل اكتشاف العديد من الآثار التاريخية التي تزيد من أهمية المنطقة تاريخيا وتجتذب السياح، لافتا إلى أنه في ابريل (نيسان) الماضي تم اكتشاف معصرة تعود إلى العصر البيزنطي ويقدر عمرها بـ 1400 عام بمنطقة "سيل التفاحة" بجبل عباس غرب مدينة سانت كاترين.  تتكون المعصرة من حوضين الأول عبارة عن حوض مربع مبني من الأحجار المحلية ،عليه أثر  للون وردي، وتعلو بعض الأجزاء من جدرانه بلاطات من الآجر المحروق وتميل أرضية الحوض إلى الشمال قليلا حيث تنتهي  بماسورة من الفخار.  أما الجزء الثاني من المعصرة فهو عبارة عن حوض آخر دائري الشكل مثل البئر ذي فوهة في آخره تصل إلى مستوى سطح الحوض الأول كما وجد على حوافه العلوية 3 مناطق شبه دائرية منخفضة من جهة الحوض الأول ومرتفعة من  الجهات الأخرى.  وإضافة إلى المساجد والمعالم الإسلامية التي تزخر بها المدينة، يعد دير سانت كاترين من أشهر وأعظم الآثار المسيحية في مصر والعالم ويجتذب الآلاف من محبي السياحة الدينية بالمنطقة. كما كانت منطقة سيناء منذ العصور المسيحية الأولى أحد أهم مناطق الجذب للرهبان، وقد أقام هؤلاء الرهبان العديد من الأديرة والكنائس في أودية سيناء، أشهر ما بقى منها دير "طور سيناء " المعروف باسم دير سانت كاترين.

وحسب المراجع التاريخية يعود بناء الدير إلى القرن الرابع الميلادي عندما أمرت ببنائه الإمبراطورة هيلانه والدة الإمبراطور قسطنطين سنة 432م ثم أكمل في عهد الإمبراطور جوستينيان سنة 545 ميلادية ليكون معقلاً لرهبان سيناء وقد سمي في العصور التالية باسم "دير القديسة كاترين" من شهداء الإسكندرية لرؤية رآها أحد الرهبان في منامه بأنها نقلت إلى هذا الموضع فتم نقل رفاتها  بناءً على ذلك وأطلق اسمها على الدير وعلى المنطقة كلها.

وفي العهد الإسلامي ومع دخول الإسلام مصر أمر عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين وقتها بعدم المساس بالدير والرهبان لما له من مكانة لدى الأقباط.. ويقع الدير أسفل جبل سيناء وإلى الغرب من الدير يوجد وادي الراحة، وللدير سور يحيط بعدة أبنية داخلية متراصة بعضها فوق بعض، يصل ارتفاعها أحياناً إلى 4 طوابق تخترقها ممرات ودهاليز معوجة. وتؤكد الدراسات الأثرية أن بناء الدير يشبه حصون القرون الوسطى، وسوره مشيد بأحجار الغرانيت وبه أبراج في الأركان، ويبلغ ارتفاع أسواره بين 12 و 15 متراً وتتراوح أطـوال أضلاعـه ما بين 117، 80، 77 متراً تقريباً.

 وأهم مباني الدير الكنيسة الكبرى ، وكنيسة العليقة، وكنيسة الموتى ،ومسجد الحاكم بأمر الله، والمسجد القديم ، والمكتبة بالإضافة إلى قلاية الرهبان، ومعصرة وطاحونتين ومخازن حبوب ومؤن وآبار للمياه . ويرجع الكثير من شهرة دير سانت كاترين إلى مكتبته الغنية بالمخطوطات وتقع في الطبقة الثالثة من بناء قديم جنوب الكنيسة الكبرى، وتضم المكتبة إلى جانب المخطوطات النادرة عدداً من الوثائق والفرمانات التي أعطاها الخلفاء والحكام للدير، أشهرها ما يقال بأنه وثيقة من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يعطي فيها الأمان للدير والرهبان والوثيقة على نحو ما يعتقد كتبها عمر بن الخطاب. والمكتبة عبارة عن ثلاث غرف في صف واحد، تضم آلاف المخطوطات الأثرية باللغات العربية واليونانية والسريانية ويبلغ عدد المخطوطات بها 6 آلاف مخطوط نادر، من بينها مخطوطات تاريخية وجغرافية وفلسفية إضافة إلى نحو ألفي وثيقة وفرمان أعطاها الولاة للدير ومعظمها من العصر الفاطمي.