منشقون من كوريا الشمالية يحاربون النظام بالمناطيد

لي مين بوك يرسل آلاف النشرات عبر الحدود من كوريا الجنوبية.. أملاً بتنوير مواطني بلاده

TT

في يوم من أيام ديسمبر (كانون الأول) الممطرة، جلس لي مين بوك على الأرض الباردة بالقرب من الحدود الكورية الشمالية يتفحص المعلومات على جهاز الحاسب المحمول الخاص به. كان مين بوك يتفحص صور الأقمار الصناعية الخاصة بالأحوال الجوية لاختيار البقعة المناسبة لكي يرسل منها مناطيده، وعندما استقر على الموقع المحدد، انطلق هو ومساعده بسيارتهما المتداعية المحملة بعشرين حاوية من الغاز، وانطلقوا باتجاه الغرب.

كانت الشاحنة محملة باسطوانات الغاز، وكان مين بوك ومساعده كيم غارقين في صمت تام لم يتحدثا طوال الطريق، ربما لأنهما منشغلين بأفكارهما الخاصة. وقبل أقل من ميل على الحدود وضعوا السيارة إلى جوار مقبرة لكنيسة صغيرة ثم بدأوا في ملء المناطيد البلاستيكية بالهيليوم لتصل في النهاية إلى 36 قدمًا من المناطيد تتأرجح في الهواء وتناضل الحبال وكأنها تتوق إلى التحرر.

تفحص لي البوصلة لتحديد المكان ثم أعاد مراجعة بياناته على الخرائط. وربط الحقيبة البلاستيكية المليئة بآلاف من النشرات الدعائية وضبط المؤقت وانتظر اللحظة والرياح المناسبة.

طار البالون الأول بهدوء ليدخل وسط الغيوم الرمادية المتوجهة إلى كوريا الشمالية. التقط لي الصور وقام بأداء بعض الصلوات. وقال: «لا أحد يمكنه أن يمنع ذلك، فتلك الطائرات لا يمكن أن يتعقبها الرادار وهي رسل رائعة».

لي متخصص في علم الأرصاد، ومخترع ومعارض سياسي مهوس بهدف واحد وهو بث الروح في أولئك الذين لا يزالون في كوريا الشمالية. 23 مليونا من مواطني دولته لا يزالون يرزحون تحت وطأة حكم كيم يونغ إيل. ولكي يصل إلى ذلك المجتمع المنعزل المحروم من الصحف الخارجية والإذاعة والتلفزيون، يستخدم هذا المنشق أسلوبًا بسيطًا للهروب من رادارات كوريا الشمالية لإرسال ملايين المنشورات إلى الجزء الشمالي من الكوريتين عبر مناطيد الهيليوم.

في هذا العصر الذي يتميز بالتكنولوجيا، أصابت المناطيد التي يرسلها لي والمطلقون الآخرون بيونغ يانغ بالغضب الشديد، وأصبحت مثار مناقشات في العلاقات السياسية المتحفظة بين الكوريتين. وقد أعلنت كوريا الشمالية الأسبوع الماضي أن عدم قدرة سيول على التحكم في عمليات الإطلاق هذه التي يقوم بها المعارضون الكوريون وجماعات الحقوق المدنية، كانت سببا رئيسا في إغلاق الحدود ومنع السياح وخفض التجارة. وكان التوتر بين الدولتين قد زادت حدته العام الماضي، خاصة بعد انتخاب الرئيس المحافظ أي ميونغ باك في فبراير (شباط) كرئيس لكوريا الجنوبية. وقالت إدارة لي التي تنتهج خطًا متشددًا تجاه بيونغ يانغ أنها عاجزة عن وقف حملات إطلاق المنشورات.

يقول المحللون إن النشرات مكتوبة بلغة بسيطة من كوريين شماليين يعرفون الثقافة الكورية وأي أزرار سياسي عليهم الضغط عليها. والمنشورات التي يبعث بها لي مؤسس اتحاد المنشقين المسيحيين الكوريين الشماليين، تتميز بطابع ديني لكنها تمتد إلى الحاكم الذي يشار إليه بـ«أبو الدولة» (سيدي القائد)، ويقول في واحدة من تلك المنشورات التي تشير إلى كيم «أعزائي الكوريين الشماليين.. إذا فهل هذا هو القائد الذي يأكل عصيدة الأرز مع شعبه؟ من أين أتت له كل تلك الشحوم على جسده إذا كان يأكل عصيدة الأرز مع شعبه؟ لماذا تنفق الدولة ببذخ على المثير من متطلبات يونج إيل والكوريون يتضورون جوعاً». ويسعى مسؤولو كوريا الشمالية إلى إيجاد طرق لمنع عمليات إطلاق المناطيد التي يقال إنها تعرض الهدنة الهشة بين الدولتين إلى الخطر. ويبدي الكثير من الأكاديميين موافقتهم حول هذا الامر، ويتساءل بايك هاك سون مدير مركز دراسات كوريا الشمالية في معهد سيونج بكوريا الجنوبية: «إذا لم يوقفوا إرسال هذه المناطيد فإن العلاقات بين الكوريتين ستتعرض للتخريب».

وقد بدأت اشارات «سيدي القائد» تظهر مع لي في التسعينيات خلال المجاعة التي قتلت عشرات الآلاف في كوريا الشمالية. كان لي يعمل عالمًا زراعيًا في بيونغ يانغ وأرسل حينها الكثير من الخطابات إلى النظام الحاكم يدافع عن ضرورة أن ينتهج المسؤولون النظام الصيني ويفتحوا المجتمع على التجارة الخارجية للقضاء على المجاعة.

لم تلق خطاباته آذانًا مصغية، لذلك قرر الهرب مطلقًا زوجته حتى لا تتعرض للتعذيب بعد رحيله كما ترك خلفه ابنًا صغيرًا». لجأ لي أولا إلى الصين لكنه تعرض للقبض عليه ثم أعيد إلى كوريا الشمالية ليدخل السجن ثم يتمكن في عام 1995 من الهروب من أكثر المناطق الحدودية صعوبة في العالم إلى كوريا الجنوبية. قضي أعوامًا في هذا المجتمع الحر يحاول تقويم حياته ثم تزوج مرة أخرى ورزق بطفل آخر. وفي عام 2004 وافقت الكوريتان على وقف عقود من الحملات العدائية التي تضمنت إطلاق المنشورات وتوجيه مكبرات صوت عبر الحدود.

أغضبت الهدنة التي وقعت بين الكوريتين لي، وقرر الاستمرار في إطلاق تلك المنشورات على نفقته الخاصة، وبدأ في دراسة علم الرياح. فشلت الجهود الأولى التي قام بها، ثم اشترى مناطيد الحفلات وربط منشورات في كل منها وصارت كل المناطيد مسافة قصيرة قبل أن تسقط مرة أخرى إلى الأرض. اشترى مناطيد أكبر وثبت فيها مجموعة أكبر من المنشورات وطور مؤقتًا نظاما أكثر بساطة يفتح الحقيبة التي تحوي المنشورات حسب توقيت محدد.

عمل في بادئ الأمر بصورة سرية كي يتجنب الشرطة وسقطت أولى المنشورات في نهر هان في كوريا الجنوبية، واستقرت أخرى على مروج بلو هاوس منزل الرئيس الكوري الجنوبي.

لكنه تحسن مع مرور الوقت. فلي الآن وغيره يصدرون عشرات ملايين المنشورات كل عام إلى كوريا الشمالية. وليس من المدهش معرفة مدى حنق المسؤولين في كوريا الشمالية بشأن هذه المنشورات. ويقول ماركوس نولاند وهو عالم شمالي كوري في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن: "إن بيونغ يانغ قد أصيبت بالسكتة». ويستطرد قائلا: «هناك أخطاء داخل النظام. وهم يعلمون تماما ما يقولون وكيف يقولون. وبالنسبة لبيونغ يانغ، فإنهم يضعون السكين ويقومون بليّه». مع اقترابهما من الحدود يشعر لي وكيم بشعور عاطفي طاغ. ويكادان يشمان رائحة وطنهما. لكنهما يركزان على ما يقومان به. يقول لي: «عندما أفشل في إرسال مجموعة من المناطيد، فإنني أشعر وكأني قد فقدت طفلا لي»، ومع انتهاء مهمتهما، ينظر لي وكيم إلى السماء ويضحكان كأنهما تلميذان في المدرسة ويأكلان بعض فطائر التفاح. ومثلما هي الحال مع المناطيد التي ارتفعت إلى السماء، فإن روحهما المعنوية ترتفع كذلك. ويقول لي إن المنشورات الملقاة تعتبر شيئا جميلا يستحق المشاهدة. إنها تشبه السحابة المطيرة التي تمطر على أصدقائه في كوريا الشمالية ...بعد دقائق، ما زال لي ينظر إلى الأفق. وبعد ذلك يرى آخر مناطيد أرسلها وكان مجموعتين صغيرتين على مرمى البصر. ويصيح لي: "أها. ها هي! إنها فوق كوريا الشمالية! اذهبي! اذهبي! وأطلقي الكلمات!».