الجامع الأموي يواجه خطر «الحمام»

نساء دمشقيات يعتبرن إطعامه بركة تجلب الخير

أطفال في صحن الجامع الأموي يجمعن القمح ليقدموه للحمام («الشرق الأوسط»)
TT

منذ مئات السنين تستقطب باحة الجامع الأموي الشهير بالعاصمة السورية دمشق، وكذلك صحنه الكبير وجدرانه وأعمدته وأقواسه ومقرنصاته الأثرية، نوعاً من الحمام الجميل يسميه الدمشقيون «ستيتيّات». وقد اعتاد زوار الجامع وخصوصاً الأطفال منهم على مداعبة هذه الحمائم، وتقديم الحبوب كالقمح لها، لا سيما، وأنها تنجذب إليهم عندما يقدمون لها الطعام.

وعبر السنين تحوّلت عادة إطعام «ستيتيات» الجامع الأموي إلى تقليد يومي للعديد من النساء الدمشقيات اللواتي يعتبرن أن إطعام هذه الطيور بركة ويجلب الخير لهن ولأسرهن. كما أنهن يعتقدن أن وجود هذه الطيور في هذا المكان يعطي رعايتها نوعاً من الروحانية. غير أنه لدى المباشرة بمشروع ترميم كبير وشامل للجامع الأموي في أواخر تسعينيات القرن الماضي لاحظ المعماريون ومسؤولو الجامع أن هذه الطيور باتت تؤثر سلباً على عمارة الجامع التاريخية من خلال ما تتركه من مخلّفات على أماكن وقوفها ونومها بين زوايا الأعمدة والجدران والنوافذ والأقواس. ولذا أطلقت دعوات عديدة لإخراج هذه الطيور وترحيلها عن الجامع، وبالذات من صحنه الواسع، حيث اعتاد الأطفال والنساء على إطعامها وسط الصحن وفي الباحة الواسعة. بل أن هذه الطيور بدأت تنجذب إلى ساحة المسكية المجاورة للجامع والمواجهة له من جهة الغرب، حيث تفصله عن سوق الحميدية والأعمدة الرومانية الأثرية. وكانت ساحة المسكية قد رمّمت قبل ثلاث سنوات وأقيم فيها بحرة (بركة) كبيرة جميلة وسبيل ماء واسع يضم مناهل عديدة. وبالتالي، بدأت طيور الجامع تنجذب إلى الساحة، وخاصة إلى بحرة الماء، عندما تكون المياه فيها متدفقة من النوافير، حين يشاهد الزائر والسائح منظراً بديعاً لمئات الحمائم وهي تغط في الماء خاصة في الأيام الحارة، لكنها يتوقف تدفق الماء تغادر عائدة إلى الجامع أو إلى الجدران الخارجية منه وإلى مآذنه الثلاث وقبته الكبيرة حيث تعشش هناك وتنام. الدكتور طلال عقيلي، المعماري السوري المعروف وعميد كلية العمارة السابق بجامعة دمشق، الذي أعد كتاباً موسوعياً عن الجامع الأموي احتفل بإطلاقه تزامناً مع «احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية للعام 2008» كان من أشدّ المطالبين بترحيل طيور الجامع من داخله، وله في هذا الطلب أسباب كثيرة يشرحها لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «الجامع الأموي آبدة معمارية مهمة جداً وأحجاره تعود إلى ما قبل بناء الجامع، إذ تعود هذه الأحجار إلى مرحلة بناء معبد جوبيتر الروماني الدمشقي. فجدران الجامع الخارجية وبعض جدرانه الداخلية يعود عمرها لأكثر من ألفي سنة، والأحجار فيها رملية كلسية تتأثر كثيراً بالملوّثات البيئية ومنها ملوثات السيارات والمازوت والعوادم وغيرها، كما تتأثر سلبياً أيضاً بالملوّثات العضوية مثل زرق الحمام. ومع أن الحمام كان موجوداً في محيط الجامع منذ عشرات السنين بشهادة المؤرخين، فإن أعداده تكاثرت جداً. ومع أن هذا الحمام يتمتع عند عامة الناس بصفة روحانية وعاطفية، فالحقيقة أن هذه الطيور استقرت في الجامع ولم تترك نافذة ولا فجوة ولا درجا من درجات المآذن الثلاث إلا واستقرت فيها وباضت وفرخّت، وخلّفت الزرق الذي هو مادة عضوية مضرة جداً بالأحجار لأنها تنخرها وتأكلها في الصميم». ويتابع الدكتور عقيلي «في البلدان الأخرى عالجوا مشكلة مبيت الحمام في الأماكن المعمارية الأثرية من خلال وضع شبك خاص وأشرطة من الأشواك الحديدية على البروزات التي يقف عليها الحمام بحيث لن يتمكن من المبيت عليها وترك مخلّفاته المضرة، وهذا ما لم نتمكن من تحقيقه في الجامع الأموي حتى الآن. ومشكلة الحمام لا تقتصر اليوم على صحن الجامع فقط، بل تمتد إلى حرم الجامع والمصلى من الداخل اللذين أصبحا مرتعا لهذه الطيور، حتى أن مخلفاتها تتساقط على السجاد، ولذا اعتمد مبدأ «تطفيش» الحمام بحيث يذهب من الجامع إلى خارجه. ولكن مع هذا ما زال كثيرون، ولا سيما من السيدات الدمشقيات وأطفالهن يأتون كل يوم عصراً حاملين أكياساً من القمح الذي يرشونه على أرض الجامع للحمام من دون إدراك لحجم المشكلة من الناحية المعمارية». ثم قال «نحن حريصون على المحافظة على الجامع، وحالياً مرتع الحمام في الجهة الغربية بساحة المسكية، وهي ساحة يمكن للحمام أن يعيش فيها ويطير، ويمكن للزائر والسائح أيضاً أن يتمتع بمنظر الحمام وهو يشرب من مناهل المياه. لكنني أرى ضرورة إيجاد وسيلة لإبعاد هذه الطيور عن السطوح الجانبية والفجوات ودرجات المآذن في الجامع لأن بقاءها سيؤدي بالتأكيد إلى ضرر ومع تراكم هذا الضرر ستتأذى عمارة الجامع، وبالأخص الفسيفساء الجميلة والنادرة، التي تضر بها كثيراً حموضة مخلفات الحمام والمواد العضوية الأخرى فيه».