البوسنة: اتفاقية دايتون عمقت انقساماتها.. ولا عطل رسمية تجمع مواطنيها

مخاوف من تجدد الصراعات العرقية وصولا إلى حرب أهلية جديدة

TT

بعد ثلاثة عشر عاما من توسط الولايات المتحدة لعقد اتفاق سلام في دايتون لإنهاء الصراع العرقي العنيف في يوغسلافيا السابقة، تزداد المخاوف من أن البوسنة، التي تعاني من الفقر والانقسامات، تنزلق نحو الأزمة مجددا.

وتبدو هذه العاصمة، التي ما زالت مساجدها القديمة وكنائسها الأرثوذكسية تتعرض لقذائف المدافع، وكأنها تمر بمرحلة نهضة. ويملأ أصحاب المهن من الشباب المقاهي الأنيقة والمراكز التجارية المتلألئة بينما ينادي المؤذن بأذان الفجر. ما زالت أشباح سربرنيتشا تخيم على المكان، لتذكر بأسوأ مجزرة تحدث في أوروبا من الحرب العالمية الثانية، ولكن يفضل سكان سراييفو الحديث عن الرئيس المنتخب باراك أوباما أو الأزمة المالية العالمية.

ولكن لأول مرة منذ أعوام، يتطرق الحديث إلى احتمال نشوب حرب أخرى بسبب الانقسام العرقي في البوسنة، التي كانت إحدى الجمهوريات اليوغسلافية السابقة التي قسمتها اتفاقية دايتون إلى كيانين: اتحاد فيدرالي للمسلمين الكروات وجمهورية صربية.

وكان التوتر يخيم على اتفاقية المشاركة في السلطة بين العدوين السابقين. ولكن في الوقت الحالي، تعقدت الأحوال السلمية غير المستقرة بإعلان كوسوفو الاستقلال عن الصرب في فبراير (شباط)، ما يقلق الكثيرين هنا من أن تحذو الجمهورية الصربية حذوها، مما يسقط المنطقة في صراع قد يصبح مميتا.

وقد حذر كل من ريتشارد هولبروك، مسؤول إدارة كلينتون الذي توسط في اتفاقية دايتون، وبادي آشداون، الدبلوماسي الغربي السابق رفيع المستوى في البوسنة، أخيرا في رسالة علنية نشرت في عدد من الصحف، حيث قالا: «لقد حان الوقت للانتباه إلى البوسنة مجددا، إذا كنا لا نريد أن تتعقد الأمور سريعا. في الوقت الحالي، يعرف العالم كله ثمن ذلك».

لقد حققت اتفاقية السلام، التي تم التفاوض من أجلها في قاعدة للقوات الجوية الأميركية بالقرب من دايتون في أوهايو في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1995، هدفها بإنهاء حرب وحشية استمرت لمدة ثلاثة أعوام ونصف العام، وقتل فيها حوالي 100.000 شخص، غالبيتهم من المسلمين. وتشرد مليون من المسلمين والصرب والكروات من منازلهم، بينما دمرت معظم البنية التحتية في البلاد.

ولكن رسخ النظام السياسي اللامركزي الذي وضعته اتفاقية دايتون من الخلافات العرقية بدلا من معالجتها وحتى في المجتمعات التي يعيش فيها الصرب والمسلمون والكروات، يختار البعض أن يرسلوا أبناءهم إلى المدارس نفسها ولكن في فترات مختلفة.

وينشغل قادة الدولة بالخلافات ما يعوق البوسنة عن التقدم. وقد وقع في مأزق تبادل الاتهامات كل من حارث سيلايديتش، وهو ممثل عن المسلمين في رئاسة الدولة المكونة من ثلاثة أعضاء، ورئيس الوزراء الصربي البوسني ميلوراد دوديك، الذي يجد تأييدا من روسيا وصربيا، والذي يمثل تهديدا بإمكانية انشقاق جمهوريته.

وتظل البوسنة، التي حصلت على أكثر من 18 مليار دولار في صورة مساعدات أجنبية منذ عام 1995، تحت حراسة من الغرب، حيث يحفظ أمنها نحو 2.000 جندي من قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي.

وحذر سريكو لاتال، المتخصص في شؤون البوسنة في شبكة تحقيقات البلقان الإخبارية، في تصويره لأسوأ سيناريو متوقع، من أنه إذا أعلنت الجمهورية الصربية استقلالها، سترد كرواتيا بإرسال قواتها، بينما سيلجأ مسلمو البوسنة إلى استخدام أسلحتهم. وإذا سقطت بانيا لوكا عاصمة الجمهورية الصربية، ستستفز صربيا من أجل الدخول في النزاع، ما يؤدي إلى احتمال نشوب حرب إقليمية.

وأعرب القادة في البوسنة عن أملهم في أن أوباما سيكون أكثر اهتماما بقضية البوسنة من الرئيس بوش، مع التأكيد على أن الخلفية متعددة الثقافات التي يتحلى بها الرئيس المنتخب تجعل منه شخصا مثاليا من أجل التوسط للوصول إلى حل.

وعلى الرغم من أن البوسنة ذكرت في خطأ ارتكبته وزيرة الخارجية المحتملة السيناتور هيلاري كلينتون في حملتها الانتخابية، إلا أن الكثيرين هنا متفائلون من أنها ستمنح اهتماما كبيرا لإنقاذ اتفاقية دايتون بوصفها من تراث الرئيس السابق بيل كلينتون.

ويقول المحللون إن احتمالات تحقيق الاستقرار في البوسنة قد تزيد مع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن التقدم ليس مشجعا. وفي تقرير عن مدى استعداد البوسنة للانضمام إلى الكتلة الأوروبية، حذرت المفوضية الأوروبية في نوفمبر (تشرين الثاني) من أن «أسلوب الخطاب المثير للفوضى أثر على نحو عكسي على فعالية الهيئات وأبطأ من الإصلاح»، بينما وصل الفساد والجريمة المنظمة إلى درجة كبيرة.

ويشعر العالم بالقلق حول استقرار البوسنة، حيث مد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فترة عمل مبعوثه رفيع المستوى في البوسنة، والذي كان من المفترض أن يغادرها في العام الحالي، حتى يونيو (حزيران). وصرح المبعوث ميروسلاف لاجاك بقوله: «الوضع السياسي صعب ومتفجر وغير مستقر، ولكنه لا يعوق حفظ الأمن. ولا يمكن استبعاد العنف، ولكني لا أرى احتمالا لنشوب حرب أخرى».

ويقول قادة جميع الأطراف إنه من أجل تقدم البلاد، يجب إصلاح الهيكل الذي وضعته اتفاقية دايتون. ولكل من كياني الدولة برلمان خاص، وهناك 10 سلطات إقليمية، كل لها قوة شرطة وسلطات تعليمية وصحية وقضائية خاصة بها.

والنتيجة هي نظام شديد التعقيد يديره 160 وزيرا وتنظيما يلتهم 50 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الذي يبلغ 15 مليار دولار، وفقا لتقارير البنك الدولي.

وبينما من الصعب حل هذا التعقيد البيروقراطي، فإن إقناع قادة الدولة بتنحية خلافاتهم الأساسية جانبا سيكون أصعب كثيرا. في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2007، مرت الدولة بواحدة من أصعب أزماتها السياسية عندما تظاهر صرب البوسنة ضد نظام اقتراع جديد يهدف إلى منع السياسيين من عرقلة جهود الإصلاح الكبرى بمجرد عدم حضورهم في الاجتماعات.

وخوفا من هزيمتها أمام الجماعات العرقية الأخرى بموجب القوانين الجديدة، رفضت الجمهورية الصربية الإجراءات وهدد دوديك بانسحاب ممثلي حزبه من جميع الهيئات البوسنية. وانتهت الأزمة أخيرا بعد منح بعض الامتيازات لصرب البوسنة، وكافأ الاتحاد الأوروبي البلاد باتفاقية لتقوية العلاقات معها.

وفي يوغسلافيا السابقة، كانت حياة الصرب والكروات والمسلمين متداخلة على مدى 45 عاما في تزاوج غير معتاد في مدن كبرى مثل سراييفو. ولكن يقول دوديك إن تفكك الدولة القديمة، والحرب التي تلتها دمر التفاؤل الذي كان يشعر به حيال كيفية اتخاذ المجموعات العرقية المختلفة قرارات مصيرية تتعلق ببعضها البعض ويقول: «البوسنة دولة مقسمة، ولا يوجد لها احتفال واحد أو حتى عطلة واحدة، ما عدا الاحتفال بحلول العام الجديد أو عيد العمال».

* خدمة «نيويورك تايمز»